فقدان وذاكرة ووجع في سيرة “يوم خُطف أبي” لـ: جميلة حسين

تساءلت عندما أنهيت قراءة رواية جميلة حسين الجديدة “يوم خُطف أبي”، كمّ من الدموع ذرفت وهي تخطّ روايتها هذه؟ دموع جميلة التي شعرت بها مع كلّ صفحة من صفحات الرواية، لم تبقَ وحيدة، فقد لاقتها دموعي عند الصفحات عينها أيضًا. أنا، التي لا أعرف جميلة أمين حسين، ولا أحدًا من شخصيّات الرواية، انهمرت دموعي من أولى صفحات الرواية، وحتّى آخرها، فكيف حال الكاتبة التي سردت سيرة والدها الراحل وسيرة أحبّةٍ فارقوا الحياة منذ زمن؟
من البرازيل إلى البقاع
“تسرد “يوم خطف أبي”، الصادرة أخيرًا عن “دار النهضة العربيّة”، سيرة هيليو جواو إلياس؛ والد الكاتبة الذي أصبح اسمه أمين نعيم في ما بعد، والذي اختطفه جدّه لأبيه من حضن والدته في البرازيل، حين كان في الرابعة من عمره، مع شقيقه الأكبر مرشيدس جواو إلياس الذي صار اسمه مرشد نعيم، وكان قد بلغ السادسة من عمره في حينه.
تبدأ حسين الرواية من نهايتها، تخبرنا أنّ والدها، الذي اقتلعه جدّه من حضن والديه في البرازيل وجاء به إلى لبنان، فارق الحياة ولم تتحقّق أمنيته في رؤية والديه وشقيقاته. وأنّ الراوية، وبمساعدة ابن شقيقتها أنور، تمكّنت من مقابلة عمّتها البرازيليّة نجلا، عبر تطبيق “سكايب”. كذلك فإنّ سعيدة، شقيقة الكاتبة، وبمساعدة ابنها محمّد، كانا قد جمعا معلومات عن جذور الجدّة البرازيليّة، وتواصلا مع السفارة البرازيليّة، إذ تقدّما بدعوى أمام القضاء اللبناني، أفضت إلى استعادة العائلة بفروعها المتعدّدة، الجنسيّة البرازيليّة.
سيرة البقاع الغربيّ المنسيّة
مع مقدّمة الرواية التي تفصح عن نهاية قصّة خطفٍ مأسويّة، يتساءل القارئ عمّا ينتظره في سطورٍ توزّعت على 272 صفحة من الكتاب. ماذا سيقرأ، بعد أن عرف نهاية الرواية التي بين يديه؟
لكن، مع استكمال القراءة، يكتشف القارئ أنّ “يوم خطف أبي” لا تقتصر فقط على سرد سيرة طفلٍ أُجبر على العيش محروماً من أمّه، بل هي رواية تسرد سيرة البقاع الغربيّ (مسقط رأس الكاتبة حيث وقعت أحداث الرواية)، الذي مرّ عليه كثير وقليل: حروب وأوبئة وأمراض واجتياحات.
البقاع المهمّش في أكثر الأحيان، حتى حين يتحدّث المؤرّخون والكتّاب وصنّاع الفنّ عن الحروب التي مضت على لبنان، وحتّى في الحديث عن الاجتياح وفترة الاحتلال الإسرائيليّ، تذهب الحصّة الأكبر من الحديث إلى الجنوب، ويبقى البقاع طيّ النسيان والكتمان.
تنعم علينا حسين برواياتٍ وقعت أحداثها في القرية البقاعيّة لبّايا. عبر عمليّة سرد هذه الأحداث، تشاركنا الكاتبة عاداتٍ وتقاليد ومعتقداتٍ سادت في تلك المنطقة خلال زمنٍ بعيد. نتعرّف أكثر على شكل الحياة وقتذاك، حين كان يعتاش أهالي تلك القرى من العمل في الزراعة وتربية الماشية، ويكثرون من إنجاب الأولاد الذين ما أن يخطوا خطواتهم على الأرض، حتّى يباشروا بمساعدة أهاليهم في أعمال الأرض.
على رغم أنّ الجريمة التي أقدم عليها الجدّ قاسم الزيّات، وقعت منذ أكثر من مئة عام، إلا أنّه ما زال هناك رجالٌ كثر يتجرّؤون على اقتلاع الأطفال من أحضان أمّهاتهم
الجدّ الظالم… صورة لا تموت
على رغم هذا السرد التفصيليّ لزمنٍ، بل لأزمنةٍ مضت على المناطق البقاعيّة، يبقى الأكثر إثارةٍ في الرواية، هو محاولة الكاتبة استحضار شخصيّاتها. تنجح في رسم الشخصيّات بصورة واضحة وبأدقّ التفاصيل، حتّى نشعر وكأنّنا نعرف كلّ شخصيّة جلّ معرفة وعن كثب.
في الأجزاء الأولى من الرواية مثلًا، تعرّفنا حسين على جدّ والدها، حسين قاسم الزيّات، الرجل الذي تجرّأ على حرمان حفيديه من والدتهما. تجسّد لنا صورة واضحة تمامًا لرجلٍ ظالمٍ ومتلاعبٍ وزير نساءٍ ومبذّرٍ ومستهترٍ ومتهوّر.
تسرد الراوية تفاصيل كثيرة عن الجدّ، فنستشعر تسلّطه واستبداده. وعلى رغم أنّ الجريمة التي أقدم عليها الجدّ قاسم الزيّات، وقعت منذ أكثر من مئة عام، إلّا أنّنا ندرك، ونحزن، ومع تطوّر الوعي والحياة والمجتمعات، أنّه ما زال هناك رجالٌ كثر مثل حسين قاسم الزيّات، يتجرّؤون على اقتلاع الأطفال من أحضان أمّهاتهم، والأسوأ أنّ هذه الجريمة تتمّ بمساعدة رجال الدين، والمحكمة الجعفريّة، وغيرها.
امرأة تسبق زمنها
تُعرّفنا حسين على شخصيّاتٍ كثيرة في الرواية: والدها أمين، وعمّها مرشد، ووالدتها خديجة التي لُقّبت بـ”أمّ البنات” لكثرة إنجابها البنات، كما تُعرّفنا على شقيقاتها وأزواجهنّ وحتّى أولادهنّ.
تسكن في بعض صفحات الرواية شخصيّة مثيرة للغاية تُدعى زينب حسن، زوجة “مرشد” عمّ الكاتبة. تصفها الكاتبة في الصفحة 101 بـ”الجدعة”، وتضيف: “كانت تساوي عشرة رجال، أو قبيلة من النساء”. في صفحاتٍ تليها، تخبرنا حسين كيف تمرّدت زينب على أبيها وهربت من منزله لتتزوّج من مرشد، وكيف تحدّت نفسها في امتلاك أراضٍ أكثر من تلك التي كان يملكها والدها. لم تتردّد في تهديد زوجها بأنّه إذا طالت غيبته عنها ستتزوّج من غيره ولن تنتظره. هابها الجميع، بمن فيهم مرشد، وساعدت كثيرين، ولم تمانع في احتضان وتربية طفلٍ والده كان من الفدائيّين، بين أولادها الكثر.
في الصفحة 141، نضحك حين تسرد لنا حسين كيف كانت تتمجلس زينب في الساحة مع صديقاتها لتتفحّص أعضاء الرجال التناسليّة وهم مارّون، وتحكم على قوّتهم الجنسيّة وتضحك مع صديقاتها. كلّ ذلك فعلته زينب في زمنٍ بعيدٍ جدًّا، لم يكن فيه منظّمات حكوميّة تُخبر المرأة بأنّها في استطاعتها أن تفعل كلّ شيء وأيّ شيء. كانت زينب حرّةً وجريئةً دون نيّةٍ منها في أن تمتطي موجة الحريّات.
عائلة الكاتبة أفراح ومآسٍ
تتوالى الصفحات، فنتعرّف على سيرة عائلة الكاتبة، كذلك نتعرّف عليها هي نفسها، التي تزوّجت في سنّ الـ 15، ولم يقف زواجها في درب إكمالها علمها. هي التي أصبحت شاعرة وكاتبة وأستاذة في الأدب الحديث في “الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة”، في حوزتها أكثر من ستّة إصدارات تتنوّع بين نقد وشعر ورواية.
تسرد حسين كثيرًا من الأفراح والمآسي التي حلّت بعائلتها، وتتحدّث عن أبيها أمين، الذي تعرّف على الحزن منذ الصغر، والد حنون وكريم ومضحّ؛ تشاركنا في الأجزاء الأخيرة من الرواية كيف بدا رحيله، هو الذي رحل وفيًّا لعشيقته “السيجارة”.
ملحق حرمان عاطفيّ
لا تكتفي حسين بسرد سيرة والدها وعائلتها وبلدتها، بل تختار أن ترفق ملحقًا مع الرواية: بحثًا قصيرًا حول “الحرمان العاطفيّ أو نقصانه عند البعض، وما ينتج عنه من مشكلات نفسيّة وعصبيّة لدى الإنسان”. تسترشد في بحثها بآراء نقّاد وفلاسفة ومفكّرين. لعلّ المتسبّبين بحرمان الأطفال من أهاليهم، وبخاصّة من أمّهاتهم، يدركون حجم ونتائج الجريمة التي يقومون بها.
لكن، هل من يفكّر بفعل مماثل، يمكن له أن يتمتّع بالإدراك الكافي لفهم خطورة وبشاعة فعلته ونتائجها؟
رواية الذاكرة والألم
تفاصيل وحكايات كثيرة في الرواية تسردها جميلة حسين بصراحة وجرأة، أكثرها مأسويّ ومؤلم، لكن لا تخلو من المواقف الطريفة. الرواية ليست فقط شهادة على ظلمٍ قديم، بل أيضًا توثيق حيّ لذاكرة البقاع الغربيّ وأهله، تحمل أهميّة تتجاوز قصّة طفلٍ انسلخ عن أمّه؛ تحتضن في طيّاتها ثقافة وتاريخ بقعة كبيرة من لبنان، وتروي قصص شخصيّاتٍ عاشت كثيرًا وأصبحت في عداد الراحلين.
تبدأ مع رجلٍ ظالم، على شاكلته كثير من الرجال في أيامنا الحاليّة، تمرّ على قصص نساءٍ ناضلت كلّ واحدةٍ منهنّ على طريقتها الخاصّة، وتنتهي مع وفاة رجلٍ حُرم من حنان أمّه ولم تتحقّق أمنيته في لقائها ولقاء والده وشقيقاته.




