“فاجعة المرفأ” في ذكراها الثالثة.. جراح الضحايا مفتوحة وتتمدد
ينبعث دخان انفجار الرابع من آب في ذاكرة الشابّة ليليان شعيتو البالغة 28 عاماً، ابنة بلدة الطّيري، في جنوب لبنان، التي واجهت الموت منذ العام 2020، جراء تعرّضها لإصابة في رأسها أثناء تواجدها في أسواق بيروت، لحظة وقوع انفجار الرابع من آب. بعد مرور ثلاثة أعوام على التفجير الكبير، لم تنطق ليليان سوى بكلمة “ماما”، إذ كانت محاولتها الوحيدة للتعبير عن اشتياقها لطفلها الوحيد البعيد عنها.
الأم ليليان هي واحدة من الأمّهات المتضررات من انفجار مرفأ بيروت. تلك اللحظة، غيّرت مسار حياتها بشكل كبير، لتغدو فجأة من زوجة تتجوّل في أسواق بيروت بحثاً عن هدية لزوجها، إلى ضحيّة تقبع في تركيّا، كي تتلقّى علاجها الطويل، لعله يساعدها في الوقوف على قدميها مرة جديدة، لاحتضان طفلها الصغير “علوشي”.
إصابة ليليان كانت برأسها، بعد ارتطامه بالأرض لحظة وقوع الانفجار، ما سبّب تلفاً في الدماغ، فدخلت في غيبوبة مدة 18 يوماً، لتستيقظ بعدها عاجزة عن التحرك، فاقدة لحاسّة النطق، والعجز عن الكلام. دخلت مرّة تلو مرّة إلى المستشفى لإجراء نحو سبع عمليات جراحيّة، قبل انتقالها إلى تركيا لمتابعة مسار علاجها الطويل والشاق.
بعد معاناتها الصّامتة، تمرّدت ليليان على قساوة الحياة، ونطقت ببعض كلمات قصيرة هي: “ماما”، “بابا”، واسم شقيقتها نوال، Hi No، ثمّ صارت تتجاوب مع عائلتها. بعد ثلاث سنوات، تمكّنت من الوقوف على قدميها بمساعدة الخبراء، واستعادت قدرتها على التمسّك ببعض الألعاب والأشياء الصلبة، إلّا أنّها لا تزال عاجزة عن التعبير عن مشاعرها بالكلمات.
تجاوب ليليان مع أفراد عائلتها وتناولها الطعام لوحدها، هو بمثابة إشارة إيجابيّة لتحسّن حالتها الجسديّة والنفسيّة، ولكن لم يُعرف بعد إن كانت ليليان تعي ما حصل معها في الرابع من آب، ولم يُحسم أيضًا ما إذا كانت تفاصيل الانفجار لا تزال محفورة في ذاكرتها أم محتها الإصابة، فالأطباء ينتظرون أن تستعيد قدرتها على الكلام، لكي يتأكدوا من هذا الأمر.
شربل مدنس
أمّا الطفل شربل مدنس البالغ (14 عاماً) ابن منطقة الكرنتينا، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، والأصغر سنًّا بين المتضرّرين في انفجار المرفأ، فقد واجه شبح الموت بعدما تسبّب عصف الانفجار بطحن ضلوعه وكسوراً في أطرافه، ولم يعد قادراً على الحركة نهائياً. كان شربل في 4 آب داخل منزل ذويه، فدفعه عصف الانفجار الهائل إلى غرفة ثانية، حيث ارتطم جسده النحيل بالأرض وأدّى إلى كسر أحد أضلاعه.
في السنوية الثالثة لشبح الموت الأسود، يقول شربل لـ”مناطق نت” إنه لم يتجاوز تفاصيل الحادثة المؤلمة بعد، فصوت الانفجار تحوّل إلى كابوس يرافقه بشكل يوميّ خلال نومه، ويؤدّي به إلى القلق والخوف، خصوصاً أنّه لا يخرج من بيته، ويقضي معظم أوقاته في داخله برفقة شقيقه الصغير. شربل بات عاجزاً عن دخول المدرسة لسببين: الأّول يتمثّل في حالته الصحّيّة التي لا تسمح له بالتحرّك كيفما يشاء، والثاني أن الضائقة المادّيّة منعته من دخول مدارس متخصّصة بوضعه، بسبب التكاليف الباهظة.
شربل الذي أصبح عرضةً للكسور السريعة، يتجنّب التحرّك باستمرار خوفاً من أيّ شيء يتعرّض له قد يجعله طريح الفراش لأسابيع طويلة. كلام شربل هو جزء من معاناة يوميّة، يعيشها كلّ متضرّر من انفجار الرابع من آب، إذ إنّ رائحة الموت لا تزال تفوح بالقرب من تمثال المغترب في بيروت، ومشاهد الأشلاء حاضرة لم تُنسَ بعد.
الضحيّة عباس مظلوم
تروي ولاء حكاية زوجها الذي خسر معركته مع جراحه بعد صراعٍ دام نحو عامين. تشبه حكاية الضحيّة عباس مظلوم (44 عاماً) من بلدة بريتال البقاعيّة، العديد من حكايا الضحايا ممّن شاء القدر أو الصدفة لهم أن يقضوا أو يصابوا في الانفجار. عباس كان قد حظي بفرصة عمل في مطعم للوجبات الإيطالية في منطقة مار مخايل، كونه يملك خبرة في ذلك، قصد بيروت بعد انقطاع طويل فرضته إجراءات كورونا، للمباشرة بعمله، وفي اليوم الأوّل حصل الانفجار، وأصيب عباس إصابات بليغة نتيجة تطاير واجهة المطعم الزجاجيّة وارتطامها بجسده فمزّق أجزاء عديدة منه، إضافة إلى إصابة بالغة في الرأس، الأمر الذي أدّى إلى شلله.
أُجريت لعباس ثلاث عمليات جراحيّة، واحتاج إلى أكثر من 65 قطبة، كانت كفيلة بأن يتحوّل من شاب مفعمٍ بالحياة، يسعى لإعالة عائلته وأطفاله، إلى فاقدٍ للأمل، تسيطر عليه حال اليأس، فظلّ يتمنّى الموت لعله بذلك يحصل على راحة تحدّ من آلامه.
أُجريت لعباس ثلاث عمليات جراحيّة، واحتاج إلى أكثر من 65 قطبة، كانت كفيلة بأن يتحوّل من شاب مفعمٍ بالحياة، يسعى لإعالة عائلته وأطفاله، إلى فاقدٍ للأمل، تسيطر عليه حال اليأس
بعد أشهر قليلة، تدهورت حالة عباس النفسية بشكل كبير، خصوصاً بعدما أبلغه طبيبه بأن العمليّة الجراحيّة الثالثة، ستكون الأخيرة وسيتمكّن بعدها من العودة إلى حياته الطبيعيّة ومزاولة عمله السابق، إلّا أنّ هذه الأمنية لم تتحقق، فالعملية الجراحية لم تنجح، وأدت إلى شلله بشكل كامل.
تتحدّث زوجة عباس لـ “مناطق نت” بمرارة، وتؤكّد أنها قامت في خلال أزمة زوجها بمساندته ومساعدته لتجاوز المصاعب التي مرّ بها وتخطّيها، ولأجل ذلك انتقلت مع أطفالها من بريتال للإقامة والعيش في بيروت. وتقول: “لقد خضع عباس إلى جلسات علاج نفسيّ، عبر طبيبة متخصّصة بالأمراض العصبيّة، لعلها تتمكّن من مساعدته في تجاوز حالته النفسيّة الصعبة، ولمعاونته في التخلّص من الهواجس التشاؤميّة. بيد أن هذا الأمر لم يحدث، إذ تراجعت حالته الصحّيّة بشكل كبير بعدما ساءت حالته النفسيّة، ولم يعد جسده يستجيب للعلاج، ولم تعد المسكّنات العالية قادرة على تخفيف آلامه، وبدأ يردّد عبارات الموت أمامي، ويؤكد مراراً أنّ أيامه باتت قليلة، ولم يعد قادراً على مقاومة أوجاعه، فحياته انتهت منذ لحظة الانفجار”.
بعد أيام من انتهاء العمليّة الجراحيّة الثالثة، لم يصمد طويلاً، وارتفع عدّاد ضحايا انفجار الرابع من آب ليستقبل ضحيّة جديدة. رحل عبّاس، تاركاً خلفه عائلة مؤلّفة من خمسة أطفال، بحالة مادّيّة صعبة جدّاً، ما أجبر العائلة على ترك بيروت والعودة إلى بريتال. وبنتيجة الوضع الاقتصاديّ المتدهور، وعدم قدرة الأمّ على تأمين احتياجات أطفالها اليوميّة، اضطرت إلى إلحاقهم بمدارس المبرّات الخيريّة في بريتال، للتخفيف من الأعباء المادية الشهرّيّة.
محمد دقدوقي
تتعدّد قصص ضحايا انفجار الرابع من آب، والنتيجة واحدة، هي موت وجراح وإعاقة وعدم القدرة على العمل. وهذا ما حصل مع الضحيّة محمد دقدوقي، الذي حُرم من مزاولة الحياة العمليّة مدى الحياة، فالانفجار خطف إحدى عينيه، إذ استؤصلت عينه اليسرى، وبترت يده اليمنى، وانفجرت بعض شرايينه، واحترق جسده.
لا ينفكّ محمّد يردّد ما حصل معه في الرابع من آب، فهو يتذكّر جيداً صوت الانفجار الأوّل، والهزّة التي سبقت الانفجار الثاني، قبل أن ينفجر المرفأ ويبتلع البحر الضحايا.
في ذاك اليوم المشؤوم، خرج محمّد من منزله البعيد عن مكان الانفجار، إذ يقطن في منطقة برجا (الشوف)، وتوجه إلى عمله في بيروت، في المرفأ. خسر محمّد نتيجة الانفجار قدرته على المشي، ولم يعد باستطاعته العمل نهائياً، بعدما خسر يده وعينه على حدّ سواء. وبسبب تمدّد جراح إصاباته، أُجريت لمحمّد أكثر من خمس عمليات جراحيّة، ومرّ بمرحلة علاج طويلة لم تنتهِ حتى الآن. وهو لا يزال بحاجة إلى إجراء المزيد من العمليّات الجراحيّة، لكنه أضحى عاجزاً عن تأمين مبالغ تكلفتها الكبيرة بسبب ضائقته المادّيّة.
تركت الندوب على جسد محمد أشكالاً وألواناً ستلازمه مدى الحياة، وصار ملازماً للفراش، في منزله أو في المستشفى، وبات بحاجة دائمة إلى مساعدة كي يتمكّن من التحرك. فجأة، فقد عددًا من أعضائه الأساسيّة، وتحوّلت حياته إلى ما يشبه الجحيم، وهو يعتبر اليوم، أنّ الانفجار أنهى حياته، وإن كان لا يزال على قيد الحياة.
خالد دياب
لا تختلف قصّة خالد دياب البالغ 53 عاماً، عن غيره من قصص ضحايا المرفأ الذين جمعهم البحر ومزقتهم اليابسة. كان خالد يعمل في صيد السمك وبيعه كي يتمكّن من تأمين احتياجات عائلته اليومية. قصد في ذاك اليوم بيروت، اختار منطقة قريبة من المرفأ لعلّه يتمكّن من اصطياد سمكات تؤمّن مصروف اليوم ومدخوله.
خالد يقطن أصلاً بالقرب من منطقة الناعمة وكان لا يقصد بيروت إلا نادراً. بعد الانفجار، أصيبت أطرافه بالشلل الدائم، بسبب تناثر الزجاج واختراقه لجسده، وعانى من نزيف حادّ نتيجة دخول مواد صلبة في عينيه، وفقد السمع في إحدى أذنيه، خضع بعدها إلى عمليات جراحية عدّة. بسبب هذا كلّه خسر مصدر رزقه الوحيد بعدما بات عاجزاً عن مزاولة أيّ مهنة تحتاج لبنية جسديّة سليمة، فهو لم يعد قادراً على التحرك من دون استخدام عكّاز.
اضطر خالد وبغية تأمين تكاليف طبابته، إلى بيع سيّارته وبعض أغراضه الخاصّة، إذ إنّه يحتاج إلى أدوية كل شهر يفوق ثمنها 300 دولار أميركيّ، وبحاجة أيضًا إلى مسكّنات دائمة لتهدئة آلامه. وأكثر من ذلك، فهو بحاجة إلى عمليّة جراحيّة جديدة، كان من المفترض أن يجريها منذ أكثر من تسعة أشهر سلفت، لكن تكاليف العملية لم تتأمّن بعد، إذ يحتاج إلى أكثر من 3500 دولار أميركي لإجرائها.
المنكوبون كُثر، ولائحة الضحايا تطول. هو جرح مفتوح، سيتمدّد أكثر فأكثر في غياب العدالة التي طُمرت هي الأخرى تحت الأنقاض، هناك، حيث ابتلع البحر الضحايا، وضاعت الحقيقة إثر سقوط الإهراءات، ولم تتحقّق العدالة للضحايا والمنكوبين ولأهاليهم. بعد معاناة دامت سنوات ثلاث، تستمر العائلات المنكوبة في مواجهة الموت بشكل يوميّ، لعلّها تتمكّن من تجاوز كابوسها الأسود، أو تصل إلى بصيص من العدالة المرجوّة.