عين عار مشغل الحرير والقوافل.. ذاكرة متنية حية

في قلب المتن، وعلى تلة تشرف على البحر وجبل صنين، تقع بلدة عين عار، واحدة من أجمل بلدات جبل لبنان، التي توازن ببراعة بين تراثها العريق وحداثتها المتجددة.
تجمع البلدة في شوارعها الواسعة وبيئتها النظيفة بين العمران التقليديّ المبني بالحجر والقرميد والمندلون وأسُطح القرميد الأحمر، وبين النهضة العمرانيّة الحديثة التي لا تطغى على هويّتها، بل تتناغم معها بانسجام بديع.
تتميّز عين عار بحياة هادئة، وتركّز على التربية والثقافة، بخاصّة بعد إنشاء إحدى كبريات المدارس الأنجلوفونيّة في لبنان على أراضيها.
تاريخ من الصناعة والفنّ
تحيط بعين عار بلدات متنيّة عريقة، منها قرنة شهوان وبيت الككو وقرنة الحمراء والقنيطرة وبيت شباب وعين علق، ما يكرّس موقعها الجغرافيّ ويربط المتن الأوسط بأعاليه وساحله. وترافق عين عار قصّة طويلة من التاريخ والصناعة والتجارة والفنّ، وتختصر هذه القصّة ساحة صغيرة تحمل دلالات كبرى في تاريخ المنطقة، وهي ساحة العين.

في وسط البلدة تقع ساحة العين، قلب عين عار النابض ومركزها التراثيّ الأبرز، والمعروفة محلّيًّا باسم “ساعة العين”. لم تكن هذه الساحة مجرّد تجمّع عمرانيّ عابر، بل منذ القرن التاسع عشر كانت محطّة تجاريّة أساسيّة على الطريق القديمة التي ربطت ساحل المتن (أنطلياس) بأعاليه، مرورًا بعين عار، وصولًا إلى صنّين وزحلة وكسروان.
مستراح القوافل ومقر الحركة
في حديث إلى “مناطق نت” يقول المحامي كمال الحاج، وهو سليل عائلة مؤسّسة في البلدة، إنّ “اختيار الأجداد لموقع الساحة لم يكن عشوائيًّا، فقد عُثر فيها على نبع ماء شكّل نقطة جذب طبيعيّة للناس والقوافل، فأقيمت حوله بيوت من الحجر والقناطر والمندلون، بنوافذ واسعة وأسقف قرميديّة، على الطراز العمرانيّ اللبنانيّ الأصيل”.
تلك البيوت، بالإضافة إلى ساحة العين، تحوّلت إلى مقرّ لاستراحة القوافل المحمّلة بالبضائع القادمة من أعالي المتن أو الساحل، في الاتّجاهين صعودًا ونزولًا. كانت القوافل تبيت هناك للاستراحة، وتتزوّد بالمؤونة والمياه منها، وتستريح فيها المواشي والدواب والبغال والحمير.
يتابع الحاج: “الساحة كانت مركز تبادل تجاريّ نشيط، شهدت عمليّات بيع وشراء، واجتمعت فيها الناس من مختلف المناطق. كذلك كانت مسرحًا للحركة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي جعلت من عين عار إحدى محطّات المتن الأساسيّة في القرن التاسع عشر، منذ عهد المتصرّفيّة وحتّى فترة ما بعد الاستقلال”.
فعين عار شكّلت مركزًا رئيسًا لصناعة الحرير في جبل لبنان، لذا شهدت مع البلدات المجاورة زراعة التوت وتربيّة دود القز
مشغل الحرير و”الكرخانات”
ليست ساحة العين وحدها ما جعل من البلدة محورًا تجاريًّا، فـعين عار شكّلت مركزًا رئيسًا لصناعة الحرير في جبل لبنان، لذا شهدت مع البلدات المجاورة زراعة التوت وتربيّة دود القز، خرجت عين عار بثلاثة معامل رئيسّة للحرير، المعروفة محلّيًّا باسم “الكرخانات”، وهي التسمية التركيّة للمعامل.
يشير الحاج إلى أنّ “واحدة من هذه الكرخانات كانت ملاصقة لساحة العين مباشرة، في مبنى من طابقين، سفليّ مخصّص للمعدّات وسكن العمّال، والعلويّ للماكينات، ولا يزال بعضها موجودًا حتّى اليوم، شاهدًا على مرحلة مجيدة من تاريخ الصناعة في لبنان”.
أمّا المعمل الثالث، فقد تمّ ترميمه بالكامل على يد فنّان لبنانيّ معروف، ويستخدم اليوم كمرسم ومعرض لأعماله.
في عصرها الذهبيّ بين عامي 1840 و1912، شكّلت صناعة الحرير نحو 50 في المئة من الدخل القوميّ في جبل لبنان. وقد انعكس هذا النشاط الاقتصادي الكبير على بلدات مثل عين عار وبيت شباب وبكفيّا، فحوّلت إلى مراكز جذب للعمّال والتجّار.
فرص وتحوّلات اجتماعيّة
من التحوّلات الاجتماعيّة التي نتجت عن صناعة الحرير، دخول المرأة لأوّل مرّة سوق العمل، بعد أن كان يقتصر عملها في داخل المنزل، إذ استقطبت الكرخانات الرجال والنساء، ما أحدث تحوّلات اجتماعيّة وثقافيّة كبيرة في المجتمعات المحلّيّة. كذلك استقطبت صناعة الحرير متخصّصين فرنسيّين، ما ساهم في نشر اللغة والثقافة الفرنسّية بين اللبنانيّين، ومهّد لما عرف لاحقًا بالهويّة الفرنكوفونيّة للبنان.
رافق النشاط التجاريّ لصناعة الحرير تطوير شركات نقل بحريّ تربط بيروت بمرسيليا، ما ساعد على تطوير مرفأ بيروت وأسّس لظهور مراكز ماليّة ساهمت في تأسيس أوّل مصرف لبنانيّ. بهذا المعنى، لم تكن صناعة الحرير مجرّد مهنة ريفيّة، بل واحدة من الركائز الاقتصاديّة والسياسيّة الكبرى في التاريخ اللبنانيّ الحديث.
وعلى الرغم من أنّ أحد معامل الحرير أصابه الخراب والإهمال بعد أن رفض مالكوه ترميمه، وكذلك أُزيلت إحدى المعامل من المنطقة، إلّا أنّ ساحة العين لا تزال تحتفظ بكثير من روحها القديمة، بحسب الحاج. فالبيوت المحيطة بها، وعددها ستّة، لا تزال مأهولة، وتحوّل أحدها إلى ورشة لإنتاج المأكولات الصحّيّة”.
إعادة تأهيل فنّيّة واستثنائيّة
في العام 2004، كان الحاج نائبًا لرئيس بلديّة قرنة شهوان وعين عار وبيت الككو والحبوس، في حينها خضعت ساحة العين إلى إعادة تأهيل متميّزة بأسلوب فنّيّ عالميّ. تمّ اعتماد تقنيّة هندسيّة فريدة تُعرف بـ “Le Lac” (البحيرة)، صمّمت الساحة لتعكس المباني والمياه على الأرض، ما ولّد تأثيرًا بصريًّا يحاكي الخيال والذاكرة، وتحوّلت الساحة إلى عمل فنّي مفتوح.
أحد الفنادق التراثيّة في عين عار لا يزال قائمًا حتّى اليوم، ويعود تأسيسه إلى أكثر من 90 عامًا
تضمّ ساحة العين اليوم، مدرّجات حجريّة، فيما تتوزّع في مساحات أخرى، ممرّات مرصوفة ودرج أثريّ طوله أكثر من 60 مترًا يربط أجزاء البلدة العليا بالساحة. وعلى مدار السنوات، شكّلت الساحة ملتقى للعائلات ومكانًا لإقامة النشاطات الفنّيّة والتراثيّة والمهرجانات، أبرزها: إقامة أكبر جاط تبّولة في العالم العام 2000، ومهرجان للزجل والشعر الشعبيّ، ومعرض للسيّارات الكلاسيكيّة والقديمة من بينها سيّارة الرئيس كميل شمعون العائدة إلى العام 1959.
تلك النشاطات وغيرها من المبادرات المحلّيّة، على ندرتها، أعادت إلى ساحة العين بعضًا من وهجها. ويركّز أبناء البلدة اليوم على منح الساحة كامل الاهتمام والعناية التي تستحقّها، إحياءً لتراثها العريق ووفاءً لتاريخها المجيد، وإعادة الحياة إلى شرايينها. هكذا تستعيد عين عار مكانتها السابقة كـ “لؤلؤة” في وسط المتن الشماليّ، لتصبح نقطة جذب للسياحة العائليّة الهادئة، بخاصّة لمن يبحث عن تجربة استجمام في بيئة تراثيّة أصيلة.
إرث ضيافي
الجدير ذكره أنّ أحد الفنادق التراثيّة في عين عار لا يزال قائمًا حتّى اليوم، ويعود تأسيسه إلى أكثر من 90 عامًا، وكان مقصدًا للعائلات والتجّار، وكان الرئيس الراحل شارل حلو من بين نزلائه.
ويشير القيّمون على الفندق إلى أنّ العمل جارٍ على قدم وساق لتنشيطه بغية استقطاب مزيد من العائلات والزوّار، حفاظًا على مكانته التاريخيّة وإعادة إحيائه كمركز ضيافة محلّيّ مميّز.
متحف حيّ لذاكرة جبل لبنان
تقدّم عين عار نموذجًا متقدّمًا للقرية اللبنانيّة التي تحترم تاريخها من دون أن تحبس نفسها فيه. فهي بلدة منظّمة من حيث الشوارع والطرقات، بمخطّطات حديثة ونظيفة بيئيًّا، وهي مناسبة لسياحة العائلات والراحة والاستجمام. تجمع البلدة بين العمران التقليديّ والمباني الحديثة الفخمة بانسجام، مع الحفاظ على هويّة متنيّة لبنانيّة أصيلة من خلال نشاطاتها ونمط الحياة فيها.
ويتابع الحاج “بين الحجر والقرميد ونعيم نبع الماء القديم ومصانع الحرير المتروكة، وبين ساحة العين وذكريات القوافل، تظلّ عين عار متحفًا حيًّا لذاكرة جبل لبنان، كونها بلدة لا تنتمي إلى التاريخ وحسب، بل تعيشه وتحييه يوميًّا، وتقدّمه بأجمل حلّة إلى الزوّار”.
ويختم: “في زمن تُفقد فيه الهويّات المحلّيّة تحت ضغط الزحف العمرانيّ الحديث، ترفع عين عار راية التوازن بين الماضي والمستقبل وتقول: نحن هنا مثلما كنّا ومثلما سنكون دائمًا… بلدة العين والحرير والناس الطيّبين”.