فرّوج القائم وبوظة الرضا.. عن الأسماء وخلط الدينيّ بالدنيويّ
إذا ما ركبت سيّارتك اليوم، ورحت تجوب قرى الجنوب، أو البقاع، أو الضاحية الجنوبيّة، سوف تطالعك آلاف اللّافتات المتصدّرة تسميات المتاجر، وهي تحمل عناوين دينيّة، ليس بينها وبين محتوى المحال أيّة علاقة، منها: “بروستد الزهراء”، “فرّوج القائم”، “فوبّيجو العبّاس”، “بوظة الرضا”، “مطعم الجواد”… لائحة لا تنتهي من الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين، الذين أُنزِلوا من عليائهم، ومقاماتهم المقدّسة، لتقترن أسماؤهم بالسمك المشويّ، وصدور الدجاج المقليّة، والثياب الداخليّة ومراكز الصيرفة، وأدوات الصيد.
هكذا يقوم التاجر باستخدام رمزيّة هذه الشخصيّات، ليضفي على متجره هالة روحيّة، فيبدو وكأنّه مؤيّد من السماء ومبارك، ولا يبتغي الربح، إذ إنّه يحمل راية ذلك الإمام، أو تلك الصالحة “المعصومة”، وفي الغالب، لا يكتفي صاحبنا بهذا التوليف اللّاهوتيّ، فيعزّزه باضافة اسمه في أسفل اللّافتة، مسبوقاً بكلمة “الحاج”، ليكون النصّ النهائيّ: بإدارة الحاج فلان الفلانيّ. هكذا تتمّ محاصرة الزبون، بتوصيف رمزيّ آخر، ليؤكّد أنّ كلّ شيء ها هنا، يجري بما يُرضي الله، وليس هو كبائع، سوى وسيط لتيسير شؤون البلاد والعباد.
غالباً ما يسقط كلّ هذا، بمجرّد أن يطّلع المشتري على لائحة الأسعار، فيكتشف أنّ صاحبنا “بشرٌ مثلنا” يربح مثل باقي زملائه، ولن نقول أكثر منهم بالضرورة.
من الداخل، وفي أحيان كثيرة، ستجد فوق رأس البائع، آية قرآنيّة مؤطّرة ببرواز مذهّب، وإلى جانبها صورة للقائد الحزبيّ الذي ينتمي إلى حزبه أو يناصره، بينما تتربّع “عُلب” التبرّعات أو “صناديقها” على طرف الطاولة، بالقرب من دفتريّ حساباته وفواتيره، والآلة الحاسبة. في معظم الأحيان، لا يقبل “الحاج” أن تكون موظّفة المحلّ حاسرة الرأس، فهذا يخدش التوليف العقائديّ الذي يريد الظهور به أمام الزبائن الذين يشبههم ويشبهونه، وعلى الأغلب لن يكتمل التوليف البصريّ إلّا مع اللّحية الصغيرة، والسبّحة.
كنّا وصرنا
حتّى منتصف الثمانينيّات، كانت أسماء المحال، والمدارس والمستشفيات، كلاسيكيّة، مثل أسماء الأشخاص، فتحمل معانٍ جميلة ومفيدة، مع لمسة من الرومانسيّة، ومسحة طوباويّة، على وزن: “ملحمة القناعة”، “مدرسة المحبّة”، “مكتبة التفوّق”، “عصير الطيّبات”، “مطعم السلام”… يضاف إليها المتاجر التي تحمل أسماء أصحابها، أو عائلاتهم.
هكذا كان واقع الحال، لتشهد من بعدها الضاحية الجنوبيّة، ومعها الجنوب والبقاع، تحوّلاً واضحاً في عملية اختيار العناوين لكلّ ما سوف يحمل اسماً. لم يكن الأمر مجرّد طفرة موسميّة، بل نمطاً ترسّخ وتشعّب، حتّى يكاد المرء اليوم لا يلحظه، أو يقف عنده، للبداهة التي صارتها عليها تلك العناوين.
في أحيان كثيرة، ستجد فوق رأس البائع، آية قرآنيّة مؤطّرة ببرواز مذهّب، وإلى جانبها صورة للقائد الحزبيّ الذي ينتمي إلى حزبه أو يناصره، بينما تتربّع “عُلب” التبرّعات أو “صناديقها” على طرف الطاولة، بالقرب من دفتريّ حساباته وفواتيره، والآلة الحاسبة
الحقّ يقال، بأنّ كثراً من أصحاب تلك الدكاكين والوِرَش والمطاعم، يتماهون مع أسماء محالّهم، ويعيشون الحالة بقناعة وحماسة، فيتلقّفون فرصة اختيار أسماء متاجرهم، ليعلنوا توجّهاتهم “الفكرية” أو “العقائديّة”، حتّى أن البعض يتطرّف في “ولائه” ليطلق اسم “فدك” على باب رزقه، وفدك، بحسب الرواية الإثني عشريّة، أرض كان يجب أن ترثها السيدة فاطمة الزهراء، وحَالَ “أبو بكر” دون ذلك.
وهناك من يطلق اسم “الغدير” على مؤسّسته، ليؤكّد أن صاحبها ينتمي إلى المذهب الشيعيّ، وللأمر مكاسب ومضار، إذ يشكّل الاسم طمأنينة لمن يتشاطرون وإيّاه القناعات ذاتها، أو ربّما يولّد نفوراً عند هؤلاء المنتمين إلى مذاهب أُخرى، فكيف اذا ما كان هذا المتجر على الطريق الرئيسيّة بين بيروت والجنوب، أو بيروت وبعلبك، فالسّالكون تلك الجادّات (الأوتوسترادات) متنوّعو الإنتماءات الدينية والطائفية.
التماهي مع الرمز
لا نقول جديداً إذا ما ذكرنا بأنّ الأسماء هي في الغالب انعكاسٌ لزمنها، بكلّ ما في الأمر من عقائد، وقناعات ومؤثّرات، بعضها مرتبط بنجوم السينما والطرب، وبعضها الآخر بالرموز السياسيّة أو الثوريّة أو القوميّة. فمَن يطلق على مولوده اسم شخصيّة عظيمة، يستبطن مشاركة صفاتها، كأنّ الاسم تعويذة حظّ، وفألٌ حسن. فكم من شخص حمل اسم جمال، أو ناصر (جمال عبد الناصر)، أو فيصل (الملك فيصل)، في الخمسينيّات والستينيّات. قبل ذلك التاريخ، كانت الأسماء العربيّة متأثّرة بالملوك والأمراء، مثل: فؤاد، وفاروق، وثريّا، وناريمان، وفوزيّة، وفايزة…
إذا ما تناولنا المجتمع الشيعيّ اللبنانيّ، كعيّنة بحثيّة، سنجد أنّ الأسماء الدينيّة، واحدة من الثوابت التاريخيّة في تلك البيئة، إنّما ومع انتشار الموجة الدينيّة، وتقاسم الحالة الشعبيّة بين “حزب الله” و”حركة أمل”، حصل استهلاك كبير لأسماء شاعت مثل: محمّد، عليّ، حسن، حسين، فاطمة وزينب، فكان لا بدّ من الانتقال نحو أئمّة أهل البيت الآخرين، الذين لم يأخذوا حقّهم من انتشار أسمائهم، مثل: مهدي، جواد، هادي، زين العابدين وباقر. أمّا اسم أمير، فالمقصود به لقب الإمام عليّ، أمير المؤمنين. ولا ننسى السلسلة التي لا تتوقّف، حيث إنّ عبّاس، ينجب فضل، وفضل ينجب عبّاس، كما هو الحال مع يحيى الذي يسمّي زكريّا، ليعود زكريّا ويسمّي ابنه يحيى.
إذا ما تناولنا المجتمع الشيعيّ اللبنانيّ، كعيّنة بحثيّة، سنجد أنّ الأسماء الدينيّة، واحدة من الثوابت التاريخيّة في تلك البيئة، إنّما ومع انتشار الموجة الدينيّة، وتقاسم الحالة الشعبيّة بين “حزب الله” و”حركة أمل”، حصل استهلاك كبير لأسماء شاعت مثل: محمّد، عليّ، حسن، حسين، فاطمة وزينب
من الأسماء النسائيّة “المستحدثة”، انتشر إسما بتول وحوراء، حتى صارا في كلّ بيت وجمعَة، وصفّ مدرسي. وكان لا بدّ من الاستعانة بأسماء أخرى، لها أسس دينيّة، مثل ذلك الاسم الذي شاع مع انتشار مسلسل “يوسف الصدّيق” ألا وهو اسم أسينات، زوجة النبيّ يوسف بحسب ما ذكره التوراة.
بالموازاة، هناك حضور لا بأس به لاسم مليكة، وسُكينة، ومريم… كذلك هناك الأسماء الدينيّة ذات الدلالات الروحيّة، والوجدانيّة، مثل: نور، إيمان، هدى، آية، مروى، ساجدة…
على عكس السنّة، الملتزمين أكثر “بما حُمِّد وعُبِّد”، لا يشعر الشيعيّ بالميل الكبير إلى هذه الأسماء، وتحديداً المبتدئة باسم “عبد”، ليس لأنّ له رأي فقهيّ حياله، بل لأنّها أسماء محايدة، بينما الشيعي، ومنذ 1400 سنة يجهد لبناء هويّته الخاصّة، وبطرق عدّة، والأسماء في سلّم أولويّته لتعزيز ذلك.
كلّ اسم راية
يخطئ من يرى في الأسماء أمراً هامشيّاً، ليس في صلب المشهد الاجتماعيّ، الفاعل والمتفاعل. الاسم أشبه ما يكون براية، تعلن عن خطّ أو توجّه أو مؤشّر، على طريقة هذه الجهة، أو تلك الأسرة، بالتفكير. الاسم عبارة عن وسيلة إعلان، وإعلام، متحرّكة وثابتة.
يجهد الشيعي، ومنذ 1400 سنة لبناء هويّته الخاصّة، وبطرق عدّة، والأسماء في سلّم أولويّته لتعزيز ذلك
بعد تفجير 11 أيلول/ سبتمبر، كانت الأسماء “الإسلاميّة” حملاً ثقيلاً على أصحابها، إذ كانوا يتعرّضون للتمييز في مطارات العالم. أمّا من يحملون اسم أسامة، فكان ذلك الاسم بمثابة مضبطة اتّهام مسبقة، وعلى صاحب الاسم أن يثبت العكس. أمّا في لبنان، وإذا ما عدنا إلى زمن الحرب الأهليّة، فنكاد لا نعرف عدد الاشخاص الذين قتلوا، فقط لأنّهم يحملون أسماء دينيّة، بل في أيّ صراع قادم، سوف تكون الأسماء مدخلاً رئيساً لتصنيف الآخر، حتّى لو أزيلت خانة المذهب أو الديانة عن بطاقة الهويّة، أو جواز السفر. كذلك لن ننسى ما جرى من نهب وإحراق لمؤسّسات كانت تحمل أسماء واضحة “الديانة” أو “الإتّجاه”.
من هنا نستشفّ البعد العقائديّ، والبثّ الدعائيّ لكلّ ما هو اسم. كما وسنتنبّه لعمليّة الطهي البطيء للأفراد الذين يتحرّكون في الفضاء الاجتماعيّ، إذ يتقاطع كلّ شخص مع مئات الأسماء يوميّاً، إن كانت لأهل وأصدقاء وزملاء، ومحال ومدارس وشوارع، وقنوات تلفزة وإذاعات، وبرامج وماركات. جميعها تتسلّل إلى دماغه، لتأخذ مكانها في الذاكرة، التي سينطلق منها المرء في حال أراد صياغة فكرة، أو اتّخاذ قرار.