عيزقان وطيون ماتشا وشيا.. الطب الشعبي يخضع للترند
قبل أن يُحدث الطبّ الحديث نقلاته الكبرى في مجالات شتّى، كانت المجتمعات البشريّة، وخصوصًا القرويّة منها، تعيش في تفاعل حميم مع الطبيعة، ليكون الأمر فعل تبادل مادّيّ بين الإنسان وموارد بيئته، وكذلك هي تجربة معقّدة تستند إلى أسس سوسيولوجيّة وانثروبّولوجيّة تعكس تصوّراته عن الصحّة والمرض والشفاء.
الحقل مختبر الطبيعة البدائيّة
في القرى النائية، كان الحقل يُمثّل “مختبرًا” تجريبيًّا، حيث تتحوّل كلّ عشبة وورقة شجر وثمرة، وحتى لبّ النبات، إلى مادّة محتملة للشفاء. وفق منظور علم الاجتماع، فإنّ هذا النشاط يعكس نظامًا اجتماعيًّا قائمًا على التعاون وتناقل المعارف. فالنساء، باعتبارهنّ الحافظات الأوائل لتقاليد الطبّ الشعبيّ، كن يُقمن علاقة متداخلة بين الملاحظة والتجريب والإرشاد المجتمعيّ، ممّا يجعل المعرفة الطبّيّة متاحة بشكل أفقيّ في نطاق الجماعة.
الانثروبّولوجيا تُبرز كيف شكّل هذا النمط من الطبّ الشعبيّ بُعدًا ثقافيًّا وهويّةً مميّزة للمجتمع. فكلّ نبات في الطبيعة كان يُفسّر ضمن سياق ثقافيّ؛ الصعتر (الزعتر) ليس فقط عشبة طبّيّة، بل رمز للصمود والقوّة. لم يكن “الجرجير” مجرّد غذاء، بل محفّزًا للطاقة ومقوّيًا للمناعة. هكذا، تُظهر المجتمعات القرويّة قدرة استثنائيّة على دمج المعرفة العلميّة الخام مع دلالات رمزيّة موروثة، حيث يصبح العلاج تجربة مزدوجة: بيولوجيّة ونفسيّة.
الصيدليّة الخام
كانت “الميرميّة” تُعرف بلقب “حكيم النساء”، إذ استُخدمت لتخفيف آلام الدورة الشهريّة وانقطاع الدورة، وكذلك شُرب محلول أوراقها لعلاج اضطرابات الجهاز الهضميّ والتهابات الحلق (الفمّ)، وأضيفت إلى ماء الاستحمام لتخفيف آلام العضلات. أمّا “الزوفة”، فاعتُبرت مطهّرًا طبيعيًّا للجهاز التنفّسيّ، إذ استُخدمت لعلاج السعال والربو، وأحيانًا كانت تُحرق كبخّور لتطهير الهواء.
“البابونج” كان دواء الأعصاب والمعدة، إذ ساعد محلول أزهاره ساخنًا على تهدئة المعدة وعلى النوم، واستُخدمت كمّادات منه لعلاج التهابات العيون. الصعتر البرّيّ، أو “العيزقان”، كان حارس المناعة إذا غُليت أوراقه لتحضير مشروب يعالج نزلات البرد ويخفّف السعال، واستُخدم مضمضة مطهّرة للفم.
أمّا “الزعرور”، فقد كان رمزًا لصحّة القلب، إذ استُعملت أزهاره وثماره لتحسين الدورة الدمويّة وتنظيم دقّات القلب، بينما سُحقت أوراقه الطازجة لتوضع على الجروح كمّادة مضادّة للالتهاب. وعلى رغم تراجع هذه الممارسات التقليديّة أمام تقدّم الطبّ الحديث، لا تزال هذه الأعشاب جزءًا من التراث اللبنانيّ ومرجعًا للعودة إلى الطبيعة كعلاج في كثير من الأحيان.
لدغات وجروح
كان التعامل مع الجروح، الفدوغ، ولدغات الحشرات يعكس فطنة الأهالي إلى استخدام الطبيعة كصيدليّة مفتوحة. عند التعرُّض للجروح، كان البنّ يُعتبر خيارًا أوّل، حيث يُرش مباشرة على الجرح لوقف النزيف وتعقيمه. الثوم أيضًا كان له دور بارز بفضل خصائصه المضادّة للبكتيريا، إذ يُفرك على الجروح أو لدغات الحشرات لتطهيرها ومنع الالتهاب. أمّا “الطيّون”، فقد كانت تستخدم أوراقه المهروسة لبخة تُوضع على الجروح بغية تخفيف التورّم وتهدئة الألم.
وكانت أوراق “الخبّيزة” بنعومتها وخصائصها المهدّئة، تُسحق وتُستعمل كمرهم طبيعيّ لتخفيف الحكّة والتهيّج الناتجين عن لدغات الحشرات أو لمعالجة الخدوش السطحيّة. هذه الممارسات تعكس حكمة المجتمعات التقليديّة في الاستفادة من مواردها الطبيعيّة بطرق عمليّة ومباشرة.
دمج الحسّي بالروحيّ
في تلك الأيام كان الدمج بين المعتقدات الروحانيّة والإجراءات الملموسة ممارسة شائعة لعلاج الأمراض والتعامل مع الحالات الصحّيّة الغامضة، ممّا يعكس مزيجًا غنيًّا من التراث الشعبيّ والدينيّ. ففي مداواة “صيبة العين”، كانت تُستخدم طقوس سكب الرصاص على ظهر المريض أو في إناء من الماء. يُعتقد أنّ الرصاص عند إذابته وصبّه، يتّخذ أشكالًا تكشف “سبب المرض”، في طقس يمزج بين رمزيّة الكشف والتطهير. كذلك، كان للرُّقية الشرعيّة مكانتها، حيث تُتلى آيات قرآنيّة وبسملات على كوب ماء يشربه المريض أو يُرش عليه، أو يضع الراقي يده على رأس المريض ليبثّ فيه طاقة الشفاء الروحانيّة.
أمّا النذور، فقد كانت جزءًا لا يتجزّأ من ممارسات التوسّل والدعاء للخالق طلبًا للشفاء. في جنوب لبنان والبقاع، على سبيل المثال، كانت النساء يتعهّدن بتوزيع الملح أو الخبز و”كعك العبّاس”، في حال شفاء المريض. في بعض الحالات، كان يتمّ تقديم النذور في سياق اجتماعيّ أوسع، مثل دعوة الجيران والأقارب إلى مأدبة طعام يتمّ تحضيرها كجزء من الوفاء بالعهد. وغالبًا ما يتخلّلها طهي “الهريسة”.
هذه الطقوس، التي تجمع بين المادّيّ والروحاني، تعكس فهمًا عميقًا للصحّة والمرض كحالة متداخلة بين الجسد والروح، وهي جزء من هويّة المجتمعات اللبنانيّة التقليديّة.
البدوي “طبيب” الاسنان
وقتذاك كان التعامل مع مشاكل الأسنان يعتمد على حلول بدائيّة تلائم الإمكانات المتوافرة، خصوصًا في غياب أطبّاء الأسنان أو حتّى أدوات متطوّرة. كان “البدويّ”، وهو شخص يجول بين البيوت في القرى والبلدات بزيّ عربيّ، يقوم بدور بدائيّ ولكنّه حيويّ في قلع الأسنان. حمل البدويّ معه مجموعة أدوات بسيطة تشمل كمّاشة صغيرة مصنوعة يدويًّا، وإبرة حديديّة لتنظيف اللثّة أو كشف الأسنان التالفة، بالإضافة إلى مجموعة من الأعشاب والزيوت الطبيعيّة لتخفيف الألم أو تعقيم الفم بعد العمليّة.
لم يكن قلع الأسنان إجراءً طبّيًّا دقيقًا كما هي الحال اليوم، بل عمليّة شاقّة ومؤلمة. غالبًا ما كان البدويّ يطلب من المريض أن يجلس على كرسيّ خشبيّ، بينما يقوم شخصان آخران بإمساك يديه أو رأسه لمنعه من الحركة. تستخدم الكماشة لخلع السنّ بسرعة وبقوّة. أمّا لتعقيم الجرح بعد القلع، فكانت تُستخدم موادّ مثل الرماد الساخن أو مسحوق البنّ، يُرشّ فوق الجرح لتسريع توقّف النزف.
لم يكن قلع الأسنان إجراءً طبّيًّا دقيقًا كما هي الحال اليوم، بل عمليّة شاقّة ومؤلمة. غالبًا ما كان البدويّ يطلب من المريض أن يجلس على كرسيّ خشبيّ، بينما يقوم شخصان آخران بإمساك يديه أو رأسه لمنعه من الحركة.
كان البدويّ يعتمد أيضًا على بعض الحيل للتخفيف من خوف المرضى، وبخاصّة الأطفال. على سبيل المثال، كان يُطلب من المريض أن يُغمض عينيه أو يلتفت جانبًا بحجّة الاستعداد، ليُفاجأ المريض بقلع السن دون سابق إنذار. كذلك كانت تمنح للأطفال بعد القلع قطعة صغيرة من الحلوى، مثل “الملبن”، كمكافأة تهدّئ من روعهم.
من الناحية الثقافيّة، كان هذا الدور للبدويّ يُعتبر جزءًا من الخدمات المجتمعيّة التي كان يُقدّمها الأفراد في بيئة يسودها التكاتف. كانت العائلات تُكرّم البدويّ بالطعام أو تُعطيه بعض المال أو المحاصيل الزراعيّة مقابل خدماته. على الرغم من بساطة هذه الممارسات، فإنّها كانت تعكس مرونة المجتمعات القرويّة في إيجاد حلول لمشكلاتها الصحّيّة بموارد محدودة، ممّا يُبرز قوّة الترابط الاجتماعيّ والاعتماد المتبادل في تلك الأزمنة.
مجبّر الكسور
أيضًا، كان لمجبّر الكسور دور رئيس في المجتمعات القرويّة، وكان يُعتبر شخصًا يُعتمد عليه في معالجة الإصابات المتعلّقة بالعظام، من كسور وانزلاقات أو التواءات. اكتسب مجبّر الكسور مهاراته عبر التعلّم من الممارسة والتجربة، وكان يُعالج الإصابات باستخدام أساليب تقليديّة تجمع بين المعرفة الشعبيةّ والخبرة العمليّة.
عند استدعائه، كان يبدأ بتقييم الكسر من خلال اللمس والتدقيق في موضع الألم لمعرفة طبيعة الإصابة. كان يستخدم ألواحًا خشبيّة رقيقة أو أعواد القصب مع أربطة قماشيّة لإعداد جبيرة تُثبّت العظم المكسور.
من المثير للاهتمام أنّ مجبّر الكسور كان يؤمن بأن عمليّة التجبير ليست مجرّد إجراء مادّيّ، بل طقس يتطلّب التركيز والإيمان. كان يردّد أحيانًا كلمات تشجيعيّة أو أدعية في أثناء العمل، لطمأنة المريض وتخفيف توتّره. بالإضافة إلى ذلك، كان يستعين بمعرفته التشريحيّة التي استقاها من خبراته الطويلة ومن مراقبة الحيوانات، إذ كان يُلاحظ كيف تتعامل الحيوانات مع إصاباتها الطبيعيّة.
التجريب والحدود الأخلاقيّة
لكنّ هذا “العلم القرويّ” لم يكن خاليًا من المخاطر. كثيرًا ما يؤدّي التجريب العشوائيّ إلى نتائج عكسيّة، تبرز حدود المعرفة التقليديّة. من المنظور التطوّريّ، فإنّ هذه الأخطاء لم تُعتبر إخفاقات بقدر ما كانت خطوات نحو فهم أعمق للطبيعة. على المستوى الانثروبّولوجيّ، كان الإيمان بتجربة الأجداد وصمودها في مواجهة الزمن يُكسب المعرفة الشعبيّة شرعيّة لا تقبل الشكّ.
إرث الطبيعة والطبّ الحديث
مع صعود الطبّ الحديث، تراجعت هذه الأساليب لصالح طرق مبنيّة على أدلّة علميّة أكثر صرامة. ومع ذلك، يظلّ الطبّ الشعبيّ مصدرًا غنيًّا للدراسات الحديثة التي تسعى إلى فهم التفاعل بين الإنسان وبيئته الطبيعيّة. ويذكرنا هذا التاريخ بأنّ التجارب العلميّة الكبرى بدأت أوّلًا من التربة، فالحقل، والأعشاب البسيطة التي حملت في طيّاتها أسرار الشفاء. إنّ الحقل كمختبر بدائيّ، يقدّم لنا درسًا مهمًّا كيف يمكن للطبيعة بالإمكانات المتواضعة، أن تُلهم بإنجازات عظيمة في مجال الطبّ.
مع صعود الطبّ الحديث، تراجعت هذه الأساليب لصالح طرق مبنيّة على أدلّة علميّة أكثر صرامة. ومع ذلك، يظلّ الطبّ الشعبيّ مصدرًا غنيًّا للدراسات الحديثة التي تسعى إلى فهم التفاعل بين الإنسان وبيئته الطبيعيّة.
اليوم، تتراجع تلك العادات التقليديّة تدريجًا أمام زحف الطبّ الحديث، الذي أصبح حاضرًا بقوّة في المستشفيات والعيادات والمستوصفات، مدعومًا بتطّور التكنولوجيا الطبّيّة والمعرفة العلميّة. وساهمت الثقافة الطبّيّة العامّة التي تنشرها البرامج التلفزيونيّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ في تعزيز وعي الناس بالصحّة والعلاج، على رغم أنّ بعض هذه المنصّات أحيانًا تُسهم في نشر التباسات أو معلومات غير دقيقة. ومع ذلك، لا تزال بعض الوصفات الشعبيّة القديمة حاضرة في الحياة اليوميّة، خصوصًا بما أثبتته من نجاعة في معالجة مشاكل بسيطة مثل الإمساك والإسهال وآلام الرأس والجروح ولدغات النحل والدمامل. هذه الوصفات برغم بساطتها، تمثّل إرثًا ثقافيًّا وطبّيًّا يستمرّ في الربط بين ماضٍ غنيّ بالتجارب وحاضر يتطلّع إلى العلم الحديث.
شيا وماتشا
اللافت في الأمر اليوم هو ظاهرة استيراد أنماط من الطبّ الشعبيّ الآسيويّ التي باتت تحظى بشعبيّة واسعة في المجتمعات اللبنانيّة، خصوصًا بين الأجيال الشابّة الباحثة عن بدائل طبيعيّة وصحّيّة. من أبرز الأمثلة على ذلك بذور الشيا، التي تُستورد من شرق آسيا وأمريكا الجنوبيّة. أمّا شاي الماتشا الياباني، فقد اكتسب شهرة كبرى بفضل خصائصه المضادّة للأكسدة وتأثيره المهدّئ، وهو الآن يُستهلك على نطاق واسع ليس فقط كمشروب تقليديّ، بل أيضًا كمكوّن في الحلويّات والمخبوزات. هذه المنتجات، على رغم أنّها ليست جزءًا أصيلًا من التراث اللبنانيّ، إلّا أنهّا تُمثّل توجّهًا عالميًّا نحو الاستفادة من الطبّ الشعبيّ العالميّ ودمجه في الحياة اليوميّة.