عين الحلوة.. الشتات الفلسطيني بطعم النكبة
ما هو الشّتات الفلسطيني؟ ولماذا ارتبطت المخيّمات بفكرة الشّتات نفسه؟ أسئلة تبادرت إلى ذهني لمرّات عديدة وأنا أسكن في إحدى ضواحي صيدا المحاطةً بالمخيّمات، الّتي تبدو للمتأمّل البعيد من إحدى شرفات المدينة الواسعة، مجرّد بيوت مكدّسة، من دون شرفات وبعضها من دون شبابيك.
الشّتات الفلسطينيّ هو أنّ 1948 لم يكن عام النكبة الوحيد، النكبة حدثت مرات عديدة. مرّة في شهر أيلول الأسود، ومرّات في اليرموك، وفي عين الحلوة. هُجر الفلسطينيّون طوال حياتهم، يتوارثون النكبة جيلاً بعد جيل. من عام 1948 حتّى اليوم كلّهم يصِفون فلسطين بالطريقة ذاتها، وكأنّهم عرفوا فلسطين واحدة وشهدوا نكبة واحدة، ولكن الفارق الوحيد أنّ منهم من شهدها في فلسطين الّتي لا يفصلنا عنها إلّا حاجز حدوديّ، والباقون شهدوها لاحقًا في مخيّمات الشتات الفلسطيني.
في حزيران 2013، وبعد حصار مخيم اليرموك بالكامل، وبعد أن شهد ما شهد من مجازر. كان الفلسطينيّون يخرجون من المخيم أفواجًا تجهيزًا للشّتات المتجدّد واللّانهائي. يحكون لي اليوم، كما حكوا سابقًا في العديد من المقابلات التلفزيونيّة، ويصفون خروجهم بالأفواج المشتّتة الّتي لم يعرف فيها الأب أين ابنه، ولم تعرف فيها الأمّ أين أختها. منهم من اختار البحر طريقًا للنّجاة، ومنهم من جرّب البرّ سبيلًا لذلك، ومنهم من بقي في مكانه ومات.
منذ صغري أسكن في صيدا مع عائلتي، قضينا حياتنا نتنقّل داخل المدينة، بين حارة صيدا والمية ومية والهمشري. كنّا دائمًا جيران للمخيّمات الّتي لم نشعر يومًا أنّها كيان منفصل عنّا، ولم نعرف أنّ اسمها مرفوق بكلمة “مخيّم” حتّى. كنت أنظر من منزلنا العالي صوب “عين الحلوة” الّذي لا تفصله عنّا إلا واجهة مستشفى الهمشري، وأفكر أنّه مجرّد حيّ آخر من أحياء صيدا. ولم يبادر والداي ولو لمرّة واحدة، بإرفاق كلمة “مخيّم” قبل لفظ “عين الحلوة” إذا صادف أو تداخل ذكره في أحد أحاديثهم، بل اكتفوا بذكره على أنّه مجرد شارع آخر، مجرّد عين من عيون إحدى حلوات المنطقة.
في صغرنا، نحن الملقّبون بالجيل الجديد لم نعرف قواعد الفصل الّتي تولّدت، نتيجة تاريخ الأجيال الّتي سبقتنا. لم نعرف باجتياح الـ 1982 ولا باشتباكات الـ 2015 ولا بينهما من أحداث حصلت في المخيم، ولا بوجود جماعات مسلّحة تعيش في الأحياء ذاتها التي يسكنها أصدقاؤنا. كانت تجمعنا مدرسة واحدة رسميّة، نحن وأبناء المخيّمات، ندرس مادة التاريخ ذاتها، ونحكي بالعربيّة الفصحى المكسّرة ذاتها، ونعود في الباص ذاته إلى بيوتنا المحاذية لبعضها البعض.
كان هناك دائمًا خيط قويّ يربط صيدا بمخيّماتها، لذلك حين يواجه المخيم أيّة مشكلة تُغلق صيدا شوارعها. ولكن الفارق الوحيد أنّ صيدا اليوم أغلقت شوارعها وأفرغتها من النّاس بسبب الإشتباكات الدموية الحاصلة في مخيم عين الحلوة. بينما في السّابق، وبين عاميّ 2017-2018 وبعدما أقرّ وزير العمل قانون يحدّ من المزيد من الوظائف الّتي يحقّ للفلسطينيّ امتهانها، احتجّ أبناء المخيم وأغلقوا مدخل عين الحلوة، أي انقطع الرابط الوحيد بين صيدا وشوارع المخيّمات الّتي تشكّل جزءًا كبيرًا من المدينة. أُتلفَ كمٌّ كبير من الخضروات، وأغلقت معظم المحال أبوابها إمّا لأنّ عمّالها أو زبائنها من أبناء المخيم وإمّا لأنّ أصحابها من الفلسطينيّين.
في المدرسة، وفي حصّة الجغرافيا سألتنا المعلّمة عن أماكن سكننا. منّا من أجاب بأسماء أحياء صيدا، ومنّا من أجاب بأسماء شوارع المخيّمات، إلا هادي قال: “فلسطين/ حطين”. ضحك البعض من رفاقه الّذين يسكنون معه في المنطقة ذاتها، فسألته المعلّمة: “هل قال لك والداك ذلك؟”. أجابها أن لا، ولكن أحدًا لم يصحّح له المعلومة الّتي عرف أنّها خاطئة من ضحكات رفاقه بالسّكن في مخيم عين الحلوة-شارع حطين.
لم أكن لأتذكّر تلك الواقعة لولا وجدت هادي بعد كلّ هذه المدّة، وهو لا يزال يسكن مخيّم عين الحلوة، ويحكي عن إيمانه بالشّتات الفلسطينيّ، وبأنّ المخيم هو الطريقة الوحيدة المتوفّرة الّتي تقودهم نحو التحرير، فالعيش بداخل المخيّم -الّذي يمثّل التمثال المؤقت لفلسطين- هو طريقة للإحتجاج، طريقة تذكِّر العالم أنّ الفلسطينيّ لا يزال مشتّتًا وأنّ المخيّم هو محطّة للعودة مجدّدًا لا غير. “يجب أن نعرف أنّ المخيم ليس فلسطين، وأنّ فلسطين موجودة هناك وأنّنا في مرحلة ما من الإنتظار، وتحرير فلسطين هو ما سينهي المرحلة”.
طوال ثماني سنوات لم يفرّق هادي بين فلسطين وبين مخيّم عين الحلوة الّذي سُميت بعض شوارعه بأسماء شوارع من فلسطين، ولم يصادف أن عرف أنّه يعيش في مخيّم يتربّع بمحاذاة مدينة صيدا، لا فلسطين. الآن، على الرغم من أنّنا كبرنا، لم تفصلنا حواجز المخيّمات ولا باصات المدارس ولا حصص الدّراسة. لا حدّ فاصل بين المخيّم وضواحيه وفلسطين وضواحيها إلّا الرصاص الطائش، والإحتلال والإرهاب العنيد المتكرّر.