فائق حميصي رائد فن الإيماء: أحلم بحكواتي طفولتي “أبوعلي أنبوبة”
كان والده يملك دكّانًا للبقالة في شارع الزاهريّة في مدينة طرابلس، هذا الشارع سكنه في مطلع الخمسينيّات أناس ذوو مشارب متنوّعة دينيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا، بعد أن ضاقت بهم الأحياء القديمة إثر طوفان المدينة.
هناك تفتّحت عيناه على منزل في جوار الدكّان، رفعت عليه يافطة كتب عليها: “مدرسة الزهراء لتعليم التمثيل المسرحيّ والإذاعيّ والسينمائيّ”. يومذاك أخبره والده أنّ المنزل القديم الذي تحوطه حديقة صغيرة، يملكه عبدالله الحسينيّ الآتي من بلاد الطليّان بعد أن درس التمثيل هناك.
عن تلك الفترة يقول الفنان فائق حميصي لـ”مناطق نت”: “كنت أشاهد نساءً ورجالًا، يزورون هذا المنزل ويعرجون على دكّان أبي لشراء بعض حاجاتهم حتّى أصبحوا من أصدقائه. أذكر منهم عوني المصريّ، علي دياب، شكيب خوري، نزار ميقاتي وغيرهم ممّن كانوا يزورون المنزل يوميًّا، وأنا أراقبهم من فتحة الباب الكبير أو من على حائط الحديقة”.
يتابع حميصي: “كانوا يلعبون رياضة “الشيش” ويختبرون الإلقاء وتمارين الأصوات، بالإضافة إلى تصوير المشاهد التي كان يجريها كلّ يوم أحدٍ نزار ميقاتي بواسطة كاميرا سينمائيّة، وقد استعانوا بأطفال الحيّ وأنا منهم، كممثلين كومبارس لإحدى تمثيليّاتهم المصوّرة”.
التمثيل ألعابي المفضّلة
هكذا أصبح التمثيل من الألعاب المفضلة لدى حميصي، وتقديمه لأولاد الحيّ أغان ومشاهد أطلق عليها عبارة: “نكتة خرساء”. وهي كناية عن اسكتشات مثل السير على الخطّ المرسوم على الأرض وكأنّه حبل، أو تقليد بعض الشخصيّات المعروفة في الحيّ ولكن من دون كلام.
زاد في تقدير الطفل آنذاك فائق حميصي لهذا الفن، أحاديث والده عن فنّ الحكواتيّ المنتشر في طرابلس على أنواعه: حكواتيّ متخصّص في حكايات عنتر، وآخر في حكايات الزير، أمّا الحكواتيّ الذي لفت انتباهه فكان “أبو علي أنبوبة” الذي لا يقدّم الحكايات المعروفة بل يحكي الأحداث التي جرت معه في طريقه من منزله إلى المقهى، مصحوبة بالتلميحات والارتجالات والقفشات التي كان يتقنها.
زاد في تقدير الطفل آنذاك فائق حميصي لهذا الفن، أحاديث والده عن فنّ الحكواتيّ المنتشر في طرابلس على أنواعه: حكواتيّ متخصّص في حكايات عنتر، وآخر في حكايات الزير أمّا الحكواتيّ الذي لفت انتباهه فكان “أبو علي أنبوبة”
نكتة خرساء
في وقت لاحق، إنضمّ الطفل حميصي إلى كشافة الجراح، فاكتشف أبو سليم واسعد وكوستي ولطيفة وغيرهم من الشخصيّات التي كانت تقدّم المسرحيّات مثل “البخيل” و”المسافر” و”الجار الغليظ”. في مطلع الستينيّات، بدأ تلفزيون لبنان بالبثّ، ونزل أبو سليم والفرقة إلى بيروت للمشاركة في برامجه، ولم يبقَ في الفرقة الكشفيّة إلّا عبدالله الحمصي “أسعد” الذي قرّر أن يؤسّس فرقة فنّيّة.
عن تلك الفترة يقول حميصي: “تقدّمت للإنضمام إلى الفرقة وكنت في الرابعة عشرة من عمري. سألني “أسعد” ماذا ستقدّم لنا؟ قلت: “نكتة خرساء”. أجابني: أي مسرح صامت”.
يستذكر حميصي تلك الفترة “كان أبو سليم (صلاح تيزاني) قد قدّم مسرحيّة صامتة في الخمسينيّات عن حرب الجزائر”. ويتابع “أبو سليم كان شخصًا مثقّفًا مسرحيًّا، كونه عضو نقابة النجّارين وكان يتلقّى الدعوات لزيارة النقابات الأخرى في العالم وخصوصًا الدول الاشتراكيّة آنذاك، ما سمح له بمشاهدة المسرحيّات التي تقام في البلدان المختلفة”.
عصا أسعد
عن رحلته إلى معهد الفنون يروي حميصي: “في هذا الجوّ وقبل دخولي معهد الفنون في بيروت، كنّا نقدّم إحدى الحفلات في النادي، أدّيت في خلالها “نكتة خرساء”. فتقدّم منّي الصحافيّ إبراهيم زود صاحب مجلّة “الساخر” وقال لي: هذا المشهد الذي قدّمته فنّ قائم بذاته يدعى”Mime”، قالها بالفرنسيّة”.
يتابع: “لم يفِ أبي بوعده لي أن أسافر إلى ابن عمّتي المطرب محمّد جمال في مصر كي أدرس هناك التمثيل. كان يغريني بهذا الوعد حتّى أُكمل دراستي، خصوصًا أن رفاقي الفنّانين لم يكونوا قد انهوا دراستهم الثانوية”.
يستدرك حميصي: “وللمناسبة أذكر حادثة ظلّت عالقة في ذهني فترة طويلة، إذ طلب منّي أبو سليم أن أنزل إلى بيروت للمشاركة في دور رجل يتأتئ في إحدى الحلقات. وحين أعادني أسعد في سيّارته سألني إذا كنت سأعيد الكرّة. أجبته: نعم وسيكتب لي أبو سليم حلقات أخرى. عندئذ سحب أسعد عصا من تحت مقعده ولوّح به في وجهي قائلًا: إنت بدّك تتعلم وتفوت جامعة”. كانت إحدى أمانيه التي لم تتحقّق وأراد تحميلها إلى الجيل الشاب في الفرقة”.
معهد الفنون
بدأ حميصي بتلمّس طريقه إلى فن الإيماء حينما دخل إلى معهد الفنون في بيروت، وهناك سأل الفنان الراحل أنطوان ملتقى عن دراسة فنّ الإيماء فأجابه: “إدرس هنا فنّ التمثيل، وسيأتي أستاذ إلى المعهد بعد سنتين يدرّس الإيماء اسمه “موريس معلوف”.
نجح حميصي في اختبار الدخول الذي كان عبارة عن مشهد إيمائي، وبالفعل بعد سنتين حضر موريس معلوف إلى المعهد وعلّمه مادّة التعبير الجسمانيّ.
بدأ حميصي بتلمّس طريقه إلى فن الإيماء حينما دخل إلى معهد الفنون في بيروت، وهناك سأل الفنان الراحل أنطوان ملتقى عن دراسة فنّ الإيماء فأجابه: “إدرس هنا فنّ التمثيل
عن تلك التجربة يقول حميصي لـ “مناطق نت”: “اجتهدت عنده حتّى أبديت رغبتي في تمثيل مسرحيّة إيمائيّة. وبالفعل حضر ذات يوم، وأطلعني على شخصيّة قرويّة تدعى “فدعوس” وقال إنّه يمكن أن نبني عليها مسرحيّة تقدّم في مهرجان كلّيّة بيروت الجامعيّة آنذاك. أعطاني أستاذي موريس القواعد التي كانت تنقصني في الإيماء، وقدّمت العمل الذي لاقى الترحاب من الجمهور والصحافة”.
ويردف: “أذكر أنّ نزيه خاطر الذي له تأثير كبير في النقد المسرحيّ كتب يومها: أصبح لدينا فنّ إيمائي لبنانيّ. ولكن بعد العمل عشت في حيرة المقالات التي وصفتني برائد الفنّ الايمائيّ كما هو الحال في فرنسا مع “مارسيل مارسو”، وفي واقع الأمر كان مشروعي أن أكون “أبو علي أنبوبة” الذي لم يقلّد احدًا من الحكواتيّين وانفرد بخصوصيّة صنعها بنفسه”.
إلى فرنسا
بعد “فدعوس يكتشف المدينة” سافر حميصي إلى فرنسا وانتسب إلى مدرسة “Montreuil” للمسرح التي تدرّس الإيماء كاختصاص مدّته سنتان. واكتشف خلال عمله اختلاف الإيقاع بينه وبين الفرنسيّين، “سألني استاذي ذات يوم: انت تملك التقنيّة الكافية. لماذا حضرت إلى هنا؟ أجبته: لأفتش عن خصوصيّة. فقال لي كلمة لن أنساها: الخصوصيّة التي تبحث عنها ستجدها في بلدك”.
العودة إلى الخصوصية
“عند أول فترة هدوء خلال الحرب المتقطّعة عدت إلى لبنان، وأخذت أبحث عن علاقة الإيماء بالفنون الصامتة مثل الرسم والنحت والعمارة والموسيقى. بحثت عن حالة التكرار الذي يسمّى في العاميّة “السلطنة”، وتقال للموسيقي والمغني في تراثنا”.
استغل فائق حميصي وجوده كمدرّس في الجامعة اللبنانيّة، لكي يمارس مفهوم البحث عن ثقافة وطنيّة في داخلها، وليس تعليم ثقافة الآخر. وتوصّل العام 1983 إلى تقديم عرض مسرحيّ بعد سلسلة عروض قُدّمت في الشارع من أجل نشر هذا الفنّ في المهرجانات والكرنڤالات التي أقيمت في بيروت.
عرض “إيماء 83” في المركز الثقافيّ الفرنسيّ في بيروت، وكان مختلفًا عن الأسلوب الغربيّ لفن الإيماء، “شعرت أنّني بدأت أتلمّس الطريق الصحيح في الإيماء الذي أبحث عنه خصوصًا بعد مقالة في جريدة لبنانيّة فرنكوفونيّة قالت إنّ “إيماء 83” ارتكز على وحدة الإيقاع وتغييره، وخلق حالات تنتقل إلى الجمهور بواسطة العينين”، يقول حميصي.
في “ايماء 86” استُقبل بحفاوة كبيرة لا سيّما بعد تثبيت دراسة مادّة الإيماء في الجامعة اللبنانيّة وتخريج مجموعات من الممثّلين الذين يعملون على فنّ الإيماء. كذلك عمله الطويل على مناهج تنظيم الروضات في لبنان واستخدام النشاط التمثيليّ في التربية كمنهج اعتمد في المركز التربويّ للبحوث.
من بيروا إلى الشارقة حيث عمل مع “الهيئة العربيّة للمسرح” لوضع الأسس لمنهج مسرحيّ مدرسيّ، وتابع عمله في هذا الاتجاه على مسرحيّات للأطفال من دون أن ننسى الأدوار الجميلة التي قدّمها كممثّل في “بالنسبة لبكرا شو؟” لزياد الرحباني و”الربيع السابع” للأخوين رحباني و”صيف 840″ لمنصور الرحباني.
نسأله ماذا عن فن الايماء اليوم؟ يردّ حميصي خاتمًا حديثه: “أعتقد أنّ دور المؤسّسات يجب أن يبدأ الآن، بعد السنوات الطويلة التي عملت فيها على انتشار فنّ الإيماء وإنتاجه على نحو شخصيّ. هو اليوم مكرّس وتلزمه المؤسّسات الإنتاجيّة والإعلاميّة لدعمه ودعم جيل كبير من المخرجين ممّن يتمتّعون بالتقنيّات العالية في هذا الفن.
أمّا أنا فما زلت أحلم بفرادة الأشياء وأتماهى مع حكواتي طفولتي أبوعلي أنبوبة”.