في أحوال الذباب وأهواله منذ الأزل والأسطورة

امتقع وجه مضيفنا بمدّ من الإحراج والتلبّك بسبب بعض الذباب الذي كان يحوم فوق أطباق الطعام. كان ذلك أثناء عشاء شهيّ يضمّ مجموعة من الأصدقاء فوق سطح أحد الأبنية القديمة والمشرفة على العاصمة بيروت.

“منّي وعليي” لم أبالِ على الإطلاق بذلك الذباب الطنّان وقد استدعى بلحظ الخاطر واحدًا من أصدقائي الأقربين في عالم الأدب…الكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي الذي وصف الذباب في واحدة من قصائده بالقول: “أجزاء هائمة من الروح تُركت في مكان مجهول”.

من النافل أن يكون الذباب محلّ قرف وبالحدّ الأدنى محلّ إزعاج للبشر، إلّا أنّ محايثة هذه المخلوقات ليوميّاتنا البشريّة يسوق المرء لأنّ يردّد مع الكاتب والناقد الفنّيّ الفرنسيّ الشهير أندريه باي قوله: “الذباب… يا لهؤلاء الشهود الدائمون منذ الأزل على الكوميديا البشريّة”.

ذباب الفراعنة وهوميروس

يُجمع معظم علماء الحشرات (Entomologists) في العالم على أنّ الذباب لا يخضع إلى غريزة مستبدّة تتحكّم به كما هي حال النمل أو النحل مثلًا. أعيد على نفسي هذه الملاحظة وأنا أشاهد تبرّم إحدى السيّدات إزاء عناد ذبابة حرون كانت تحوم حول هذه السيّدة بعناد غير آبهة بتلويحة يدها. فالذباب، هذه الكائنات الغريبة إنّما المألوفة لدينا كبشر على حدّ قول صاحب كتاب “التاريخ الطبيعيّ” المؤرّخ الرومانيّ القدير بلّليني، لا يتوانى – الذباب – عن محاصرتنا بعناد واستفحال شئنا ذلك أم أبيناه.

كان الطعام فوق ذلك السطح الفسيح مُغرٍ إلى حدّ لا يوصف، ولا أخال أنّ ثّمة ذبابة في العالم قد تتحاشى، إسوة بنا نحن الضيوف، ذلك الإغراء وهي الحشرة المستبدّة الحرّة والتي داخلت حياتنا منذ آلاف السنين ولا بأس في هذا السياق الإشارة إلى الوجاهة التي كان يتمتّع بها الذباب في الحضارة الفرعونيّة حتّى أنّ كبار الفراعنة كانوا يقدّمون للجنود الأشدّاء تماثيل الذباب المصنوعة من الذهب أو النحاس علامة الصمود والثبات والمثابرة.

وربّما هذه الوجاهة التاريخيّة للذباب هي التي دفعتْ الكاتب الإنكليزيّ في العصر الفكتوريّ جون راسكن إلى وصف نفسه بأنّه مجرّد جيفة غير ناضجة بالنسبة إلى الذبابة الجائعة.

لم أنزعج بالمرّة من ذبابات ذلك العشاء اللطيف وقد أشعلتْ تلك الذبابات في ذهني كتابات عديد عظماء الأدب والشعر والتاريخ والدراما والمعتقدات والسحر التي تطرّقتْ للذباب وتخيّلتُ في تلك اللحظات القدرات السحريّة للذباب كما صيّر إلى شرحها في أحد النصوص الآراميّة بل رأيتني أنصت السمع إلى هوميروس وهو يتكلّم عن الأفواه العملاقة للذباب في أحد مقاطع الإلياذة!!

الذباب والأفكار الداشرة

تراوح وجود الذباب في جلّ الحضارات بين الخير والشرّ، بين الشيطنة والألوهة… بين الطيبة والخبث وبين متعة مراقبتها والتحرّج من وجودها. أزاحتني واحدة من ذبابات ذلك السطح العتيق عن الجَمعة اللطيفة وتبادل الأحاديث مع الأصدقاء وقد أرهقتْ نظراتي بسبب ذلك التداخل الهائل لطيرانها وحطّها. كانت تراوح تلك الذبابة بين الحضور والغياب وبين الأنس والوحشة، ورأيتني على غفلة منّي أستلّ من بين جناحيها ما قاله عن الذباب الشاعر الرومنطيقيّ جون كيتس وأيضًا ما قاله ذلك الآخر بيرسي شيلّلي حيث اجتمع كلّ منهما، وكلّ على طريقته الخاصّة، على الربط بين الذباب والأفكار الداشرة الهائمة المدهشة والمبعثرة… تلك الأفكار التي من المستحيل لمّ شتاتها.

يقول أحد آباء الكنيسة في أوروبّا القرن الثامن عشر إنّ وجود الربّ يتجلّى بوضوح عبر تركيب قدم الذبابة، كما يتجلّى الضوء الساطع للشمس

أعادني صوت إحدى الفتيات إلى تلك الصحبة الجميلة وقد استبدّ صوتها بكلّ الأجواء. كانت تتكلّم عن نفسها طوال الوقت وبين كلّ عبارة وأخرى كانت تعيد علينا اسمها لألقاني مجدّدًا في بحر تلك النصوص التي تكلّمت عن الذباب، وهذه المرّة مع الأسطورة الإغريقيّة حيث الفتاة الجميلة مويا وشغفها الذي لا حدود له، لأن تكون مشهورة وأن يتردّد اسمها في طول بلاد الإغريق وعرضها.

ربطتْ الأسطورة الإغريقيّة بين مويا وخلق الذباب في العالم ذلك أنّ تضرّعات مويا للإله زوس لأن يحقّق حلمها بالشهرة دفعه إلى أن يحوّلها إلى ذبابة، فإذا بها في كلّ مكان، وإذا بسيرتها فوق كلّ لسان، وإذا بطنينها – ودائمًا بحسب الإغريق – هو صوت مويا يكرّر: أنا مويا…أنا مويا …أنا مويا إلى الأزل.

قدّيس الذباب

إنّه الذباب الذي ينخر الوجود بحضوره لكنّه أيضًا، كما يرى إلى الأمر أحد المتخصّصين بالذباب، يمثّل أنفسنا المضطربة. فالذبابة مثلما يشهد تاريخها الحيّ أكبر من حجمها بكثير إذ تراها وبكلّ براءة تدخل إلى غرفة شاعر- على سبيل المثال لا الحصر– فتتحوّل هي إلى القصيدة.

فإذا كانت الذبابة قد جسّدتْ في بعض الحضارات صورة الارتباك بين الروح والجسد، فإنّها في حضارات وفي حقب تاريخيّة أخرى تراها جسّدتْ كلّ معاني الطهارة. وليس من باب العبث في هذا السياق أن يقول أحد آباء الكنيسة في أوروبّا القرن الثامن عشر إنّ وجود الربّ يتجلّى بوضوح عبر تركيب قدم الذبابة، كما يتجلّى الضوء الساطع للشمس.

لكنّنا في موسم الحرّ الشديد حيث النمل والذباب والبعوض والديدان وبشكل خاص الصراصير التي آمل أن أوفيها حقّها بمادّة كتابيّة في الأيّام المقبلة

وأيضًا ليس من الغرابة في هذا الصدد أن يُلقّب القدّيس الكتالونيّ نارسيسوس بقدّيس الذباب على خلفيّة وابل الذباب الذي هاجم الجيش الفرنسيّ الذي اجتاح مدينة هذا القدّيس في العام 1285 والتي تدعى جيرونا، بحيث اندحر الجيش الفرنسيّ، وهو ما خلّده في التالي من القرون سلفادور دالي عبر منحوتة لنارسيسوس وقد حفر الفنّان الإسبانيّ فوق بطن القدّيس ذبابة.

في كتابه “عالم الذباب” يقول العراقيّ معروف الرصافي، عندما نتحدّث عن نقل الأمراض لا يهمّنا الذبابة نفسها إنّما المهمّ من أين جاءت. لا شكّ بصحّة ما قاله الرصافي، إنّما ما لم يقله هو أنّ الذباب وإن كان في بعض وجوهه ناقلًا للأمراض، لكنّه في وجوه أخرى هو ناقل لمعتقدات سادت إلى أزمان وأزمان وإلى أفكار تناقلتها الأقوام والقبائل والشعوب.

كان عزيزي القدّيس أوغسطينوس يقول إنّ حضور الذباب وبصرف النظر عن الأسباب يقع في باب الصدفة.

بين الولائم والذباب

لست أدري إذا ما كان الصديق صاحب تلك الدعوة الكريمة فوق ذلك السطح، يعي أنّه يكرّر عبارة أوغسطينوس أثناء ترداده عبارات الاعتذار فوق مسامع ضيوفه بسبب الحضور المفاجئ للذباب، وكم تمنّيتُ رأفة بصديقي هذا لو أنّه كان على اتّصال بالإله الإغريقيّ أبّوميوس الذي كان يتمّ تكليفه من قبل بقيّة الآلهة في اصطياد الذباب أثناء الولائم الكبرى، وهي مهنة أكملها لاحقًا الإله الرومانيّ ماياغروس وهو الذي على الرغم من تفانيه بعمله في اصطياد الذباب كان يصرّ على أنّ اصطياد كلّ الذباب في الولائم البشريّة منها أو الإلهيّة يقع في باب المستحيل.

كتب مرّة العالم الإسبانيّ ليون بّاتيستا آلبرتي (1404- 1470)، كم هو أمر شاعريّ ومسالم وكم ستكون حياة البشر متّزنة وهانئة لو تصرّفوا مثل الذباب واكتفوا بحاجاتهم من الطعام والحلوى.

طبعًا، لا أتبنّى حرفيًّا ما قاله آلبرتي، ولكنّ هذا لا يمنعني من القول إنّ العشاء فوق السطح بالنسبة إليّ كان ممتعًا ولم تعكّر تلك الذبابات صفو الشهيّة من قريب أو من بعيد. فنحن في فصل الصيف حيث المهرجانات والوجبات الفاخرة واللقاءات فوق الأسطح أو داخل الصالات المغلقة، لكنّنا أيضًا في موسم الحرّ الشديد حيث النمل والذباب والبعوض والديدان وبشكل خاص الصراصير التي آمل أن أوفيها حقّها بمادّة كتابيّة في الأيّام المقبلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى