في بعلبك الهرمل يقطعون الأشجار المثمرة لمواجهة البرد والصقيع
البرد والجليد يضربان المناطق الجبلية والبقاع بقوة. الموجة القارسة التي حطت رحالها منذ الأحد الماضي ولا تزال، حبست أنفاس اللبنانيين عموماً والبقاعيين خصوصاً، حيث لا قدرة على شراء المازوت، المادة الأساسية هناك وسيلة للتدفئة. فقد وصل سعر الصفيحة في ذروة صعود الدولار لأرقام قياسية، حيث بات سعر صفيحتين منها يفوق الحد الأدنى للأجور.
“الله يعين أهالي البقاع والجبال العالية”.. غالباً ما يردد قاطنو السواحل خلال موجات البرد هذه الجملة بالكثير من التعاطف مع من يسكن هناك، مصحوبة بالسؤال عن كيف تتدبّر الناس في البقاع والمناطق الجبلية والنازحون السوريون أمورها، في ظل موجة الصقيع والبرد القارس الذي تتوقع معظم الصفحات التي تهتم بأحوال الطقس استمراره لأيام طويلة.
هناك مأساة حقيقية في البقاع حيث المواطن يواجه وحيداً الطبيعة القاسية والباردة من دون أن تؤمّن له أي من مستلزمات التدفئة ومواجهة برد وصقيع فصل الشتاء الذي يبقى أكثر رحمة من قساوة قلوب المسؤولين الذين يتركون مواطنيهم في العراء، يواجهون مصيرهم وحدهم بصمت، دون أن يرف لهم جفن أو حتى التفكير أن هناك عائلات لا تملك ثمن المازوت ولا الحطب ولا حتى المال! وكيف ستقي تلك العائلات نفسها من الموت برداً في ظل العواصف الآتية.
قطع الأشجار المثمرة
موجات البرد والثلوج المتلاحقة التي يتعرض لها لبنان عموماً والبقاع خصوصاً حتّمت على الناس أخذ أمورها بيدها لناحية تأمين مواد التدفئة. معظم المزارعين في منطقة بعلبك-الهرمل يعتمدون على المواسم، ولا مداخيل شهرية منتظمة لديهم. الواقع شديد المرارة في القرى والبلدات الواقعة على ارتفاع يفوق ٨٠٠ متر. فما كان من هؤلاء سوى التوجه إلى أراضيهم وقطع أشجار بساتينهم وتحويلها إلى حطب يشعلون به مواقدهم لتقيهم شر البرد القارس.
لم يتوجه المزارعون في البقاع الشمالي إلى أحراج السنديان واللزاب في الجرود لقطعها، وذلك حفاظاً منهم على الثروة الحرجية والمحميات الطبيعية، وخوفاً من الملاحقة القانونية إن وجدت، لكنهم توجهوا إلى بساتينهم وأرزاقهم التي رأوا فيها الحل الوحيد. الخيارات لم تكن متاحة أمام المواطن البقاعي هذا العام فكان عليه الاختيار بين أن يموت من البرد والصقيع وبين أن يتوجه إلى أشجاره المثمرة لكي يقطعها سبيلاً وحيداً للدفء.
القرار لم يكن سهلاً فهذه الأشجار التي يبلغ عمرها حوالى الثلاثين عاماً، حفرت جذوعها على يديه، وارتوت بعرقه لتنمو وتصل إلى ما هي عليه. قرار البعض بقطع أشجاره كان بمثابة قراراً بقطع أوصاله، كلما حزّ غصناً منها كأنه يحزّ شيئاً ما في داخله. ولكن ليس من بديل فأحوال الناس الاقتصادية معدمة وليس لديها القدرة على شراء المازوت أو الحطب للتدفئة.
أشجار مشمش وتفاح
أحد المزارعين في بلدة اللبوة قال لـ “مناطق نت” أنه كان يملك حوالي 100 شجرة من المشمش العجمي، الذي يعتبر من أجود وأهم أنواع المشمش، اضطر هذا العام لقطعها وتحويلها إلى حطب للتدفئة لعائلته وعائلات أخوته. ويوضح أن عمر هذه الأشجار يقارب الثلاثين عامًا، مشبهاً تربيتها بتربية الولد الذي يكبر أمام عيني عائلته، لافتاً إلى أنه كان يفرح عندما يرى ثمارها قد أينعت وحان قطافها.
يتابع بحسرة “الأولوية في هذه الأيام هي للتدفئة. زرعنا القمح مكان الأشجار هذا العام، وسنعاود زرع النصوب والشتول في العام المقبل، وهذه هي حياة المزارع.
حسن نزهة مزارع آخر في منطقة النبي عثمان التي تشتهر بالزراعة التقته “مناطق نت”. تأسف نزهة لما آلت إليه الحال قائلاً “لم أكن أفكر بأني سأصل إلى يوم أقطع فيه أشجار التفاح التي قضيت عمري وأنا أعتني وأهتم بها، وهي مورد رزقي الوحيد الذي أعيش منه” عمر الأشجار يقول نزهة حوالى ١٨ عاماً، وقرار التخلي عنها وقطع حوالي ٧٠ “كعب” أي شجرة منها جاء بسبب الحاجة الماسة إلى الحطب بهدف التدفئة حيث لا قدرة على شراء المازوت وغيره.
نزهة أشار إلى أن حوالي الثلاثين شجرة من التفاح لم يقطعها، وأيضاً بعض شجر المشمش كونهم مورد رزقه الوحيد. لكنه تخوّف من أن يستمر الوضع على ما هو عليه إلى الشتاء المقبل، فحينها سيضطر مرغماً لقطعها وتأمين التدفئة لعائلته.
البيئة البقاعية في خطر
ظاهرة قطع المزارعين لأشجار بساتينهم بهدف التدفئة بالغة الخطورة، وآثارها ستنعكس مستقبلاً على البيئة والطبيعة وسيكون لها تداعيات كبرى، يغفل عنها المواطن البقاعي أو ربما يعرفها ولكن لم يبقَ لديه خيارات سواها. عن هذه المخاطر قالت المهندسة الزراعية ولاء السبلاني لـ “مناطق نت” إن قطع الأشجار المثمرة خطير لجهتين، الأولى تتعلق مباشرة بحياة المزارع حيث ستنخفض انتاجيته وبالتالي سيتأثر مدخوله ومستوى معيشته، وانتشار هذه الظاهرة سيزيد من نسبة المزارعين المتضررين من حيث كمية وحجم الإنتاج، وهذا سيؤثر على الإنتاج العام.
ولفتت السبلاني إلى أن الخطورة أيضاً تتعلق بالوضع البيئي، فقطع الأشجار من شأنه التقليل من المساحات الخضراء المتآكلة سنوياً بفعل الحرائق والقطع العشوائي ومن كمية الأشجار المثمرة وهذا له تداعياته على المناخ وتلوث الهواء وانجراف التربة.
وتضيف السبلاني أنه من المقبول قطع الأشجار الكبيرة التي أصبح إنتاجها قليلاً، أما الأشجار الصغيرة فإن ذلك غير مقبول اليوم لا سيما أن عملية زراعة الأشجار من جديد صعبة ومكلفة وتتطلب وقتاً، وقد لا يستطيع المواطن البقاعي إعادة تشجير أرضه، فالنصوب والشتول باهظة الثمن ويتراوح سعرها ما بين ثلاثة وسبعة دولارات للشتلة الواحدة، وذلك حسب نوعها وحجمها. من هنا شدّدت السبلاني على ضرورة الحفاظ على الأشجار المثمرة التي تنتج وعدم التفريط بها تحت أي ظرف.