فلسطينيّو مخيم الجليل في بعلبك.. كابوس النكبة وحلم العودة
من بين المخيّمات الفلسطينيّة العديدة، المنتشرة جنوباً وشمالاً وفي العاصمة بيروت، والتي تتردّد أسماؤها دائماً في الأخبار والنشاط السياسيّ والاجتماعيّ الفلسطينيّ، ثمّة مخيم لللّاجئين الفلسطينيّين، إنّما لا أحد يسمع به إلّا في جواره القريب، ولا يُذكر اسمه إلّا قليلاً، هو “مخيم الجليل” أو مخيّم “ويفل” في بعلبك.
إنّ مفارقة تقف وراء اتّخاذ المخيّم لهذين الاسمين، الأوّل “الجليل”، على اسم المنطقة الشماليّة من فلسطين، والتي حمل أهلها المهجّرون قسراً من هناك اسمها وزرعوه هنا في بعلبك.
أمّا الثاني “ويفل” فيعود لاسم الضابط الفرنسيّ الذي سُمّيت الثكنة المبنيّة في إبان حقبة الإنتداب الفرنسيّ باسمه، وتحوّلت لاحقاً إلى مخيّم احتضن اللاجئين الفلسطينيّين.
بداية اللّجوء من ثكنة إلى ثكنة
بدأ لجوء الفلسطينيّين إلى مخيّم الجليل في عام النكبة، سنة 1948، حينها كان المخيّم يحمل اسم “ويفل”. وفد الفلسطينيّون إليه من منطقة الجليل، وتحديدًا من حيفا ويافا وصفد ومن بعض القرى المحاذيّة (تضمّ منطقة الجليل بين عشرين إلى ثلاثين قرية أو مدينة تعرف كلّها باسم الجليل، الممتدّ شمالًا نحو الأراضي اللبنانيّة).
في حديث إلى “مناطق نت” مع مسؤول الملف الاجتماعيّ في “اللجان الشعبيّة” في مخيّم الجليل وليد عيسى، يُشير إلى “أنّ اللجوء الأوّل تجلّى بتاريخ 15 أيار 1948، ذلك بعدما هُجّر الفلسطينيّون إلى منطقة بنت جبيل القريبة من الحدود الفلسطينيّة في جنوب لبنان، ثمّ قامت الدولة اللبنانيّة بنقل قسم من الفلسطينيّين إلى بعلبك، ووزعتهم بين المخيَّم وثكنة “غورو”، وكذلك في جوار عنجر. ولم تطل إقامة اللاجئين في ثكنة غورو إثر اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة وحاجة الجيش اللبنانيّ للتمركز في هذه الثكنة”.
وليد عيسى: تجلّى اللجوء الأوّل بتاريخ 15 أيار 1948، ذلك بعدما هُجّر الفلسطينيّون إلى منطقة بنت جبيل القريبة من الحدود الفلسطينيّة، ثمّ قامت الدولة اللبنانيّة بنقل قسم من الفلسطينيّين إلى بعلبك.
مخيّم “الجليل” تمسّكاً بحقّ العودة
من ناحيته، يقول عضو لجنة المتابعة المركزيّة للجان الشعبيّة في لبنان أسامة عطواني لـ”مناطق نت”: “إنّ الفلسطينيّين انتقلوا من عنجر إلى بعلبك، لأنّهم لم ينسجموا مع سكّان الجوار، الذين هم من المهجّرين الأرمن. آنذاك كان ثمّة مخيّم يُعرف في السجلّات الرسميّة للدولة اللبنانيّة ووكالة الأنروا باسم “ويفل”، لكن مع وصول طلائع المقاومة الفلسطينيّة إلى لبنان في العام 1973 بات المخيّم يعرف باسم “مخيم الجليل” كدليل على التمسّك بحقّ العودة”.
وبحسب عطواني “يبعد المخيّم 87 كيلومتراً عن العاصمة بيروت. في بدايته، كان يتألّف من مبنيين اثنين (بنايتين) وعدد من المخازن واسطبل للخيل. عندما سكنته العائلات عانت كثيراً، ذلك لأنّ المخيم لم يكن مخصّصًا للسكن، إذ لا تدخل إليه الشمس ولا الهواء النقيّ. تتوسّط المخيّم ساحة فارغة، لكنّها ضيّقة جدّاً نتيجة محاولات التمدّد العمراني الأفقيّ. أمّا التوسّع العموديّ فقد سُمح به لمن لا يستطيع أن يسـتأجر خارج المخيّم”.
عن التجربة القاسية الّتي عايشها أبناء المخيّم، يتذكّر وليد عيسى “سكّان المخيّم الّذين كانوا يقتطعون غرف البيوت المتواضعة، ببطّانيّات أو كرتون، لكي يؤمّنوا متّسعًا لكلّ اللاجئين في المخيّم. أمّا المرافق الصحّيّة فكانت مشتركة بين العائلات، مفصولة فقط بين الرجال والنساء. ولأنّ المياه لم تكن متوافرة في المخيّم، كانت العائلات تأتي بها من البساتين المجاورة، وظلّت على هذا النحو مدّة طويلة من الزمن”.
ويضيف عيسى: “إنّ المخيّم غير قابل للتوسّع عموديّاً، بحيث لا يمكن بناء أكثر من ثلاثة طوابق، التزاماً بقوانين التملّك اللبنانيّة. المرّة الوحيدة الّتي كُسرَت فيها القاعدة كانت في العام 1973 حين قامت بعض الفصائل الفلسطينيّة بأخذ إذن استثنائيّ من الدولة اللبنانيّة، في حينه كانت القوانين أكثر مرونة في هذا الشأن”.
سكّان المخيّم من الماضي إلى الحاضر
بحسب عيسى “كان عدد اللاجئين الّذين تهجّروا من أراضيهم في فلسطين (العام 1948) إلى المخيّم نحو ألف شخص، أمّا اليوم فيوجد في داخل المخيّم حوالي أربعة آلاف فلسطينيّ، إضافة إلى نحو ألفين تركوا المخيم وينتشرون اليوم في أرجاء بعلبك”.
أمّا عطواني فيشير إلى “أنّ عدد العائلات الّتي لجأت إلى المخيّم في عام النكبة كانت 250 عائلة، إذ كان متوسّط عدد أفراد كلّ أسرة لا يتعدّى خمسة أفراد. وصل عددهم إلى ألف لاجئ تقريباً، وكمجتمع “ولّاد” وبحسب إحصاءات الأونروا، وصل عدد العائلات اليوم إلى 650 عائلة، وفي خارج المخيّم كذلك هناك 600 عائلة”.
يتألّف المخيّم عمومًا من مجتمع فتيّ، إذ تطغى عليه الفئات العمريّة ما بين 13 و40 عامًا، تصل نسبتهم إلى 55 بالمئة من المجموع العامّ. “هناك قرار بعدم إدخال أحد من المخيّمات الأُخرى إلى مخيّم الجليل إلّا ما ندر، وذلك للحفاظ على النسيج الإجتماعيّ وأمن المخيّم”.
بين مناخات دافئة وقارسة
بحسب عطواني، “في بدايات لجوء الفلسطينيّين إلى المخيّم، آثر عدد منهم بعد فترة قصيرة الانتقال إلى مخيّمات الجنوب. في العام 1987 هاجر عدد مِن سكّان المخيّم إلى الدول الاسكندنافيّة، في مقابل عدد قليل جداً جاء من مخيّمات أُخرى إلى مخيّم الجليل. لقد عانى سكّان المخيّم من برودة الطقس، إذ إنّ طقس بعلبك قارس شتاءً، وهذا ما لم يكن الفلسطينيّون القادمون من منطقة الجليل المميزة بطقسها الدّافئ، معتادين عليه”.
ويتحدّث عطواني عن قريته الفلسطينيّة الأمّ واسمها “لوبية” التي “كبّدت العدو في العام 1948 خسائر فادحة، فدمّرها العدوّ بالكامل وحوّل اسمها إلى لاڤي”. ويشير عطواني إلى أنّ “غالبية قرى الجليل مدمّرة منذ احتلالها، نعرف ذلك من فلسطينّيين يحملون جوازات سفر أوروبّيّة استطاعوا الدخول إلى الأراضي المحتلّة ورؤية كلّ شيء وإعلام الأهالي بالواقع”. ويتابع: “وصل الأمر بهم إلى حدّ تدمير مقابر الفلسطينيّين، طمساً لأيّ أثر لهم هناك”.
التعليم والصحّة في المخيّم
في ما يخصّ المرافق التعليميّة والاجتماعيّة والصحّيّة يلفت عيسى إلى “أنّ اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر تولّت في البداية تأمين هذه الخدمات، ومن ثمّ جاءت الأونروا فأسّست مطعماً ومدرسة ابتدائيّة، واستأجرت مبنى مدرسة للمرحلة المتوسّطة في خارج المخيّم. كما بَنت مسجداً، ومن ثمّ أنشأت مجمّعًا لكلّ المراحل التعليميّة وصولًا إلى الثانويّة، لكنّها لم تبنِ مستشفى، بل استعاضت عنه بمركز صحّيّ”.
التعليم في مدارس المخيم مجانيّ على نفقة الأونروا، إلّا مرحلة الروضات فهي لا تتكفّل بها. كما ويستفيد من هذا التعليم المجّاني التلامذة اللبنانّيون الذين هم من أُمّهات فلسطينيّات.
ويعدّد عيسى أسماء أهمّ الجمعّيات التي تهتمّ بشؤون المخيم وهي: “النجدة الاجتماعيّة”، “بيت أطفال الصمود”، “جمعيّة الجليل”، “مؤسّسة شهد”، و”مؤسسة الشفاء”. وهي جمعيّات لها شركاء مموّلون منها: UNDP و DRC و NRC.
يقول عطواني: “هناك محال تجارية كثيرة في داخل المخيّم، قامت من أجل تأمين احتياجات سكّان المخيّم، لأنّ المخيّم يبعد مسافة كيلومترين اثنين عن سوق بعلبك التجارية، ما أمّن كذلك فرص عمل لبعض سكّان المخيم في المتاجر والتجارة”.
ويتابع عطواني:” تتكفّل الأونروا بعلاج الفلسطينيين سواء كانوا من المقيمين في المخيّم أو خارجه، بحيث أمّنت لهم عيادة صحّة عامّة وطبّ أسنان ومختبراً وصيدلية توزّع معظم الأدوية مجّاناً. وفي حالات الاستشفاء يوجد تغطية صحّيّة لا تتجاوز 70 أو 75 بالمئة. كما ويتكفّل الضمان الصحّيّ الفلسطينيّ بالنسبة المتبقيّة، طبعاً لمن هم ضمن منظّمة التحرير الفلسطينية، أمّا من هم خارج المنظّمة فنسبة تغطية الضمان لا تتجاوز عشرة بالمئة”.
عطواني: تتكفّل الأونروا بعلاج المقيمين في المخيّم، ويوجد تغطية صحّيّة لا تتجاوز 70 أو 75 بالمئة. أمّا من هم خارج المنظّمة فنسبة تغطية الضمان لا تتجاوز عشرة بالمئة.
بيد أنّ الأزمة الإقتصاديّة في لبنان انعكست على اللّاجئين، وحلّت البطالة بنسبة عالية في المخيّم. وبحسب الأونروا فإن نحو 93 بالمئة من سكّان المخيّم هم في حالة فقر مدقع، ويبقى المغتربون هم الأمل الوحيد للمقيمين فيه.
ويذكر عطواني “وجود برنامج العسر الشديد الّذي أسّسته الأونروا، وهو برنامج يساعد من يعاني من فقر مدقع أو من عنده مرض مستعصٍ. لكن نسبة المساعدة لا تتجاوز الأربعين بالمئة، لأنّه برنامج متوقف عن التعديل منذ العام 2015، ولا يمكن إنتساب جدد إليه منذ ذلك الحين، بحجةّ العجز في موازنة الأونروا”.
المخيّم وبعلبك وتوأمة المقاومة
في ما يخصّ الكفاءات والمتفوّقين من أبناء المخيّم يعتبر عيسى “أنّ أكفأ طاقم تعليميّ وصحّيّ في بعلبك هو من الفلسطينيّين”. أمّا عن الأَعلام في النضال فيذكر أبو أسامة محمّد بدران (وهو حيّ وقد عايش النكبة)، عمر قاسم موسى، محمود واكد، وأبو الناصر.
ويضيف عيسى إلى الأسماء المذكورة، أسماء: أبو عمر ضرغام، وأبو أحمد نايف عثمان، وخالد عطواني (وهو أسير مُحرّر من السجون الإسرائيليّة).
ويؤكّد “حسن العلاقات بين أبناء المخيّم والبعلبكيّين. فإنّ مخيّم الجليل من أكثر المخيّمات هدوءًا، نتيجة التنسيق الدائم بين اللجان الشعبيّة والدولة اللبنانيّة والمرجعيّات المحلّيّة. بحيث هناك زيارات دائمة إلى المخيّم من قِبَل رئيس بلديّة بعلبك والمحافظ وممثلي الأحزاب الوطنيّة، أمّا على الصعيد الاجتماعيّ، فتكثُر حالات المصاهرة بين أبناء المخيّم والبعلبكيّين”.
يعتبر عطواني “أنّ تطويق المشاكل، حتّى الفرديّة منها، هو قرار متّخذ منذ بداية اللجوء، برغم الإنقسامات بين منظّمة التحرير وقوى التحالف الفلسطينيّ. لذلك فإنّ الإندماج الحاصل بين العائلات والعشائر في المنطقة فيه انسجام كبير، ولم يشهد المخيّم أيّ حادث أمنيّ، إلّا ما تعرّض له من قصف إسرائيليّ في العام 1984، حيث سقط بنتيجته 16 شهيداً فلسطينيّاً”.
عطواني: “تطويق المشاكل، حتّى الفرديّة منها، هو قرار متّخذ منذ بداية اللجوء، لذلك فإنّ الإندماج الحاصل بين العائلات والعشائر في المنطقة فيه انسجام كبير.
لجأ الفلسطينيّون إلى بعلبك بتذكرة هويّة من الجليل، كما إلى العديد من المناطق اللبنانيّة، مبعدين عن بلدهم، يحملون معهم أخباراً وحكايات من فلسطين الأمس، وكيف أصبحت حال الحكايات اليوم.
تشاركوا مع اللبنانيّين مشاكل بلدهم وعايشوا الحرب الأهليّة وصراع زعماء الطوائف. لهم أياد إنمائيّة في بعلبك، وبخاصة في نطاق التعليم. وهم على تعاون دائم مع الأحزاب “الوطنيّة” اللبنانيّة والمسؤولين في المنطقة، توحّدهم أجواء “المقاومة” المتماهية مع مبادئهم ونضالهم المستمر من أجل تحرير فلسطين.