في ذكرى رحيل محمود درويش هل يشبه الشعر كاتبه؟

في طفولتي المتأخّرة، لم أكن أعرف كثيرًا عن محمود درويش. تلك الطفلة الصغيرة التي كانت تسرح بين كتب والدها الراحل، لم يدفعها فضولها يومًا للتعرّف إليه. كلّ ما عرفته عنه هو تلك القصائد التي لحّنها مرسيل خليفة، وكانت تخترق سمعي صدفة، لأسمع الكبار يقولون: إنّ ما يُغنّيه خليفة هو من كلمات محمود درويش. ويا للصدفة! لم يكن خليفة يستهويني أيضًا، لأسباب كثيرة قد أفقد موضوعيّتي إن تطرّقتُ إليها.
شاعرٌ أحبّ عدوّته!
في ذكرى وفاة درويش في التاسع من آب (أغسطس) 2008، يستحضر ذهني محطّات مهمّة من حياته الشخصيّة، تلك التي حرّكت فضولي قليلًا. كنتُ أعرف أنّ درويش فلسطينيّ، وأنّ شقيقتي تُحبّ شعره وتقرأ له. إلى أن وصلتُ إلى سنوات المراهقة المبكرة، التي رافقت ذروة منصّات التواصل الاجتماعيّ، فشاءت “الصدفة الإلكترونيّة” أن أتعرّف إلى قصّة حبّ درويش لـ “ريتّا”.
ريتّا فتاة ” إسرائيليّة”، يُقال إنّ اسمها الحقيقيّ هو تامار بن عامي. أحبّها درويش على مقاعد الدراسة، وهي أيضًا أحبّته، ثمّ انفصلا، لأنّ حبّهما لا يمكن أن يُبارك يومًا. في حينه، عادت أغنية مرسيل خليفة “ريتّا والبندقيّة” إلى ذهني، فأصبحتُ أفهمها بطريقة مغايرة.
كمراهقة لم تكن قد فهمت شيئًا من الحياة بعد، ولم تكن تعرف أنّ على هذه الأرض فلسطينيّين يُغرمون بالمستوطنين، أوّل ما شعرت به، حين علمتُ بقصّة الحبّ هذه، كان الاستغراب! وقلت: ما هذه الخطيئة؟ ما هذا التناقض؟

القليل ممّا كنتُ أعرفه من شعر درويش كان يدور حول الوطن والأرض والأم وخبزها وقهوتها. كيف لفلسطينيّ يُحبّ وطنه وأمّه، أن يُحبّ أيضًا عدوّته؟ على رغم ذلك، استهوتني قصّة حبّهما. وكمعظم المراهقات، أحبّ خيالي أن يسرح بقصص الحُبّ المستحيلة، تلك التي تتجاوز الحدود الاجتماعيّة والسياسيّة.
هذه القصّة دفعتني إلى الاستماع وقراءة مزيد من شعر درويش، إنّما فقط ذلك الذي كُتب عن “ريتّا”. وبسبب هذا الحبّ أيضًا، اكتشفتُ أنّ إلقاء درويش لشعره جميلٌ جدًّا، وقاسٍ جدًّا، وحنونٌ وفريد.
ثمّ، عدتُ ونسيتُ درويش. كان هناك أدباء أستهويهم أكثر، ويثيرون فضولي بعمقٍ أكبر. هذه هي الحقيقة. لم أغرق في عالم محمود درويش مثلما غرقتُ في غسّان كنفاني وميخائيل نعيمة وطه حسين وغيرهم.
هل للشعر أن يشبه كاتبه؟
منذ بضع سنوات، وفي إحدى مكتبات الحمرا، وقعت عيناي على كتابٍ يجمع مقالاتٍ لمحمود درويش كانت قد نُشرت في صحيفة “اليوم السابع”. الكتاب صادر عن “مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة” العام 2019، من إعداد وتحرير حسن خضر.
ابتعتُ الكتاب وباشرت بقراءته فورًا، وهنا كانت الصدمة! من خلال هذه المقالات، تعرّفت إلى درويش السياسيّ: الكاتب الذي قَبِل بمشروع حلّ الدولتين (مع تحفّظات وشروط)، وأيّد فكرة “السلام العادل” مع الاحتلال.
حينها، فهمتُ لماذا لم يستهوِني هذا الشاعر الفلسطينيّ يومًا. ليس بسبب مواقفه السياسيّة بحدّ ذاتها، بل لأنّ تلك المواقف، ببساطة، لا تشبه شعره
حينها، فهمتُ لماذا لم يستهوِني هذا الشاعر الفلسطينيّ يومًا. ليس بسبب مواقفه السياسيّة بحدّ ذاتها، بل لأنّ تلك المواقف، ببساطة، لا تشبه شعره. لأنّني، ومنذ طفولتي، أستشعر ما هو صادقٌ فأتعلّق به، ولعلّي – منذ البداية – لم أجد الصدق في قصائد درويش (كما لم أجده في صوت مرسيل خليفة).
لا أنكر أنّ الشقّ السياسيّ في درويش شقٌّ وازن، غير هيّن، يوازي في قيمته الشعر الذي صدر عنه. وربّما لهذا السبب، فرضت الأمور – دون إصرارٍ أو محاولة مقصودة منّي – أن أتعرّف إلى درويش السياسي، كما تعرّفت إلى درويش الشاعر.
كان درويش جزءًا فعليًّا من المشهد السياسيّ، وأعرف أيضًا أنّه التحق في العام 1973 بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، ممّا أدّى إلى منعه من دخول الأراضي المحتلّة. ثمّ ساهم في صياغة “إعلان الاستقلال الفلسطينيّ” العام 1988، الذي تضمّن – لأوّل مرّة – اعترافًا ضمنيًّا بوجود إسرائيل.
ولكي أبقى موضوعيّة، ربّما كان شعر درويش المقاوِم قد كُتب في الفترة التي كان فيها يؤمن بتحرير أرضه كلّها، ثمّ تغيّر شعره مع تغيّر سياسته. لكنّ الطفلة التي في داخلي، التي تأبى أن تكبر لتتقبّل الواقع وتناقضاته وتغيّراته، لم ترَ في الكتاب الذي قرأتُه، سوى التناقض الذي يبرّر لها عدم استهوائها للكاتب محمود درويش، الذي يحظى بحبّ وإعجاب كثيرين.
تُنسى كأنّك لم تكن؟
تخلّيت عن كلّ ما أعرفه عن درويش. بقيت في ذاكرتي قصيدة واحدة فقط:
«تُنسى، كأنّك لم تكن
تُنسى كمصرع طائرٍ
ككنيسة مهجورةٍ تُنسى
كحبٍّ عابر
وكوردةٍ في الثلج… تُنسى».
أُحبّ هذه القصيدة. أُحبّ عدميّتها وواقعيّتها. وأُحبّ إلقاء درويش لها.
أخيرًا، وإلى جانب الأمور القليلة التي تُعجبني في درويش، أُعجب أيضًا باختياره للموت. يسرَح خيالي بطريقة موته، كما يسرح بالموت عمومًا.
في الـ 28 من تمّوز (يوليو) الماضي، وبعد تشييع حبيبنا زياد الرحباني، قرأتُ منشورًا للكاتب المصريّ محمّد خير على منصّة “فيسبوك”، كتب فيه: “كلمة فنّان لا تتحقّق، ولا يستحقّها صاحبها، من غير الرؤية والثقافة والانحيازات والمشروع.”
سرحتُ طويلًا بعد قراءة المنشور. تذكّرت القصيدة الوحيدة التي أُحبّها لدرويش. وعرفتُ أنْ ليس جميعنا يُنسى. هناك أشياء تبقى إلى أبد الآبدين، على رغم الموت، ورغمًا عن صاحبها.
ها أنا اليوم، أذكر مواقف الذي ظنّ أنّه “سيُنسى كأنّه لم يكن”، كما سأذكر، إلى الأبد، مواقف “حبيبنا” الذي “تركنا عالأرض وراح”.
أخيرًا، وإلى جانب الأمور القليلة التي تُعجبني في درويش، أُعجب أيضًا باختياره للموت. يسرَح خيالي بطريقة موته، كما يسرح بالموت عمومًا.
كان درويش يُعاني من مشاكل قلبيّة منذ سنوات، وقد خضع لعمليّتين في القلب سابقًا، الأولى في بّاريس العام 1984، والثانية العام 1998. في صيف 2008، تدهورت حالته مجدّدًا، فنصحه الأطباء بإجراء عمليّة قلب مفتوح ثالثة، مع تحذير واضح من احتمال فشلها.
وافق، بعد تردّد، على إجراء العمليّة في “مركز تكساس الطبّيّ” (هيوستن – الولايات المتّحدة). وقبل دخوله غرفة العمليّات، أوصى بنزع أجهزة الإنعاش عنه في حال فشلت العمليّة. وهذا ما حدث: أدّت العمليّة، التي استمرّت أكثر من ثماني ساعات، إلى دخوله في غيبوبة، فنُزعت الأجهزة عنه، بناءً على وصيّته.
جميعنا نعرف، ولو قليلًا، عن الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش، الذي وُلد في الـ 13 من آذار (مارس) العام 1941، وكتب أكثر من ثلاثين ديوانًا من الشعر والنثر، تُرجمت إلى لغات عدّة. ولم يُعرف درويش كشاعر وحسب، بل كصوتٍ فلسطينيّ سياسيّ وثقافيّ.