في ذكرى اغتياله.. كمال جنبلاط تراجيديا الحكم والحكمة

لم يكن اغتياله في الـ 16 من آذار (مارس) 1977 سوى نهاية متوقّعة لرجل اختار أن يحيا وفق مبادئه، في عالم لا يرحم الحالمين. ومثلما كان يتوقّع دائمًا، لم يتوقّف الزمن لحظة موته، بل استمرّت الحياة كعادتها، غير مكترثة، فيما بقيت كلماته شاهدًا على محاولته العبور في هذا العالم، كمن يبحث عن معنى في متاهة بلا مخرج.
ولد كمال جنبلاط في بلدة المختارة في السادس من كانون الأول (ديسّمبر) 1917، وتأرجحت طفولته بين السلطة المضمَرة وأشباح الاغتيال. لم يكن له خيار في مصيره، كما لم يكن للبشر خيار في عبثية الحياة التي تسير وفق إيقاع بارد، غير آبه برغباتهم.
فقدَ كمال والده فؤاد جنبلاط في حادثة اغتيال حصلت العام 1921، وكأنّ الحياة قرّرت منذ البداية أن تعلّمه أنّ العدالة ليست أكثر من فكرة وهميّة، وأنّ الموت يمكن أن يأتي في أيّ لحظة، بلا مبرّر سوى أنّه قرّر أن يأتي.
مدرسة عينطورة التمرّد الأوّل
نشأ كمال جنبلاط في كنف والدته، نظيرة جنبلاط، التي عرفت كيف تدير بيتًا وسياسة في آنٍ واحد، متجاوزة بفطنتها قوانين مجتمعات لا تزال ترى في المرأة تابعًا أكثر ممّا تراه فاعلًا. لكن ابنها لم يكن مدفوعًا بالانتقام أو السعي إلى السلطة. كان يراقب العالم بعيون شاعر، يرى فيه فوضى جميلة، وفشلًا مستمرًا في تحقيق العدل. ربّما لهذا السبب، بدأ يكتب الشعر باللغتين العربيّة والفرنسيّة، كما لو أنّه كان يحاول اختراع لغة تستطيع أن تعبّر عن تناقضات الحياة التي عاشها.
في عينطورة، حيث تلقّى تعليمه، كان التعليم مساحة للتمرّد الأوّل. ففي أحد الأيّام، سنة 1933، قرّر مع بعض زملائه أن يطالبوا باستبدال العلم الفرنسيّ بالعلم اللبنانيّ فوق برج المدرسة. لم يكن الأمر إلّا رمزًا، لكنّ الرموز تصنع التاريخ. وكانت تلك لحظة إدراكه الأوّل بأنّ المصير ليس دائمًا محتومًا، وأنّ الإرادة قادرة على تغيير التفاصيل الصغيرة، حتّى لو بقيت الحياة نفسها عصيّة على الفهم.
في مرحلة عينطورة تأثّر كمال جنبلاط بشخصيّتي عيسى المسيح، والمهاتما غاندي، بقاسم مشترك هو الزهد والحكمة، رفقة الثورة لتغيير الواقع، دون أن تكون السلطة غايةً بذاتها. ربّما هذا ما يفسّر ميل جنبلاط إلى التقشّف، واللجوء إلى صومعته البسيطة، بينما هو سليل العائلة المالكة لكمّ هائل من الأراضي والبيوت.
كان يراقب العالم بعيون شاعر، يرى فيه فوضى جميلة، وفشلًا مستمرًا في تحقيق العدل. ربّما لهذا السبب، بدأ يكتب الشعر باللغتين العربيّة والفرنسيّة، كما لو أنّه كان يحاول اختراع لغة تستطيع أن تعبّر عن تناقضات الحياة التي عاشها.
في معهد عينطورة، كان له لقاء حاسم مع الأب هنري دالمه، الذي أطلعه على الفلسفة اليونانيّة. هناك، في تلك الصفوف، اكتشف أنّ الأسئلة أكثر أهمّيّة من الإجابات، وأنّ الإنسان محكوم دومًا بالتساؤل، حتّى وإن لم يجد إجابة؛ لكنّ الحياة تدخّلت في مساره، فقد كان ميّالًا لدراسة الهندسة، يحلم بالسفر إلى بلاد متعبة، يبني ويعمّر، لعلّه يعيد للعالم بعض النظام الذي يبدو أنّه ينقصه.
غير أنّ والدته، التي كانت تدرك قوانين السلطة والمصير أكثر منه، قرّرت أن يكون محاميًّا وليس مهندسًا. كان لا بدّ من أن يرضخ، ليس لأنّه لم يكن قادرًا على الرفض، بل لأنّه كان يعرف أنّ كلّ الخيارات تنتهي بالنتيجة ذاتها: الإنسان يُدفع نحو مصيره، حتّى لو اعتقد أنه يختاره بنفسه.
الأوّل في البكالوريا
كان كمال جنبلاط شابًّا يميل إلى العلم حبًّا في تراكم المعرفة وبحثًا عن طريقة لفهم العالم الذي بدا له غير عادل وغير متناسق. في العام 1934، حصل على الشهادة التكميليّة، وفي أيّار (مايو) من العام ذاته، انضمّ إلى كشّافة فرنسا، وكأنّه كان يبحث في الطبيعة والانضباط عن شيء من النظام وسط الفوضى التي تحكم الحياة.
بالنسبة إلى كمال جنبلاط كان التفوّق الدراسيّ إنجازًا أكّاديميًّا وطريقًا لاكتشاف الذات. ففي تمّوز (يوليو) 1936، نال شهادة البكالوريا بقسميها اللبنانيّ والفرنسيّ، الأدبيّ والعلميّ، متصدّرًا طلّاب لبنان في الفرع العلميّ. لم يكن ذلك انتصارًا بالمعنى التقليديّ، بل تأكيد على أنّ فكره لم يكن قابلًا للحصر في إطار واحد، إذ كان العلم بالنسبة إليه موازيًا للأدب، والهندسة لا تقلّ أهمّيّة عن الفلسفة.
فرنسا وجيرة غورفيتش
في فرنسا، حيث الفكر أكثر حرية، وحيث الإنسان يمكنه أن يعيد تشكيل قناعاته بعيدًا من ثقل التاريخ، جلس كمال جنبلاط إلى جوار غورفيتش، الرجل الذي علّمه كيف تُقرأ المجتمعات، وتُفهم كبنية متحوّلة، لا ككيان ثابت.
غير أنّ فكره لم يكن محصورًا في أوروبّا وحدها. كانت الفيدا الهنديّة تهمس له بحكمة أقدم من الفلسفة الغربيّة، والتصوّف الإسلاميّ كان يخبره بأنّ هناك بعدًا آخر للوجود، بعدًا يتجاوز الأيديولوجيا الباردة التي تصنّف الناس والأنظمة إلى قوالب جامدة. كان يرى العالم ككلٍّ متّصل، كنسيج من الأفكار المتشابكة التي لا يمكن عزل واحدة منها دون أن تنهار الأخرى.
في أيلول (سبتمبر) 1937، ذهب إلى فرنسا، إلى السوربون، حيث درس علم النفس والتربية المدنيّة وعلم الاجتماع. هناك أطلق مجلته الخاصّة، LA REVUE، مستلهمًا النخبة الفكريّة الفرنسيّة، غير أنّ طموحه لم يكن البقاء هناك. فقد عاد إلى لبنان العام 1939، مدفوعًا بالحرب التي اجتاحت أوروبّا، وكأنّ العالم كان يحاول تذكيره بأنّه لا يمكن الإنسان أن يهرب من تاريخه. في جامعة القدّيس يوسف، أكمل دراسته، فنال إجازة في الحقوق العام 1940، كمن يخضع للقدر، لكنّه في داخله كان يعرف أنّ العدالة، كما الحياة، ليست سوى مفهوم نسبيّ، وأنّ كلّ شيء، في النهاية، يقود إلى اللاجدوى.
السياسة ليست خيارًا
كبر كمال جنبلاط ليجد نفسه، على رغم كراهيّته للسياسة، زعيمًا لحركة لا مفرّ له من قيادتها. كان الدروز ينظرون إليه بوصفه وريثًا لزعامتهم، بينما كان في عمق ذاته مفكّرًا حالمًا، يرى أنّ مصير الإنسان أبعد من حدود الطوائف والولاءات الضيّقة. ومع ذلك اصطبغت حركته، واقترن تاريخه بالدروز كطائفة وجماعة، وهي من اللعنات التي تصيب أيّ شخصيّة في لبنان أرادت تقديم نفسها خارج إطارها البيئي.
ساند كمال جنبلاط القضيّة الفلسطينيّة، ليس لأنّه وجد فيها معركة سياسيّة، بل لأنّه رأى فيها مأساة أخرى تضاف إلى مآسي هذا العالم، إذ يتكرّر الظلم بصور مختلفة، والتاريخ لا يتعلّم من أخطائه، بل يعيد إنتاجها بوجوه جديدة.
المحاماة الموقّتة
دخل كمال جنبلاط إلى عالم المحاماة كما يدخل الإنسان في تجربة لا يتوقّع أن تستمرّ. بين عامي 1941 و1942، عمل في مكتب المحامي كميل إدّه، محاميًا رسميًّا للدولة اللبنانيّة. كان ذلك نوعًا من الانخراط في بنية النظام، لكنّه لم يدم طويلًا، تمامًا مثلما لا تدوم الأدوار التي نلعبها في هذه الحياة. فقد انتهى كلّ شيء بموت ابن عمّه حكمت جنبلاط العام 1943، تاركًا فراغًا لم يكن أحدٌ سواه قادرًا على ملئه. وهكذا، دون قرار واعٍ، وجد نفسه في قلب السياسة، حيث يختلط الطموح بالمصادفة والقدر بالرغبة.
لكنّ السياسة لم تكن ملاذه الوحيد. ففي العام 1942، وفي محاولة للبقاء وفيًّا لميوله العلميّة، أنشأ معملًا للكيمياء في المختارة؛ لم يكن مشروعًا اقتصاديًّا، بل كان انعكاسًا لطموحه في أن يصنع شيئًا ملموسًا، شيئًا لا يخضع للتفاوض ولا للصفقات السياسيّة. صنع آلاته بنفسه، عمل بيديه، وسهر لـ 16 ساعة يوميًّا في محاولة للسيطرة على المادّة، كما لو كان يبحث عن منطق ثابت في عالم متغيّر. اخترع آلة لتحويل غاز أسيد الكلوريد وتذويبه في الماء، وكأنّه يحاول أن يفرض نظامًا على الفوضى الكيميائيّة مثلما حاول أن يفعل مع المجتمع. لكنّ الطبيعة، سواء كانت سياسيّة أم علميّة، تبقى عصيّة على الترويض.
السياسة لم تكن ملاذ كمال جنبلاط الوحيد. ففي العام 1942، وفي محاولة للبقاء وفيًّا لميوله العلميّة، أنشأ معملًا للكيمياء في المختارة؛ لم يكن مشروعًا اقتصاديًّا، بل كان انعكاسًا لطموحه في أن يصنع شيئًا ملموسًا، شيئًا لا يخضع للتفاوض ولا للصفقات السياسيّة.
تأسيس العائلة
وسط انشغالاته الكثيرة، وجد متّسعًا للحبّ. ففي أيّار 1948، تزوّج من الأميرة ميّ شكيب أرسلان، وكأنّه يعيد توحيد سلالات التاريخ السياسيّ اللبنانيّ في قصّة شخصيّة. وفي السابع من آب (أغسطس) 1949، رُزق بابنه الوحيد، وليد. ربّما في لحظة ولادته، وسط صراعاته الفكريّة والسياسيّة، رأى للحظة أنّ هذا الطفل قد يحمل مستقبلًا لا يكون فيه الإنسان مجرّد لاعب في مسرح عبثيّ، بل كائن قادر على اختيار مصيره. لكن، كما كان يعلم في قرارة نفسه، العالم نادرًا ما يحقّق لنا مثل هذه الأحلام.

مؤلفاته
حين يقرأ المرء أعمال كمال جنبلاط، لا يواجه فقط سلسلة من الكتب، بل يلتقي برجل كان يكتب كما لو أنّه يصارع العالم، وكأنّ الحروف هي معركته الأخيرة ضدّ عبثيّة الواقع. لم يكن يكتب لمجرّد أن يدوّن أفكاره، بل كان يسعى إلى أن يخلق عالمًا مختلفًا، أكثر عدالة، أكثر وعيًا، وربّما أكثر إنسانيّة، حتّى وهو يدرك أنّ هذا المسعى قد يكون وهمًا آخر في مسرح الحياة.
“ربع قرن من النضال” هو شهادة لرجل فهم أنّ النضال ليس للحظة، بل امتداد زمنيّ يتطلّب الصبر أكثر ممّا يتطلّب القوّة. بينما “نحو اشتراكيّة أكثر إنسانيّة” و”الديمقراطيّة الجديدة” كانا محاولتين للبحث عن نظام لا يتحوّل إلى قيد، عن فكرة لا تبتلع نفسها مثلما تفعل الأيديولوجيّات عندما تترسّخ في السلطة. “في الممارسة السياسيّة” و”في مجرى السياسة اللبنانيّ” لم يكونا فقط تحليلًا للواقع السياسيّ، بل تأمل في كيفيّة أن يصبح الإنسان رهينة لعبة أكبر منه، لعبة يعتقد أنّه يتحكّم بها، لكنّه في النهاية مجرّد أحد أدوارها الموقّتة.
“ثورة في عالم الإنسان” و”أدب الحياة” كانا تذكيرًا بأنّ الفكرة ليست فقط في تغيير الأنظمة، بل في تغيير الإنسان نفسه، وأنّ الأدب ليس منفصلًا عن الحياة، بل هو انعكاسها الأكثر عمقًا.
ثمّ هناك الكتب التي تكشف عن روحه الأخرى، الباحثة، المتأملة، الصوفيّة: “آفاق نورانيّة” و”فلسفة العقل المتخطّي”، و”السلام/ أناندا” و”الفلسفة واليوغا في بلاد الحكماء”، و”المشاركة بين العلم الحديث والحكمة القديمة في النظر إلى الإنسان والعالم”. مؤلفّات تشير إلى ذلك الجانب الذي لم يكن يرى الإنسان مجرّد كائن سياسيّ أو اقتصاديّ، بل روح تبحث عن الانسجام مع الكون. أمّا “هذه وصيّتي” فكان كتابه الأبرز الذي اختزل رسالته منطلقًا من عنوانه.
موعد مع الموت
كان يوم الـ 16 من آذار العام 1977 يومًا عاديًّا في عبثيّته، يومًا آخر حينما الموت قرّر أن يمرّ، بلا منطق، وبلا تبرير، مثلما يفعل دائمًا. كمال جنبلاط، الرجل الذي قضى عمره في البحث عن العدالة، وجد نفسه في مواجهة الحقيقة المطلقة: لا عدالة في هذا العالم، لا منطق للموت، لا مفرّ من النهاية التي تأتي حينما تقرّر أن تأتي.
السيّارة التي حملت لوحة عراقيّة لم تكن أكثر من قناع، وحاجز الجيش السوريّ لم يكن سوى تفصيل في مشهد كان واضحًا للجميع. لم تكن هناك حاجة للتحقيق أو الأسئلة، فالجهة الفاعلة لم تكن خفيّة، كذلك فإنّ الدوافع لم تكن معقّدة. الموت كما السياسة، لعبة مكشوفة، والذين يلعبونها يعرفون أنّ كلّ خطوة محسوبة، حتّى لو كانت نتيجتها دائمًا واحدة: رجل يسقط، وأمّة تتظاهر بأنّها لا تزال واقفة.
المرثيّة الأشهر
حينما كتب شوقي بزيع مرثيّته التي أبدع مارسيل خليفة في تلحينها وتأديتها، لم يكن يرثي رجلًا فقط، بل كان يرثي فكرة، حلمًا، احتمالًا ضائعًا لما يمكن أن يكون عليه العالم لو كانت الأمور تسير وفق منطق مختلف:
«كأنّما جبلُ الباروكِ أذهَلَهُ
أن تنحني، فمشى في يومكَ الشجرُ»
أظنّها طلقاتُ الغدْرِ حينَ هَوَتْ
تكادُ لو أبصرَتْ عينَيْكَ تَعْتَذِرُ»
لكن الموت، كما التاريخ، لا يملك القدرة على الاعتذار.
اعتقال الفاعل
بعد أكثر من أربعة عقود على الاغتيال، أعلنت السلطات السوريّة اعتقال اللواء إبراهيم حويجة، الرجل الذي كان، على الأرجح، يعرف منذ البداية أن يديه ليستا نظيفتين، لكنّه، كما يفعل كلّ الرجال في دوائر السلطة، عاش طوال هذه السنوات محاطًا بحصانة غير معلنة، وكأنّ الزمن وحده كفيل بمحو الأفعال، وكأن التاريخ يمكنه أن ينسى.
اليوم، بعد سنوات طويلة، يأتي هذا الاعتقال كإعلان متأخّر عن حقيقة لم تكن يومًا موضع شك. لكن هل يعني ذلك شيئًا؟ هل يعيد الزمن إلى الوراء؟ هل يعيد إلى الحياة رجلًا كان يرى أنّ العدالة لا تتحقّق إلّا إذا كانت أعمق من مجرد انتقام رسميّ؟
ربّما يكون إبراهيم حويجة مجرّد اسم آخر في قائمة طويلة من الذين استخدموا السلطة كأداة للقمع، لكنّه ليس أكثر من ترس في آلة. أمّا الجريمة الحقيقيّة، فهي أنّ العالم لم يتغيّر، وأنّ الحالمين بالحرّيّة لا يزالون، مثلما كانوا دائمًا، مشاريع موت مؤجل.