في الحروب تبتهل القطط إلى المجهول والسماء
لست أدري إذا ما كان للقطط إله تبتهل إليه في الحروب من أجل النجاة. أشك في هذا الأمر بعمق، فالقط هو سيّد نفسه، إنه إله نفسه إلى حد “السوبّر” قداسة. لا يأبه القط بسماء من هنا أو بأخرى من هناك، أما الما وراء الذي يترصّد القط وجوده فلا يتجاوز امتداد ذنبه الهائل.
لا أحسبني مبالغاً إذا ما قلت أن قطط الحروب هي انعكاس مفصّل لأقصى قذارات البشر. فالإنسان في هذا السياق لا يتعدّى أن يكون قذارة تستجمع قذارة إلى آخر التاريخ. لست أدري من كتب مرة أن الله خلق في البدء الإنسان ولما رآه ضعيفاً مترنحاً عاجزاً ملولاً خلق له القطط.
قطط الحروب هي انتهاك الإنسان لكرامته بالدرجة الأولى ولجوهر علاقته مع الحياة. كتب رينيه شار أن الهدوء يتجسّد أكثر ما يتجسّد في مظهر قط جالس، وأحسب أن الشاعر الفرنسي كتب هذه العبارة وفي باله لهاث إنسان الحروب، إنسان القذائف والصواريخ، إنسان هذه القذارة بعامة.
لا يبالي القط بالعالم كحادث هلعي على الدوم شأننا نحن البشر، ذلك أن ما يداخل عالم القط من هدوء وسكينة وحرية نبيلة ينسف بالمطلق كل إمكانات الهلع المبين. لكن الإنسان، هذا الكائن اللاقططي بامتياز، لا يألو جهداً في تشويه عالم القطط حيث السكينة تتجوهر بامتياز.
قطط الحروب هي انعكاس مفصّل لأقصى قذارات البشر. فالإنسان في هذا السياق لا يتعدّى أن يكون قذارة تستجمع قذارة إلى آخر التاريخ. لست أدري من كتب مرة أن الله خلق في البدء الإنسان ولما رآه ضعيفاً خلق له القطط
لطالما راودتني فكرة أن القط يعلم عن الإنسان كل شيء، يقرأ تذبذباته، يتأمل بصمت عنفه ويترصّد وهو مغمض العينين مآربه القاتلة، وربما هذا ما حدا بالفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي هيبوليت تين إلى القول: إن القطط أكثر حكمة من البشر والفلاسفة ضمناً.
يا لهذا الفيلسوف الصامت الذي ينصّ سرديته الخاصة عبر نظرات لا حدود لها، عبر تثاؤب ثم مطّ للجسد ثم استرخاء يرنو عبره باستخفاف إلى عالم البشر.
يمكن أن يُحكى عن القطط كثيرًا، فمن يملك تاريخاً طويلاً كتاريخ القطط تقف الكلمات أمامه عاجزة. إلا أنّ عراء الإنسان عبر وقاحة حروبه لا يلبث أن يبتر هذا التاريخ القططي الرائع.
ما يميّز القط عن الإنسان هو أن هذا الأخير تراه يعجز على الدوم عن الاكتفاء بذاته، أما القط، هذا الكائن الهائل السخي، فهو منذ لحظاته الأولى مكتفٍ بنفسه إلى حد القداسة. يقول الصحافي والكاتب الأميركي كليفلاند أموري أن لدى القطط صبر هائل في التعامل مع الذات البشرية. أدلى أموري بهذه العبارة بكل ثقة هو الذي عايش حروبًا ومن بعدها حروبًا إلى أن مات في العام ١٩٩٨ بعد أن عمّر كثيراً.
أكتب هذه المادة عند الساعة الرابعة فجراً وقبالتي صديقي الأروع بلبل، قطي الأسود الهائل الجليل. يرنو إليّ بلبلي الأسود “بتفتيحة” عيونه الكثيرة ويمدّني بسكون لا يمكن أن أدرك كنهه، لا يمكن استجلي منابعه الوفيرة.
أكتب هذه المادة عند الرابعة فجراً وفي البال ذلك القط المشوّه الوجه حيث صورة الإنسان المقرف الحقير تبلغ عبر تلك الصواريخ المتساقطة فوق الضاحية أقصى تبلوراتها… إنه قط الضاحية المشوّه الذي تبادلت صورته الميديا، بينما هو يرشقنا بتلك النظرات التائهة.
يا لعالم القطط الأسطوري، يا لهذا العالم المسكين وقد أُجبر على أن يتوزّع شرودنا المضني وأملنا اللامجدي بالنجاة.
كتب مرة بول فاليري أن القصيدة هي تطوير للتعجّب. أما أنا فأرى القط هو التطوير الأبرز للتعجّب… التعجّب من الضجيج “الحربجي” للبشر، التعجّب من تعقّب بيارق المجد وما تنطوي عليه هذه البيارق من خرق الإنسان وهلاهيله وصولاً إلى ـ وأقولها بسذاجة – التعجّب من الجدران القائمة عند حدود الدول وكل تلك الأسلاك الشائكة.
لست أدري، لعلّي قط بهيئة بشرية ولعل مبعث سذاجتي كبشري تركن بعيداً من تلك الهيئة. لا آنف من القول أن طباع القطط هي يوتوبيتنا المؤجلة، لكن صورة قط الضاحية الجنوبية يعود ليذكرني أننا كبشر لسنا أكثر من عبوة ديناميت أو صاروخ يتربّص بتلك اليوتوبيا الرائعة.
إذا تمكنّا من ربط الإنسان بالقط فسيؤدي ذلك إلى تحسين سلوك الإنسان بحسب مارك توين، لكنني أظن أن ربطاً من هذا النوع يودي بالقط إلى أن يكون ذليلاً كحال ذلك القط المشوّه في الضاحية.
بعكس البشر، يجيد القط الاحتفاظ بالنور وليس من باب العبث أن الشاعر البلجيكي ماوريس كاريم كتب “يفتح القط عينيه تدخل أشعة الشمس، يغمض القط عينيه ويحتفظ بتلك الأشعة”.
مسكين قط الضاحية، مسكينة كل قطط العالم بسبب وجودنا في عالمها. فإذا كان صديقي سبينوزا قال بأنّ القط ليس ملزماً بأن يعيش وفقاً لقوانين الأسد، فأنا أقول أنه أيضاً ليس ملزماً بالعيش وفقاً لقوانين حروبنا.