“فضاء إشبيلية” مساحة ثقافيّة مغايرة في صيدا
تكاد سينما “إشبيلية” في صيدا أن تكون الشاذة الوحيدة عن مصير دور السينما المقفلة في لبنان، التي تحوّلت إلى متاجر أحذية وألبسة ومخازن بضائع، أو مجرّد مساحات منذورة للعتمة والعناكب والجرذان. لكن إشبيلية صيدا بدت في سياق آخر، إذ عادت سينما ومسرحًا وفضاءً حواريًّا وصالة معارض ومقهى للشباب، تجاوره مكتبة صغيرة. كلّ ذلك بتصميم هندسيّ عصريّ، مستند إلى بصمات الثمانينيّات، ومحدّث بشكل مدروس كي يكون هذا العطر من تلك الوردة.
“أكثر ذكرياتنا الجميلة في صيدا كانت في سينما إشبيلية، ولم نتوقّف عن ارتياد المكان حتّى مراحل أغلاقها المتقطّعة” تقول نادين نحّولي، لـ”مناطق نت”. وتضيف ابنة صيدا المربّية نابغة وليد الدنب: “في آخر زياراتي إلى دور سينما صيدا، مطلع التسعينيّات، كنتُ أنظر بحسرة إلى عراقة الأمكنة، والخلل الذي طاول جدرانها وأسقفها ومقاعدها، فانتبهتُ أنّ الزمن صار غير زمن”.
امتحانات مبكرة
لقد فعلتها الشقيقتان هبة ونهلا الزيباوي، ابنتا القياديّ اليساريّ عدنان الزيباوي، الذي أسّس سينما إشبيلية في العام 1980، لتحتلّ مكانة مرموقة في وقت سريع إلى جانب دور عرض صيدا الشهيرة مثل “أمبير” التي انطلقت سنة 1922 لتكون أولى الصالات، ثم تبعتها سينما “ريفولي” سنة 1953، وسينما “شهرزاد” في العام 1970، وبعدها “غراناد”، بينما تفرّدت سينما “الحمرا” بمكانها المتقاطع مع أزقة صيدا القديمة، والتي أغلقت بدورها وتحوّلت إلى مشغل نجارة تتكدّس فيه الأخشاب وماكينات القطع.
لهذا لم يكن عاديًّا خبر عودة النبض إلى صالة إشبيلية في 14 أيلول من العام 2018، أيّ أن أولى الهزّات كانت شديدة القرب من الأزمة الاقتصاديّة وما تلاها من تحرّكات شعبيّة في العام 2019، ومن ثمّ وباء “كورونا” الذي عطّل البلاد، وولّد نمطًا تباعديًّا بين الناس، تضرّرت منه الأماكن المبنيّة على الاحتشاد الشعبيّ، وإشبيلية منها بطبيعة الحال.
أثر وخطوات
لكن المشروع استمرّ والأنشطة تزايدت وتنوّعت، ليكون ذلك المكان في شارع حسام الدين الحريري نقطة ارتكاز ثقافيّة، يستند إليها كلّ مثقّف ومبدع ومهتمّ من أهالي صيدا ومحيطها الواسع، من الصرفند حتى اقليم الخرّوب وبينهما جرجوع التي يهبط منها محمّد الشامي، أستاذ الفيزياء كي يشارك في غالبيّة الأنشطة في إشبيلية.
يقول الشامي لـ”مناطق نت”: “تكمن قيمة هذا المكان بأثره وتداعياته الجميلة على صيدا، حيث نبتت مشاريع مشابهة في المدينة مثل حمّام الإفرنج، الحمّام الجديد، خان صاصي. وتتكاثر الأنشطة في بعض الأوقات ممّا يجعلنا نقصّر عن مواكبتها كلّها، خصوصًا في شهر رمضان حيث تحلّ الأمسيات الموسيقيّة من الطرب إلى الجاز. إنّ مجمل ذلك كان بتحريض من الصبيّتين هبة ونهلا، ليكون هذا المشروع الذي يثبت أنّ الثقافة مطلوبة في مجتمعنا، لكنّ الأمر يحتاج إلى لغة مختلفة”.
المشروع استمرّ والأنشطة تزايدت وتنوّعت، ليكون ذلك المكان في شارع حسام الدين الحريري نقطة ارتكاز ثقافيّة، يستند إليها كلّ مثقّف ومبدع ومهتمّ من أهالي صيدا ومحيطها الواسع، من الصرفند حتى اقليم الخرّوب
ويضيف الشامي: “اشبيلية ملجأ ومتنفَّس لكلّ مبدع وصاحب موهبة، على عكس التنميط الذي يحاول البعض إسقاطه على المجتمع الصيداويّ”. وعن هذه النقطة تحديدًا، يقول طبيب العيون الشهير هاني الزعتري: “في إشبيلية وغيرها من المراكز الثقافيّة في صيدا لا يزال اليسار والعروبيّون والقوميّون المحرّكون الأساسيّون في المدينة. ويشكّل العقائديّون ومتخرجو الجامعات الجدد رافعة الفنون والآداب، ولو أنّ هناك أصواتًا تحاول البروز، لكن لا أرى قاعدة الارتكاز التي يبنون مشاريعهم عليها”.
السينما الفضاء
في حين تسرّ الكاتبة ابتسام كحّالة إلى “مناطق نت” أنّه “في السابق كان مركز “معروف سعد الثقافيّ” المنطلق الجدّي لأبرز الأنشطة في صيدا وجلّها ببعد يساري، بأوجه مسرحيّة وشعريّة وغنائيّة. اليوم هناك شركاء في صناعة المشهد الثقافيّ الصيداويّ، وعلى رأسهم إشبيلية التي تتخطّى توصيفها كمكان لتكون فضاء بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد وآفاق”. أمّا عن روّاد المكان فتقول غيدا اليمن، وهي مترجمة وكاتبة محتوى وعضو في فريق فضاء إشبيلية وحاضرة بشكل كثيف هناك: “الزوّار اليوميّون للمكان هم من طلاب الجامعات وأصحاب الأعمال الحرّة. يتناقشون أو يدرسون، بينما تحضر نخب من نوع آخر حينما يكون هناك حدث معيّن يتوافق وأمزجتهم”.
منذ افتتاحها الثاني، عرضت سينما إشبيلية ما يفوق 100 فيلم بين طويل ووثائقيّ، خصوصًا تلك الأعمال الحاملة لأبعاد فنّيّة راقيّة، وهموم إنسانيّة، فكانت ولا تزال محلّ نقاش وتحليل وتفاعل مع صنّاع تلك الأفلام، فيخرج المشاهد من صفته كمتلقٍّ فقط، ونراه ناقدًا، ومأوّلًا لسيمياء العمل، وهو ليس بالأمر الجديد على إشبيلية التي لعبت الدور ذاته في الثمانينيّات والتسعينيّات، حيث كانت هناك مجموعات متخصّصة وشغوفة بالفنّ السابع، معظمهم منتمٍ إلى الأقسام الشبابيّة في الأحزاب اليساريّة.
“لقد أسّسنا جمعيّة تسمّى “فنون إشبيلية” برؤية وخطّة جديدة، لنعرض الأفلام المستقلّة، العربيّة على وجه التحديد، وندعم المخرجين الشبّان، خصوصًا من لم تشملهم الأضواء بما يكفي ليعرفهم الجمهور أكثر”. تقول هبة زيباوي لـ”مناطق نت”، وتتابع: “هناك شراكة طويلة بيننا وبين سينما “متروبلس” في بيروت، لنكون متواجدين في جلّ الأنشطة هناك”.
التفاعل مع المسرح
كثيرة هي المسرحيّات التي عرضت في هذه الصالة الصيداويّة المغايرة، وغالبيّة تلك العروض تحمل الطابع الاحترافيّ، مثل “شو منلبس” للمسرحيّ يحيى جابر، بطولة أنجو ريحان، التي حقّقت نجاحًا كبيرًا في عرضها الأّول “حيث امتلأت المقاعد بأكملها، وعددها 447 مقعدًا” تقول هبة زيباوي، وتخبرنا كذلك عن المسرحيّة الوحيدة التي أنتجتها “فنون اشبيلية”، بمشاركة 15 صبيّة وشابًّا أكبرهم في الـ20 من عمره، ويتمحور مضمونها حول سينما صيدا القديمة، وكانت فلسطين حاضرة في ذلك العمل، كعنوان مرتبط بالمتغيّرات. “كانت فلسطين حاضرة في اشبيليا منذ تأسيسها، وحينما أعدنا تفعيل المشروع، عادت فلسطين كذلك لتكون حاضرة في كثير من أنشطتنا، وبطبيعة الحال قبيل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وبعده” تؤكّد زيباوي.
“فضاء إشبيلية”
ضمن هذا المشروع المتنوّع، هناك صالة متخصّصة بالأنشطة، أطلق عليها اسم “فضاء اشبيلية”، تحتمل إقامة ندوات وأمسيات وورش ومؤتمرات، كذلك يشكّل المقهى مركز حوار وتعارف وقراءة، فيشعر الزائر أنّه جزء من هذا المشروع، يخدمه بمجرّد الحضور، والتقاط كتاب من تلك المكتبة التي تحتلّ ركنًا في المكان. وتبدأ المشاركة عادة بعد متابعة الملصقات التي تعرض لجديد إشبيلية كما صفحة المركز على “الإنستاغرام”، والمجموعة الضخمة على تطبيق “واتس آب”.
هنا ستتفتّح الحواس على قصائد مختلفة، وأفلام تستفزّ الوعي، وندوات محرّضة على النقاش. والجميل في الأمر أنّ المجتمع الصيداويّ يحتضن هذه التجربة، انطلاقًا من المعرفة المسبقة بجذور العمل في الثمانينيّات، وجدّيّة المشروع الذي انطلق به ابن صيدا عدنان الزيباوي قبل أن يغلق في العام 2007، بعدما تبدّلت الأمزجة وإيقاعات المشاهَدة في كلّ لبنان، إضافة إلى افتتاح أحد “المولات” في عقار مجاور.
“هناك مركزيّة ثقافيّة تحشر الأنشطة الثقافيّة في العاصمة بيروت، لذلك تجربتنا محاولة اجتذاب الثقافة نحو الأطراف”. تختم هبة الزيباوي التي تستعدّ لإنجاز كثير من الاستحقاقات القادمة.