عيسى اسكندر المعلوف.. عاشق زحلة ومؤرخها
يغلب على شخصية عيسى اسكندر المعلوف (1956 – 1869)، صفة المؤرخ الموسوعي، مع كونه شاعراً وعضواً في المَجامِع اللُّغوية العربية في سوريا ومصر ولبنان، ومساهماً في بناء النهضة الأدبية العربية المعاصرة. عُيِّن في عام 1936 عضوًا في أكاديمية الآداب والتاريخ في “ريو دي جانيرو” (البرازيل)، ثُم عضوًا في المؤتمر العام للأدب العربي بتونس.
ورغم ولادته في قرية “كفرعقاب” المتنية، إلا أنه زحلي الإقامة والهوى، وعائلته الموسّعة تنتسب الى الدوحة المعلوفية في زحلة البقاعية، العائد نسبها الى الغساسنة، وقد أرّخ لها في “دواني القطوف في تاريخ بني معلوف” (1907). هذه العائلة الكريمة “منشؤها الأول حوران والشام وبردى، ثم أخذت عروق منها وأصول في النزوح والنزول والاستيطان حتى هبط نفر عزيز منها زحلة والبردوني، ولا يزال آل المعلوف، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء!”، كما يقول عجاج نويهض في تقديمه للكتاب المكرّس لعيس اسكندر المعلوف بقلم “البدوي الملثم” (القاهرة، 1939).
مارس التعليم طويلاً، في مدارس عدة، فانتُدِبَ في العام 1900 لتدريس آداب اللغة العربية والإنجليزية والرياضيات في الكلية الشرقية في “زحلة”، وأنشأ عامَ 1901 جريدة “المهذب” للطلبة، وأنشأ عامَ 1903 “جمعية النهضة العلمية” للتدريب على الخطابة والبحوث الأدبية، وأسَّسَ عامَ 1909 جريدة “الشرقية” وهي للطلبة أيضاً، وفي عام 1911 أنشأ جريدة “الآثار”.
مؤرخ المدن والعائلات والأنسّاب
أرّخ لمدينة زحلة التي عاش فيها وأحبها، فتناول كلَّ ما يتعلَّق بها من أحوال جغرافية وديموغرافية قديمة وحديثة، منذ تأسيسها في أوائل القرن الثامن عشر وحتى عام 1911 وقت نشر الكتاب، مستعرضاً جميع مراحلها التاريخيَّة بالتفصيل، وكيف نهضت عبر الزمن لتصبح مركزاً اقتصاديًّا وسياحياً وثقافياً مهماً. وقد نشر هذا التاريخ على حلقات في مجلة “زحلة الفتاة” لصاحبها ابراهيم نقولا الراعي، بدءاً من تاريخ حصوله على امتيازها في العام 1910، ومن ثم جُمعت في كتاب أهداه المؤرخ الى “كرام الزحليين، مواطنيّ”، كما كتب في تمهيده.
وكتب عن ” تاريخ الطب عند الأمم القديمة والحديثة”، وهو عبارة عن محاضرتين ألقاهما بالمعهد الطبي في دمشق عام 1911، تناول فيهما تاريخ الطبِّ منذ نشأته بدءًا من المصريين القدماء الذين ابتدعوا التحنيط، مرورًا بالعبرانيين، والفُرس، والهنود، والصينيين، والترك، والأحباش، وصولًا إلى اليونانيين الذين اشتهر منهم “أبقراط” أبو الطب، الذي وضع عدداً كبيراً من المؤلفات المؤسِّسة لعلم الطب، ثمَّ يتناول المعلوف الطب عند الرومان، ثمَّ في عهد المسيحيين والمسلمين. ويُتبع عرضه التاريخيَّ الغني بملحق يوضِّح فيه تعريف الطب وأقسامه وأصوله، وأهمَّ اصطلاحات العلوم الطبية، كما يشرح الأهمية التي تنطوي عليها دراسة الطبِّ والتشريح.
وأرّخ لدمشق من خلال معلم تراثي هو “قصر العظم” ليحفظ وصفه في الذاكرة، بعد أن تعرض لمحن كثيرة، وقد اشتدَّت الحاجةُ إلى ذلك، بعد تعرُّض القصر لتلفٍ كبير إثر احتراق دمشق عام 1926 في حوادث تاريخية مشهورة، وأضاف اليه صوراً فوتوغرافية تشهد على عظمته. وكتب “ترجمة الأمير سيف الدولة بن حمدان” (1927).
أرّخ لمدينة زحلة التي عاش فيها وأحبها، فتناول كلَّ ما يتعلَّق بها من أحوال جغرافية وديموغرافية قديمة وحديثة، منذ تأسيسها في أوائل القرن الثامن عشر وحتى عام 1911 وقت نشر الكتاب
هدف المعلوف في كتابته “تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني” (1934) الذي حكم من العام 1590 الى العام 1635، الى تسليط الضوء على حاكم، اعتبره عظيماً، ناضل مناضلة الأبطال واحتمل اضطهاد الحكومة العثمانية وعمالها له وعرّض نفسه لأخطار كثيرة، ساعياً بكل قواه لاستقلال بلاده وعمرانها والتبسط في الحضارة ورفع منار المعارف والاجتماع. ودعوة المؤرخ لنا “إلى مطالعة هذا الكتاب للتعمق في تاريخ أمير معني رسم على صفحات بلاده تاريخ حافل بالبطولات والإنجازات التي يجب أن تزين تاريخ لبنان وترسم على جبهات أبنائها”.
وحرر المعلوف “الغرر التاريخية في الأسرة اليازجية” (1945)، في جزئين، الأول في تاريخ المشايخ اليازجيين، والثاني في تاريخ أصهارهم وبناتهم وأسباطهم.
وتتبع في عمله الموسوعي المخطوط “الأخبار المروية في تاريخ الأسر الشرقية” في 14 مجلداً (قبل أن يصدر) (وفاقاً للمجلدات المنشورة بعد وفاته بتحقيق وتقديم وتحرير حفيده فواز طرابلسي) أصول أُسر لبنان، ممهداً بمقدمات وتواريخ الشعوب بعامة، وأخباراً عن أسر سورية وفلسطين والأردن والعراق والقبائل العربية ونبذات عن أسر مصر والمغرب. وقد هدف عيسى اسكندر المعلوف من مؤلفه، بحسب التعريف بالعمل، إلى تدوين أكبر قدر من المرويات عن أصول عائلات المشرق العربي وأسباب مهاجرتها وتفرقها وأماكن استيطانها.
لم يكتفِ المعلوف بالمساهمات الكتابية بالمراسلة مع أبناء الأسر أو أعيانها، بل طاف على القرى والبلدات والمدن منقباً عن أصول أسرها وأسباب ارتحالها. ولما كان جغرافياً وآثارياً إلى كونه مؤرخاً، عرف بتلك القرى والبلدات والمدن من كافة تلك الأوجه. ولم يشأ المعلوف أن تقتصر موسوعته على التأريخ لأسر الأعيان والسادة والأشراف ورجال الدين، فسعى للتأريخ لأكبر عدد ممكن من الأسر العامية التي لا تدعي أي نسب شريف أو مرتبة دينية أو مقام اجتماعي، ما ميّزه عن تواريخ الأسر التقليدية السائدة.
تاريخ البقاع وسورية المجوفة
وقد قيّض لمخطوطة “تاريخ البقاع وسورية المجوّفة” المحررة عام 1917 والتي بقيت مفتوحة على الإضافات والتعديل، أن ترى النور محقّقة في العام 2018، على يد الباحثان زهير هواري وابراهيم مهدي، وتصدر عن دار الفارابي. والمعلوف انطلق في تحقيبه معتبراً هذه المنطقة ذات جذر حضاري واحد، منذ المرحلة الوثنية، إلى الأديان السماوية التي عدَّلت وحوَّرت بعض معالمها لتتلاءم مع معتقداتها التوحيدية، وهكذا تحول المعبد الوثني الى كنيسة وبعضها الى مسجد.
ويشمل عمله الموسوعي هذا، كما تُعرّف دار النشر به، مختلف جوانب الحياة فيها، بدءاً من تاريخ الشعوب القديمة التي سكنتها، إلى الأساطير والخرافات والعبادات، وأسماء القرى والمدن والأنهار والجبال ودلالاتها منذ المراحل الوثنية حتى ثلاثينيات القرن العشرين المنصرم.
ويفرد المعلوف صفحات واسعة للمعالم الأثرية، مازجاً بين علمي التاريخ والآثار، متوقفاً عند ما هو معروف منها وما عُثر عليه في القرى والمدن. كما يركز على الجوانب العمرانية والحضارية والاقتصادية والزراعية والتجارية والحرفية والمناجم وغيرها من أوجه النشاط البشري. ومخطوطات عيسى اسكندر المعلوف أكثر من 60 مخطوطاً، وكتبه المنشورة قليلة نسبة اليها وإلى جهده الجبار في التأريخ.
ذكريات الحفيد
يكتب الحفيد فواز طرابلسي في “صورة الفتى بالأحمر – أيام في السلم والحرب” (1997)، عن جده عيسى اسكندر المعلوف، صاحب القامة الممشوقة الطويلة، الذي أفنى عمره بين الكتب، والمكتبة المهيبة في زحلة هي المحور، التي يتصدرها البيتان:
ألا يا مستعير الكتب دعني فإن إعارتي للكتب عارُ
لمحبوبي من الدنيا كتابي وهل أبصرت محبوباً يُعار؟
فقد كان الحفيد صغير السن، يترقب فرصة تهويتها ليدخلها، فالجد عيسى “يعمل في غرفة نومه متربعاً على السرير، باسطاً الكتب والدفاتر والأوراق حوله في فوضى أليفة”، وهو لم يكن يسمح لأحد بلمس كتبه ومخطوطاته النفيسة ذات الأوراق الصفراء، وللمكتبة زائريها من المجتهد الشيعي والشيخ الدرزي والعالم السني ورجال الدين من الطوائف المسيحية كافة وأدباء وكتاب من البلدان العربية، الى المستشرقين الأجانب وطلبة الجامعات.
ويقول أن الجد غادر “التعليم مطلع القرن وتفرغ للأبحاث والكتابة. اذ كان يحمل عصاه كل صباح ويغادر، يجول مشياً على الأقدام في أرض الله الواسعة يقصد ديراً من الأديرة بحثاً عن مرجع يستشيره أو قرية نائية سمع أن فيها موقعاً أثرياً أو كهلاً يحمل رواية تفيد في سد ثغرة في تأريخ واقعة أو في نسب أسرة، أو يزور بيتاً قيل له أن فيه من يقتني مخطوطة نادرة”، وهو لم يرث من جده إلا “الكتب وحب الكتب”.
ولا بد من الإشارة، في المقام الأخير، الى أنه والد النوابغ في الأدب والشعر: “فوزي” و”شفيق” و”رياض”.