عيد الفصح في القرى عادات وطقوس محمّلة بالرموز

حين يجيء عيد الفصح، لا يأتي كذكرى فقط، بل على نحو عودة رمزية إلى أصل الزمن، إلى لحظة أولى تأسيسيّة، كما لو أنّ قيامة المسيح لا تزال تحدث في اللحظة ذاتها، ويُعاد تمثيلها في جسد الجماعة وذاكرة الأرض.
في القرى اللبنانية، لا يُعاش الفصح كحدث عابر، بل كطقس كونيّ، يدخل البيوت ويحوّلها إلى معابد، يحلّ في المطبخ مثلما يحلّ في الكنيسة، في أصابع النساء وهي تلفّ المعمول، وفي خطى الشيوخ وهم يتّبعون درب الصليب فوق التلال.
إربعة أيّوب.. خميس الأسرار
البداية تكون في “إربعة أيّوب”، الأربعاء الذي يسبق خميس الأسرار، والذي تُحيطه اعتقادات قديمة، “إذ لا يُعزِّل (ينظّف) فيه الناس بيوتهم، لأنّ النمل سيغزو المكان”، تقول المربّية ريتا نفاع. إنّه يوم خفيف الظلّ، لكنه محفوف بالرهبة، كأنّ الطبيعة تبشّر باقتراب أمر جلل.
ثم يأتي خميس الأسرار يوم العشاء الأخير، حيث تبدأ البيعة- أيّ الصلوات- في تنظيمها بحسب ظروف كلّ ضيعة، توافقًا بين وقت الكاهن والتقليد الشفويّ لأهل البلدة. في هذا اليوم تتحوّل الكنيسة إلى مسرحٍ لذكرى الوداع، ويُغسل أرجل الناس محاكاةً لما فعله المسيح في إعادة مسرحيّة روحيّة لحبّ متواضع.
الجمعة العظيمة.. زمن الألم المحرّم
في الجمعة العظيمة لا يمرّ الزمن كما يمرّ في بقيّة الأيام. إنّه يتوقّف، يُعلّق، كأنّ العالم يلتقط أنفاسه في لحظة حداد كونيّ. تُكفّ الأعمال اليوميّة، لا طبخ ولا زرع ولا بناء، لا بيع ولا شراء. حتّى بيروت على رغم ما أصابها من علمانيّة وتبدّلات اجتماعيّة، ما زالت تحتفظ بشيء من هذه الرهبة، بحسب الممثّلة اللبنانيّة لورين قديح، إذ تؤكّد أنّ “روح الجمعة العظيمة وإن خفت، فإنّها لا تزال تلقي بظلّها على المدينة.”

أمّا في القرى، فالأمر يتعدّى الإيمان الشخصيّ ليغدو عرفًا جماعيًّا، لا تجرؤ فيه الأرواح على كسر الصمت. كلّ عمل دنيويّ يُعدّ فعلًا غير لائق، خيانة رمزيّة لما هو جارٍ في السماء. يُنظر إلى هذا اليوم كأنّه “محرّم مقدّس”، حيث تُغلق الأبواب أمام الحياة اليوميّة وتُفتح فقط لاستقبال الأسى.
مسيرات درب الجلجلة
في المساء حينما يخفت ضوء الشمس، تخرج مسيرات درب الجلجلة. نساء ورجال وأطفال وشيوخ، يتّبعون خطى المسيح ليس كتقليد، بل بعودة مسرحيّة إلى الزمن الأصليّ، من الحكم عليه بالموت إلى اللحظة التي يوضع فيها جسده في القبر. أربع عشرة مرحلة، كلّ واحدة منها تمثّل جرحًا في الذاكرة الجمعية.
على أطراف الضيعة، تُنتقى تلّة- لا يشترط أن تكون عالية، لكن لا بدّ من أن تكون لها رمزيّة “العلوّ”، فهي تحاكي جبل الجلجلة في القدس. هناك على منحدراتها يسير الجمع بتقوى، تتقدّمهم صورة المسيح، يتبعها شباب يحملون شموعًا، وكاهن يتلو الصلوات ونساء يطلقن التراتيل بنبرة متقطّعة بين البكاء والغناء. في كلّ مرحلة، ثمّة وقفة وتأمل، يُتلى “الأبانا” و”السلام عليكِ يا مريم”، ويتردّد في الهواء نشيد الحزن والرجاء.
هذه الطقوس ليست إحياءً لحدث ماضٍ، بل عودة فعليّة إلى زمن أسطوريّ حيث لا فرق بين الأمس واليوم، بين المسيح الأوّل والمسيح الذي فينا، بين جلجلة القدس وتلّة القرية. كلّ قرية في هذا اليوم تصبح أورشليم، وكلّ امرأة تبكي تغدو مريم، وكلّ مسيرة تصير سردًا جديدًا لدراما الخلاص.
كبّة الحزينة ومعمول القيامة
في هذا اليوم، تُطهى أطباق خاصّة مثل كبّة الراهب، أو “كبّة الحيلة”، مصنوعة من برغل ناعم وطحين وزيت- بلا روح وبلا زفر وبلا فرح- إنّها وجبة الصوم وتُدعى في بعض القرى “الزَّنكل” (حين يكوّرونها بأكفّهم) وتنتشر لدى مسيحيّي الساحل، وتتقاطع مع تقاليد السوريّين والعراقيّين.
تقول قديح: “إنّ النساء يعملنها بحزن، يلتقين في جلسة صامتة كأنّ المطبخ نفسه صار مزارًا”. لاحقًا في سبت النور تنقلب النبرة، إنّه العيد. “يوم القيامة”، كما تعبّر هلا حدّاد، إذ يسلق الناس البيض، يلوّنونه ويتكاسرون به رمزًا للقيامة، مثلما دحرج المسيح الصخرة وخرج من القبر. البيض ليس مجرّد طعام، بل استعارة لخلقٍ جديد. الربيع، الرحم، انكسار القشرة إيذانًا بخروج الحياة.
تُطهى أطباق خاصّة مثل كبّة الراهب، أو “كبّة الحيلة”، مصنوعة من برغل ناعم وطحين وزيت- بلا روح وبلا زفر وبلا فرح- إنّها وجبة الصوم وتُدعى في بعض القرى “الزَّنكل”
طقوس الكنائس ووحدة التنوّع
تختلف طقوس الكنائس، فالموارنة لا يزورون سبع كنائس مثل الأرثوذكس، ولا يصومون بالصرامة عينها، الأرثوذكس يقطعون كلّ ما فيه روح أو بياض، حتّى السمك في صيام دقيق وقاسٍ، ممتدّ منذ “اثنين الرماد”، حيث يُرسم الصليب على الجباه “اذكر يا إنسان أنّك من التراب وإلى التراب تعود”.
وفي السنوات الأخيرة، بدأت تظهر اجتهادات صيام انتقائيّ، تلائم ظروف العمل والغذاء، وتقلّص حضور الزفر في المدن، بينما ما زال الصوم الطقسيّ صامدًا في الأرياف.
الفصح.. زمن الجماعة والقيامة
مع طلوع أحد القيامة تنبض الكنائس، تهلّ القداديس ليلًا في بعض القرى بعد العاشرة أو منتصف الليل وفق ما يطلبه المصلّون من الكاهن. بعدها يتحوّل الحيّ إلى عرس، يُشوى اللحم على المنقل، أو على الصوبات داخل البيوت في أيّام البرد، البعض يعيّد منذ ظهر السبت والبعض ينتظر الأحد، وتختفي الزهدانيّة التي رافقت الصوم لتُستبدل بعيدٍ يلمّ الشمل، يحيي الموتى رمزيًا.
الفصح، كما تؤكد حداد هو “العيد الكبير”، هو العيد الكونيّ الذي يُبطل موت الزمن، ويعيده إلى نهرٍ من المعنى.
أساطير دخيلة وتحوّلات رمزية
في وسط هذه الطقوس تغزو الرموز الجديدة، الأرنب الذي لا علاقة له بالفصح الشرقيّ، يظهر في الإعلانات، هو رمز للتكاثر في الغرب، تقول حدّاد، وليس للقيامة، وشجرة البيض المستوحاة من شجرة الميلاد هي محاولة مزج لا تنجح، “الشجرة ما بتبيض بيضة”، تقول ضاحكة.
لكنّ هذا التسلل الرمزيّ يعكس شيئًا أعمق، وهو أنّ الطقوس تتغير ولكن تظلّ القرى بأجراسها ونسائها وبيوتها الترابيّة، المسرح الأوّل لتجسيد الأزمنة المقدّسة، كما فهمها مرسيا إلياد، لا كاستعادة للذكرى، بل كفعل دائم لتقديس الحياة.

اتّحاد الأزمنة
في هذا العام، وللمرّة الأولى منذ عقود طويلة، انطبقت المواعيد، وتوحّد عيد الفصح بين الشرق والغرب، كأنّ الساعة الكونيّة أعادت ضبط نفسها، وكأنّ الزمن المكسور منذ مجمع نيقية وانشقاقات الكنائس، قرّر أن يلمّ شتاته ليعبر في نهر واحد. لم تعد القيامة يحتَفَل بها في تاريخين، بل في لحظة واحدة، كما لو أن الزمن التاريخيّ نفسه انحنى احترامًا للزمن المقدّس وسمح له بأن يعبُر.
ليست هذه المصادفة في التواريخ مجرّد تقويم، بل تحمل بعدًا طقسيًّا- كوكبيًّا، إذ تصير الكنائس المختلفة شاهدات على نورٍ واحد، ورنينًا موحَّدًا لأجراس القيامة. في هذا التلاقي يتجلّى ما يمكن تسميته بـ “وحدة الأسرار على رغم اختلاف الأشكال”، ذلك الحلم القديم الذي طمح إليه الآباء، ولم تُتح له فرصة التشكّل إلّا في فترات نادرة.
ففي كلّ سنة سابقة، كان الفصح ينقسم بين عيدين، أحدهما “شرقيّ” يُحتَفل به بتراتيل السريان والبيزنطيّين، والآخر “غربيّ” تتلوه الكنيسة اللاتينيّة بأناشيد الغريغوريّين. وكان هذا الانقسام على الرغم من جمال تنوّعه، يُذكّر دائمًا بأنّ الجسد الواحد ممزّق، وأنّ القبر الفارغ لم يُشاهد بعد من الجميع في اللحظة نفسها.
القيامة رمزًا لإمكانيّة اللقاء
لكن هذا العام، على حد قول هلا حدّاد، “توحّد العيد”، وكأنّ القيامة خرجت من طقسها المحدود لتصير رمزًا حيًّا لإمكانيّة اللقاء. فماذا تعني القيامة في جوهرها إن لم تكن التغلّب على الانفصال؟ ألم تكن الصخرة التي دُحرجت عن القبر، سوى رمز للصخرة التي تفصل بيننا نحن البشر أيضًا؟
هكذا يصبح العيد الموحّد أكثر من مجرّد مناسبة دينيّة؛ يصبح أُفقًا لاهوتيًّا وزمنيًّا يعيد ربط المتشظّي، ليس عبر الاتّفاق على موعد، بل من خلال الاعتراف بسرّ مشترك، يتجلّى في تنوّع الأجساد المصلوبة وقيامتها المختلفة، لكن من نور واحد ومن قبر واحد ومن حياة تنتصر على الشكوك والانشقاق.
القيامة، في هذا السياق، ليست لحظة عابرة في الوجدان المسيحيّ، بل علامة تعالٍ تتجاوز الطقوس نحو الأفق الإنسانيّ الأعمق، أن نعود أبناءَ زمن واحد، ولو ليوم واحد، نحتفل بنهاية الموت، كلٌّ بلغته، كلٌّ بجَرْسه، لكن بروح واحدة لا تعرف الانقسام.