في أثَر الفلافل بين “فريحة” و”صهيون” و”عكّاوي” و”خليفة”

في ذلك القرص الأشقر الساخن، تختبئ حكايات باردة. للفلافل مقدرة هائلة على توليد التداعيات التراثيّة والحديثة، مِن زمن الأقباط وصولًا للـ”ماك فلافل”. تشعّبات حضاريّة وثقافيّة واقتصاديّة واجتماعيّة إبداعيّة وصحّيّة. أبعاد سمَحت باحتساب يوم 12 حزيران (يونيو) من كلّ عام يومًا عالميًّا للفلافل، احتفاءً بطعام ضارب عموديًّا في عمق التاريخ، وأفقيًّا في أسواق الحاضر، إذ أثبت الفلافل قوّة عبوره بين الطبقات، بعد اندماجه بالـ”بروليتاريا” منذ إرهاصاته الأولى.

في لبنان ارتبط اسم الفلافل بمطاعم عريقة، مثل “فريحة” و”صهيون”، ثم “الأرناؤوط” و”عكّاوي” و”خليفة”، وبعدها برزت نجوميّة عديد من الأسماء، حال “أبو رامي” عند الواجهة البحريّة لمدينة صيدا.

صهيون ومملكة الفلافل والطرطور

احتلّ فلافل صهيون، مكانة بارزة في ذاكرة اللبنانيّين، ممّن كانو يقصدون ساحة “البلد” قادمين من مختلف الأطراف لشراء الحاجيّات أو مشاهدة عروض السينما، على أن تكون هناك محطّة لسندويش فلافل محضَّر بأيدٍ خبيرة، مثل حال مصطفى صهيون، الذي أسّس مطعمه مطلع ثلاثينيّات القرن الماضي، ليبقى قطبًا ومركز اهتمام حتّى العام 1978، حيث أجبرته الحرب على إغلاق أبوابه، ونهاية مشروعه بشكل موقَّت، ونهايته بشكل دائم إذ توفّى لاحقًا في السنة ذاتها.

فلافل صهيون

مع تعب رجال الميليشيّات وانسداد الأفق، حطَّت الحرب أوزارها في العام 1990، ليطلّ “فلافل صهيون” بعد عامين بحانوتين متجاورين، يفصلهما جدار واحد أين منه جدار برلين الذي سقط ذات ثورة، ولم يسقط جدار صهيون حتّى الآن بين الشقيقين فؤاد وزهير، إذ صرّح الأخير قائلًا: “شقيقي؟ أودّ ألّا أراه بجواري أبدًا”، بينما يقول فؤاد: “لم يعد لديّ شقيق بعد اليوم”.

تصريحان أدلى بهما الشقيقان للصحافيّ “سوميني سينغوبتا”، مراسل “نيويورك تايمز”، إذ أنجز تحقيقًا مطوّلًا حول خلافهما، وتمّ توزيعه على مئات وسائل الإعلام العالميّة المتعاقدة مع خدمة “نيويورك تايمز”. المفارقة أنّ سعر سندويش الفلافل مختلِف بين المطعمين، كذلك عدد الأقراص في الخبز، فأحدهما يضع ثلاثة أقراص، بينما يضع الثاني أربعة، وقد احتفظ زهير وفؤاد برمز التاج لمتجريهما بفارق اللون، إذ اختار أحدهما اللون الأزرق، والآخر اللون الأصفر. تاجان لمملكتين من الفلافل و”الطرطور”.

ميراث فلافل فريحة

بجوار سينما “متروبّول” افتتح فلافل فريحة في العام 1945، اسم صار عنوانًا لمعظم زوّار “البرج” (الاسم الشائع لوسط بيروت)، وكذلك الخيار الأوّل لتجّار الأسواق المتجاورة، ويبقى هذا الاسم في حال صعود جرّاء خلطة خاصّة أورثها لأبنائه ثمّ لأحفاده من الذين استكملوا مشروعهم في الأشرفيّة وبرمّانا، بعدما دفعتهم الحرب إلى مغادرة المكان. وقتذاك كان الجميع يعرف سعر السندويش، بمقدار معرفتهم اسم المتجر، كان ربع ليرة (25 قرشًا) سعر لم ينسَه أيّ من ذوّاقة ذاك الزمان.

مع تعب رجال الميليشيّات وانسداد الأفق، حطَّت الحرب أوزارها في العام 1990، ليطلّ “فلافل صهيون” بعد عامين بحانوتين متجاورين، يفصلهما جدار واحد أين منه جدار برلين الذي سقط ذات ثورة

إنّ أوّل ما اشتهرت “أكلة” الفلافل في صيدا كانت في شارع “الشاكريّة”، إذ دخلت الى المدينة عبر آل العكّاوي الذين تهجّروا من مدينة عكّا في فلسطين وافتتحوا مطعم “فلافل العكّاوي” مطلع الخمسينيّات من القرن الماضي. وفي مطلع الثمانينيّات تفرّع الاسم وانتشر في أكثر من مكان في عاصمة الجنوب.

أيضًا كانت هناك مطاعم شعبيّة شهيرة في بيروت، مثل فلافل أراكس، الذي عُرف في برج حّمود منذ مطلع الخمسينيّات، وصل إرثه إلى الأحفاد، إذ افتتحوا ثلاثة فروع وربّما أكثر. كذلك هناك فلافل محمود الكبّي في حيّ الروّاس في منطقة طريق الجديدة، في حين اشتهرت عائلة خليفة بالفلافل، إذ تنتشر أفرع الأقارب في معظم المناطق اللبنانيّة.

فلافل «فريحة»
أرناؤوط فلافل و”تيك توك”

في النبطية بدأت رحلة حمد أرناؤوط مع الفلافل بعدما قصد فلسطين قبيل احتلالها في العام 1948، وعاد يحمل أسرار المهنة والخلطة، فكان حانوته عبارة عن “كيوسك” بسيط، استمرّ 15 عامًا، ثمّ افتتح مطعم فلافل في سوق النبطية التجارية، لكن التدمير طاوله في تموز 2006، فانتقل إلى مكان آخر.

ويستمرّ الاسم اليوم مع الأبناء والأحفاد، بأكثر من فرع. في تلك الأيام كان سعر سندويش الفلافل 15 قرشًا، مع عرض خاص بليرة واحدة (100 قرش) مقابل سبع سندوتشات. هكذا لا يعود المطعم، مجرّد وسيلة لتسكين الجوع، بل معلمًا يدمغ المكان ببصمته ورائحته وأسراره التي تبدأ بخلطة الفلافل، ولا تنتهي بطريقة تحضير الطرطور والمخلّالات.

مواكبةً لمتغيّرات الزمن، يعمد الحفيد أشرف أرناؤوط على مجاراة نجوم الـ”تيك توك” بطريقته الغرائبيّة للفت الأنظار إلى سندويش فلافل يقدّمه في النبطيّة، مفتتحًا فيديواته بعبارة “يعني الأصلي” ويختمها بكلمة “بريمو”. أدمن أشرف صناعة “التراند” بسندويش فلافل بالشوكولا السائل، أو الفلافل بمنقوشة الزعتر، أو الكروّاسان، أو كعكة العصرونيّة، أو مشطاح الخبز، وصولًا إلى اختراع خارج السندويش، هو فتّة الفلافل. خيارات لا يعتمدها في مطعمه، إنّما تبقى وسيلة لفت نظر، هاجمه عليها كثيرون، إذ اعتبروا أنّ الحفيد يشوّه أصالة اسم الجدّ وارتباطه بنسيج المكان.

فلافل الأرناؤوط في النبطية
فول وحمّص وطرطور

لكن الاجتهادات ليست جديدة ضمن سياقات الفلافل، خصوصًا في مصر إذ يطلقون عليها اسم “طعميّة” (في الاسكندرية يسمونها فلافل)، ويقدّمونها رفقة البطاطا، والباذنجان المقلي، أو البيض المسلوق، وقد تكون الأقراص محشوّة بالجبن. هناك الفلافل مؤلَّفة من مكوّن واحد، هو الفول، بينما في سوريّا فيحضرّون الفلافل من الحمّص، في حين يمزج اللبنانيون في خلطتهم بين الفول والحمّص.

أمّا الطرطور فهي صلصة الترتار أو الطَّرَطُور أو الطَّارَطُور،‏ من أنواع الصلصات الرائجة المحبّبة لكثيرين، تستعمل مع الأسماك خاصّة ومع سندويش الفلافل والشاورما أيضًا، خفيفة القوام ذات طعم شهيّ. يعود أصل التسمية إلى الفرنسية Sauce tartare، إذ سمّيت الصلصة باسم التتار الذين كانوا يطلبون صلصة حادّة. تتكوّن من الطحينة والثوم والملح والفلفل والليمون ويمكن إضافة قليل من لبن الزبادي في حالات خاصّة.

أدمن أشرف صناعة “التراند” بسندويش فلافل بالشوكولا السائل، أو الفلافل بمنقوشة الزعتر، أو الكروّاسان، أو كعكة العصرونيّة، أو مشطاح الخبز، وصولًا إلى اختراع خارج السندويش، هو فتّة الفلافل.

“جاست” فلافل

منذ أكثر من عشر سنوات، افتتح في بيروت مطعم يحمل اسم “جاست فلافل”، قدَّم ذلك القرص الفقير بكل فخامة البرجوازيّة، ليكون في خبز “الباغيت” أوما يشبهه مع اضافات متنوّعة، لم يستجب لها الزبائن سوى في فترة الافتتاح الأولى إذ يميل الناس إلى التجريب، ولم تكن تلك النكهات سيّئة، إنّما ليست مبهرة لدرجة تكرار الزيارة، خصوصًا أن أسعار السندوتشات كانت غالية جدًّا نسبة إلى مكوّنات السندويش.

قبل “جاست” فلافل بسنوات، كانت هناك تجربة مشابهة في مصر، ضمن فروع “ماكدونالدز”، إذ يعتمد بروتوكولًا في البلدان التي يفتتح فيها فروعًا جديدة، بأن يقدّم صنفًا مرتبطًا بنسيج ذلك البلد، فكان “ماك فلافل” في خبز البرغر، مع البندورة والخسّ والمايونيز.

عكّا أمّ الفلافل؟

ما من إثبات يجزم أصل الفلافل، القبطيّة أو الفلسطينيّة أو اللبنانيّة (كما تشير بعض الدراسات). بل هناك قفزات في السرديّة، تبدأ منذ ألف سنة في الحالة المصريّة، ثم فجأة ثمّة من يردّ الابتكار إلى جيش محمّد علي باشا، وهو طيّ الزمن الحديث، بينما يقول الفلسطينيّون إنّ الفلافل انطلقت من عندهم، من عكّا التي حملت أمومة الفلافل بلقب “عكّا أمّ الفلافل”.

ترتفع أسهم الفلافل في زمن الصوم المسيحيّ، فتحتل مكانة عزيزة ضمن واجهة أطعمة “القاطع”، والفلافل له حصّة الأسد عند النباتيّين، إذ يتجنّبون تناول اللحوم لأسباب أخلاقيّة أو دينيّة أو صحّيّة.

فلافل فنّيّة أدبيّة

و”فلافل” هو عنوان فيلم لبنانيّ للمخرج ميشال كمّون، بينما “فلافل النازحين” عنوان رواية للأديب الراحل الدكتور سماح ادريس. وفي قصيدة “بندقيّة وكفن”، كتبَ محمود درويش: “وازدادَ جوعًا حين شمَّ رائحة الفلافل..”، وللفلافل أغنيات كثيرة ونكات أكثر، وبعضها ينتمي إلى الكوميديا السوداء، مثل رسم ناجي العلي لرجل فقير يضيء شمعة مغروزة في قرص فلافل في عيد رأس السنة.

بائع فلافل في مدينة القدس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى