في أسواق طرابلس القديمة.. سلال القصب تتحدى العولمة
ما إن تصل إلى بركة الملاحة في طرابلس القديمة، حتّى يجذبك مشهد الحاج محمّد السراج وهو منغمس بين تفاصيل متجره لبيع سلال القصب، إذ يحمل فرشاة بيد، وفي أخرى سلة متوسّطة الحجم، ينفض عنها الغبار وآثار الطريق.
يؤمن الحاج السبعينيّ الذي زارته “مناطق نت” في متجره بأنّ “لا يوجد وقت فراغ لنضيّعه، فالإنسان مأمور بالعمل والمعرفة. وفي الوقت الذي لا نبيع فيه أو نستقبل الزبائن، نقوم بالترتيب والتنظيف داخل المحلّ وفي ممرّات السوق وأزقّتها، لأنّ رزقة الإنسان هي في وقته وصحّته”.
محمّد السراج واحد من الوجوه المحبّبة في قلب السوق القديم، الذي يقود إلى سوق حراج، وزقاق الكندرجيّة، وهو شاهد على حقبة تاريخيّة بأكملها، وصورة عن الشريحة التي تتوق إلى التعلّم المستمرّ.
مع مرور الزمن، تحوّل الرجل الطاعن في السنّ إلى “علامة فارقة” في السوق الآخذ في السير على طريق التحديث، فهو ما زال مواظبًا على مهنته التي ورثها عن أبيه، كذلك بات يشكّل مقصدًا للباحثين عن بعض الأدوات المنزليّة التي تدخل شيئًا فشيئًا ضمن دائرة “الأنتيك” بفعل تبدّل الوظيفة، فما كان في السابق جزءًا من التفاصيل اليوميّة كالسلّة، والهاون الخشبيّ، ومضارب المعمول والكعك، وكراسي القشّ والخيزران، أصبح جزءًا من زينة المطابخ، وأحيانًا الصالونات التراثيّة.
الدّنيا دولاب
بدأت مسيرة محمّد فوزي بالي السراج داخل السوق “بعد طوفة أبو علي”، وهي عبارة يتداولها أهل طرابلس عن واقعة طوفان نهر أبو علي أواسط الخمسينيّات، والذي فاض وأغرق أجزاء كبيرة من المدينة القديمة، التي كانت أشبه ما تكون بفينيسيا، بسبب كثرة المباني القديمة والخانات والزوايا القائمة على حافتيّ نهر قاديشا (أبو علي).
على غرار كبار السنّ، يستحضر السراج الماضي من خلال ربطه بالأحداث الكبيرة والعلامات الفارقة في وجدان الجماعة، حيث بدأ بكسب الرزق من بسطة صغيرة على الجسر (جسر أبو علي) بالشراكة مع شقيقه في عمر السبع سنوات، “إذ كان الأطفال يضطرّون إلى ترك المدارس لمساعدة آبائهم” يقول. وتطوّر لاحقًا من خلال عربة يجول فيها ضمن السوق، قبل أن يؤسّس والده متجرًا لبيع أدوات المطبخ الخشبيّة القديمة، مستحضرًا السفر بواسطة القطار إلى حلب والشام لإحضار البضائع المتنوّعة.
شهد السراج على التاريخ الاجتماعيّ والاقتصاديّ لطرابلس، ففي الماضي استقبلت السوق أهالي بيروت والمناطق، وكانوا يأتون إليها للحصول على سلع ذات جودة كبيرة، إلّا أنّ التجارة البينيّة تراجعت مع الوقت بفعل اختلاف الأولويّات عند الناس. لكن في المقابل، أعادت أزمة الطاقة التي يعانيها لبنان إلى الحياة بعض الأدوات التي ظننا لبرهة في أنّها انقرضت أو باتت للزينة فقط.
ما زال محمد السراج مواظبًا على مهنته التي ورثها عن أبيه، كذلك بات يشكّل مقصدًا للباحثين عن بعض الأدوات المنزليّة التي تدخل شيئًا فشيئًا ضمن دائرة “الأنتيك” بفعل تبدّل الوظيفة
يشير السراج إلى “تزايد الإقبال على الأرطل – سلال القشّ خلال الفترة الأخيرة، وتحديدًا ممّن يسكنون مباني عالية، والتي لا توجد فيها تغذية كهربائيّة للمصاعد، فيأتي الزبون لشراء سلّة يعلّقها بحبل من أجل نقل الأغراض الخفيفة الوزن إلى المنزل”.
الماضي الحيّ
يمتدح أصحاب المتاجر المحيطة الحاج السراج فهو “مثال التفاني في العمل على رغم تقدّمه في العمر واهتمامه بوعظ الناس وحثّهم على الصدق في المعاملة”. وهو يشكّل ركنًا ضمن منظومة السوق الحرفيّة، حيث كانت تنتشر المعامل والورش الحرفيّة في الأزقّة والخانات. إلّا أنّ تلك المهن والحرف راحت تنقرض مع رحيل آخر العاملين فيها، وأصبح بقاء “الكار” مرهونًا بحياة وشغف الآحاد من العاملين والتجّار.
يشير السراج إلى أنّه “في السابق، كان الإقبال هائلًا على النمليّة (خزانة المطبخ)، والحصير القشّ، لكن مع تبدّل الحياة، أصبح الاتّكال على البرّادات والثلّاجات الكهربائيّة”، مضيفًا “لا أستغني عن النمليّة في منزلي، إذ أخصّصها لوضع مراطبين الزيتون والمؤونة”.
كانت تلك الأدوات تصنّع داخل ورش في بركة الملاحة والتربيعة ضمن طرابلس القديمة، حيث كانت تصنع النمليّة، و”السراج نمرة أربعة” الذي يعمل على زيت الكاز، الشكّات الخشب، وسائر أنواع المفروشات المنزليّة التي يعمل فيها مئات من الحرفيّين. في المقابل، بدأ الصينيّ يفرض سيطرته على السوق بفعل الفائض في الإنتاج، حيث تتشابه الصورة وتختلف الروحيّة.
حضارة البلاستيك
يأسف السراج من تمدّد حضارة البلاستيك على حساب المادّة الحيّة، وتراجع الطلب على كراسي القشّ، إذ “أدت التجارة العالميّة والعولمة إلى القضاء على الصناعات المحلّيّة الصغيرة، وانتشرت السلع ذات الجودة الخفيفة، والتي لا تتلاءم مع حاجات الشعوب”، مضيفًا “كانت القطعة المنزليّة تعيش نصف قرن من الزمن، ولا تبلى، أمّا حاليًّا فهي لا تكاد تصمد أشهرًا قليلة”.
لا يتأخّر السراج في الإجابة عن سؤال حول “مصدر ثقافته وإطّلاعه على تيّارات فكريّة مختلفة”، بالقول: “صحيح أنّني وصلت إلى الصفّ الرابع فقط، لكنّني التحقت بعدها بحلقات دراسة القرآن، ومن ثمّ اتّخذت من القراءة منهجًا لي. حتّى يومنا هذا لا أحمل هاتفًا، أقرأ كتبًا وقصاصات، وأستعين بالورقة والقلم لكتابة العبارات والحكم التي تعجبني، بعدما أطّلعت عليها في كلّ مكان، حتّى وإن كنت في المستوصف أو الشارع أو من جريدة، لأنّنا أمة إقرأ”.
حرفة مستمرة
يشبه محل السراج “صندوق الفرجة” حيث تزدحم فيه العشرات من الأدوات التي تنتمي إلى “الزمن الجميل” من الغرابيل إلى “بعات” القش، والأحزمة الجلديّة، والشوبك، والمدقّات، وكراسي القشّ وغيرها، حتّى “لعبة البرجيس” القديمة التي اندثرت في زمن السوشيل ميديا، ما زالت حاضرة ضمن منظومة المتجر التراثيّ.
يأسف السراج من تمدّد حضارة البلاستيك على حساب المادّة الحيّة، وتراجع الطلب على كراسي القشّ، إذ أدت التجارة العالميّة والعولمة إلى القضاء على الصناعات المحلّيّة الصغيرة، وانتشرت السلع ذات الجودة الخفيفة
يؤكّد محمّد السراج استمرار حرفيّين في لبنان وسوريّا في صناعة السلال من القصب وفق الصيغة التقليديّة، “حيث تُنقع القصبات أيّامًا عدّة، كي تصبح طريّة، قبل أن يقلّمها، وتبدأ الحياكة اليدويّة. اختلف شكل السلال المطلوبة حاضرًا، فعندما كانت مهنة الحمّال حاضرة في الأسواق، اتّجهت الجهود لحياكة سلال ضخمة، وباتت تأخذ شكل السلال المتوسّطة وصغيرة الحجم، والتي تلائم قطاف التين، أو وضع بعض الأغراض”.
تُعتبر النتيجة النهائيّة للحياكة انعكاسًا لمهارة الحرفيّ الصانع. يلفت السراج إلى أنّ “براعة واستقامة الحرفي تظهر من خلال الدقّة في الشكل، وعلى ضوئها يستمرّ التعامل أو يتّجه التاجر إلى عامل آخر، حيث نشهد على تراجع في أخلاقيّات التبادل والتعامل، بعد أن كانت كلمة التاجر تعدّ بمثابة شيك على بياض”.
ويجزم محمّد السراج أنّه عندما تتراجع الحركة في السوق، يلجأ إلى صناعة بعض الأشياء من خلال أدوات العدّة اليدويّة التي يملكها، إذ يستعمل المنشر الخشبيّ من أجل صناعة كرسيّ حمّام أو عصا أو مدقّة. ويختم “‘نّ مجتمعنا لن تقوم له قائمة إن لم يعد إلى الزراعة والصناعة المحلّيّة، والصدق إلى الأسواق حيث يجب أن يكون الربح قليلًا وعدم التذرّع بأنّها سلع ذات طابع تراثيّ”.