عودة المغتربين اللبنانيين هذا الصيف بين قلق وإصرار

لم يتردّد عبد طرّاف، الذي يعمل في نيجيريا، عن القدوم إلى لبنان وقضاء عطلة الصيف مع عائلته في بلدة النجّاريّة (الزهراني- صيدا)، على الرغم من ارتفاع أسعار التذاكر، وسوء الوضع الأمنيّ في الجنوب، وقِصر مدّة إجازته بسبب عمله في مجال التسويق. طرّاف يفضّل اغتنام عطلته وقضاءها في لبنان، يقول لـ “مناطق نت”: “في كلّ فرصة أنزل، على الأقلّ مرّة بالصيفيّة ومرّة بالشتويّة. بالنسبة إليّ، القعدة مع أهلي وأصحابي بتسوى الدني”.
تُظهر أرقام مطار رفيق الحريري الدوليّ نبضًا حيويًّا لأجواء الصيف اللبنانيّ. ووفقًا لتصريحات رئيس نقابة أصحاب مكاتب السياحة والسفر، جان عبّود، فإنّ المطار يستقبل يوميًّا بين 17 و18 ألف وافد، معظمهم من المغتربين، وهو رقم يعكس تحسّنًا ملحوظًا مقارنةً مع السنوات السابقة. وعلى الرغم من تبعات الوضع الأمنيّ غير المستقرّ، فإنّ هذه الأرقام لا تُمثّل مجرّد حركة مرور، بل تعبّر عن رغبة اللبنانيّين في الحفاظ على روابطهم العائليّة والاجتماعيّة التي تشدّهم إلى وطنهم الأمّ مهما ابتعدوا.
بين الحرب والأمل
أتى محمّد حلال من فرنسا لقضاء فصل الصيف مع عائلته في بلدة الكفور (النبطية)، يقول في حديث لـ “مناطق نت”: “معظم أصدقائي أرسلوا عائلاتهم إلى لبنان، وجلّهم من الجنوب، وعائلتي أيضًا في الجنوب”. ويضيف: “كيف ما كان الوضع، مع أهلي أحسن ما كون بعيد. نحنا أقوى من الظروف، هيدي مش أوّل حرب منعيشها. جينا لنظهر وننبسط”.

موقف محمّد ينسجم مع آراء كثيرين يؤكّدون أنّ زيارتهم إلى لبنان ليست مجرّد رحلة، بل رسالة أمل وإصرار على البقاء والاحتفال بالحياة على رغم كلّ الصعاب.
صيفٌ في زمن الحرب
كالعادة، وفي كلّ إجازة مدرسيّة لابنها، تزور لمى حمدان، المقيمة في ألمانيا، أهلها في بلدة كفرملكي شرق صيدا. تقول لـ “مناطق نت”: “بعد الحرب، كان بالي مشغولًا على أهلي، ونزلت إلى لبنان مباشرة بعد وقف إطلاق النار. للأسف، كانت أصعب مرحلة أمرّ بها في حياتي. كان القصف قريبًا جدًا من بيت أهلي، وكنت خائفة على ابني الذي لم يكن قد بلغ الخامسة من عمره”.
تتابع: “مع تصاعد الغارات على الجنوب، نزلنا إلى منزلنا في الضاحية على اعتبار أنّها أكثر أمانًا، ولكن للأسف، جاء التحذير بالقرب من المبنى الذي نسكن فيه هناك”.
تتحسّر لمى وتضيف: “أتذكّر جيّدًا كيف كان الناس يتوافدون ويطلبون من السيّارات العابرة أن تُقلّهم معها. منذ حرب تمّوز (يوليو)، لم أعِش رعبًا كهذا”.
ترفض غادة، والدة لمى، أن تعود ابنتها خلال الصيف، وتنصحها بتأجيل زيارتها إلى السنة المقبلة، فـ “حتّى اليوم، الوضع غير مستقرّ، وبأيّ لحظة يمكن أن تتفاقم الأمور. لا أستطيع أن أتحمّل مسؤوليّتها ومسؤوليّة ابنها”.
سالم: على رغم مشقّة السفر من كندا إلى لبنان مع أطفال صغار، قرّبت موعد سفري حفاظًا على سلامة أولادي النفسيّة والجسديّة
أمّا إسماعيل، زوج لمى، فقد أتى إلى لبنان وحيدًا ليقضي عطلته الصيفيّة مع عائلته وأصدقائه. يقول لـ “مناطق نت”: “كنتُ أتمنّى أن نكون سويًّا، لكنّني أخاف على ابني، ولا أريده أن يسمع أصوات القصف من جديد”.
رحلة موّقتة بظلّ التوتّرات
سحر سالم، زارت لبنان أخيرًا برفقة أولادها، عاشت تجربة قاسية أجبرتها على العودة إلى كندا قبل الموعد المقرّر، بسبب تصاعد التوتّرات الأمنيّة في النبطية الفوقا، حيث يسكن أهلها. تقول لـ “مناطق نت”: “على رغم مشقّة السفر من كندا إلى لبنان مع أطفال صغار، قرّبت موعد سفري حفاظًا على سلامة أولادي النفسيّة والجسديّة. رشقات القصف المتكرّرة والقريبة كانت من أسوأ ما يمكن لأطفالي أن يعيشوه”.
تحزن سحر على تكبّدها تكاليف ومشقّة السفر، إذ لم تقضِ سوى أسبوع واحد في لبنان، وتَأمَل أن يعمّ الأمان في كلّ أرجاء البلد، وتنتهي المعاناة التي لا تزال تواجهها بعض المناطق اللبنانيّة.
بين حنين وخوف
في ظلّ استمرار التوتّر الأمنيّ الذي يضرب الجنوب، قرّرت أماني فحص، من بلدة قبريخا (مرجعيون) والمقيمة في البرازيل، إلغاء زيارتها المعتادة إلى لبنان، حيث كانت تقضي عادةً عطلة المدرسة برفقة أهلها.
جاء قرار أماني تحت ضغط مخاوف والدتها، التي نصحتها بعدم السفر إلى لبنان حفاظًا على سلامتها وسلامة أولادها، خصوصًا وأنّ كثيرًا من الأماكن التي كانت تمثّل لهم ذكريات جميلة، أصبحت اليوم غير آمنة.
وللسبب نفسه، اتّخذ أبو علي ياغي، المقيم في لندن، قرارًا مماثلًا، فألغى سفره إلى لبنان على رغم تعلّقه العميق بوطنه، وبالأماكن التي تُعيده إلى طفولته على ضفاف نهر الليطاني، وشاطئ صور، والمطاعم المحيطة بقلعة الشقيف في أرنون.
هذه الأماكن، التي كان يرتادها بشغف، أصبحت اليوم بعيدة المنال بفعل الأوضاع الأمنيّة الراهنة. يقول لـ “مناطق نت”: “أجّلت سفري إلى السنة المقبلة، لأنّ لبنان بالنسبة لي هو قضاء وقتي مع أهلي، وحاليًّا أجد الحزن يُخيّم على معظم المناطق الجنوبيّة”.
بين الوهم والواقع
فوجئت دنيا، التي تتحدّر من بلدة الناعمة (الشوف) وتعمل في شركة “ميتا” (Meta) في ألمانيا، بالتباين الكبير بين قلق المغتربين في الخارج والواقع على الأرض في لبنان. تقول لـ “مناطق نت”: “اللبنانيّون في ألمانيا أكثر قلقًا من الناس هنا”.
تعتبر دنيا أنّ لبنان أجمل بلد في العالم، فالحياة فيه مختلفة على رغم كلّ الصعوبات، وتحرص على زيارته مرّتين سنويًّا لرؤية أهلها. وتضيف: “بغضّ النظر عن الظروف، نقضي وقتنا على البحر وفي السهرات، وفي العادة لا نتحدّث كثيرًا عن الوضع الأمنيّ”.
عودة المغتربين إلى لبنان هذا الصيف تمثّل دفعة مهمّة لتحريك الاقتصاد اللبنانيّ، لا سيّما قطاع السياحة الذي عانى انتكاسة كبيرة جرّاء الحرب
تأسف دنيا لأنّ بعض المناطق في لبنان لا تزال ترزح تحت أعباء الحرب، بينما هناك مناطق أخرى آمنة تسير فيها الحياة بشكل طبيعيّ.
أمّا إيمان، القادمة من تركيّا لقضاء الصيف مع عائلتها في طرابلس، فتصف وضع وطنها بواقعيّة: “لبنان بالنسبة إليّ منطقتان؛ هناك منطقة لم ولن يحدث فيها شيء، وعلى الجانب الآخر، هناك منطقة لا تزال مدمّرة وتعيش أهوال الحرب”.
توضح إيمان أنّ المغتربين في مناطق الشمال والجبل عادوا بشكل طبيعيّ، والأرقام الكبيرة تفسّر ارتفاع أسعار تذاكر السفر وتكاليف الشاليهات وتأجير السيّارات والفنادق، نتيجة كثافة الطلب. لكن على رغم ذلك، “بيكفّي قعدتك مع أهلك وجيرانك لتنسى كلّ تعب السنة”.
مقاومة الموت تمسّك بالجذور
عودة المغتربين إلى لبنان هذا الصيف تمثّل دفعة مهمّة لتحريك الاقتصاد اللبنانيّ، لا سيّما قطاع السياحة الذي عانى انتكاسة كبيرة جرّاء الحرب. وقد بدأت المسابح الخاصّة والشاليهات استقبال زبائنها مجدّدًا، مع اعتماد أسعار لا تُعتبر رخيصة، تعكس تزايد الطلب.
وعلى رغم ذلك، يفضّل معظم المغتربين قضاء أوقاتهم مع عائلاتهم وأحبّائهم، ممّا يعكس الدافع الأساس للعودة ألا وهو التجمّع الأسريّ والارتباط الوثيق مع الأهل في الوطن.
هذا الخيار يعزّز عودة النشاط الاقتصاديّ إلى المناطق السكنيّة الريفيّة، حيث لا توجد مراكز وفعاليّات سياحيّة بارزة. وعلى رغم تباين الدوافع بين من يعود متحدّيًا خطر الحرب، ومن ينتظر استقرار الأوضاع، وبين من يوازن الكلف العالية بشوق اللقاء، تتقاطع آراء المغتربين عند حقيقة واحدة: “العودة إلى الوطن صيفًا ليست ترفًا موقتًا، بل هي مقاومة يوميّة للحياة، وتمسّك بجذور لا يقتلعها الغياب”.