في رحلة البحث عن الحجة سكنة حرب!
من الكويت 1984 إلى سوق الأحد 2023: حكاية شريط مغترب من معركة
سوق الأحد، الجميزة، الكويت، بلدة معركة في الجنوب، فرن الشباك، آية، ستوري على الإنستاغرام، شريط كاسيت قديم… لا أدري كيف أرتب تلك المصادفات الغريبة التي اجتمعت دفعة واحدة وأفضت إلى حكاية عمرها أكثر من أربعين عامًا.
غالباً ما يكون الوقت خلال الأحد في بيروت متثائبًا، متمددًا زئبقيًا. ما حدث معي نهار ذلك الأحد في 30 نيسان 2023، كسر ذلك الروتين. الساعة تشير إلى الواحدة بعد الظهر، أجلس في كافيه في الجميّزة، أعمل على بحث فضولي صغير حول أغاني الراي الجزائري. أبدّد الوقت متجوّلاً على صفحات “الإنستغرام” في محاولة منّي للتحدّث مع آية التي التقيت بها مؤخرًا، وتشاركني مكان النشأة في جنوب لبنان.
المصادفة أن (الستوري) الذي وضعته آية على حسابها على “الانستاغرام” تضمّن مجموعة كاسيتات قديمة اشترتها من سوق الأحد وذلك من ضمن هواياتها في جمع “الأنتيكا”. تفاعلت معها فقالت إنّها عائدة إلى شقّتها المستأجرة في فرن الشباك للإستماع للكاسيتات على مسجلّة شرائط قديمة، فهي تعشق تلك التسجيلات الكلاسيكية. إقترحت على آية مشاركتها “جلسة الكاسيتات” مخترعًا حجّة أنّي عائدٌ أيضًا إلى فرن الشباك.
رحّبت آية بقدومي، وفي طريقي إلى هناك، قالت إنه من ضمن الشرائط العديدة التي اشترتها، والتي تضم أغانٍ لأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وغيرهم، هناك شريط مكتوب عليه إسم “الحجة سكنة حرب”. الأمر الذي أثار فضولها لأن الإسم “جنوبي جدّا”. ماذا يفعل شريط مكتوب عليه إسم “الحجة سكنة حرب” في سوق الأحد في بيروت؟ ومن هي تلك المرأة؟ وعلى ماذا يحتوي الشريط؟
سماع الكاسيت
أصل إلى منزل آية، ونبدأ بسماع الشريط الذي بدأ من منتصفه. وبينما كنّا نتوقّع سماع صوت “الحجة سكنة حرب” بدأنا بسماع صوت رجل يتحدّث بلهجة جنوبيّة ويقول:
“مرت عمّي إم عصام كيفك؟ كيفا إمك؟ كيفا ستي إم خليل؟ بلّغيها إني كتبت رسالة لعمّي ولوفيق ولخضر. سلميلي كتير على صفا وديري بالك عليها وبوصّيكي تروحي صوبنا وصوب إمي تشوفيلي هالبيت. هالبيت رح يكون إلي ولصفا يعني. سمعنا إنّو دخلو الإسرائيليّي عالضيعة. هيدا الصوت اللي عم يطلع بالشريط هوّي صوت المكيّف هياني قاعد بالمحلّ. الدنيا عنّا هون نار وشاعلة متل ما بقولو، مش مثل عندكن. نشالله سنة الجاي بتكون إسرائيل انسحبت ومنكون مع بعض.”
المفاجأة كانت، أن الشريط مُرسل من مغترب جنوبي في الثمانينيات خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، والمرأة التي يخاطبها هي على الأغلب أم زوجته صفاء. الدهشة والفضول هما ما أصابنا أنا وآية فور سماعنا المقطع الأول من الشريط!.
من هو هذا الشخص؟ وهل هو مغترب جنوبي في أفريقيا؟ وهل المرأة التي يخاطبها (أم زوجته) وهي ““الحجة سكنة حرب” المكتوب إسمها على الشريط؟ وصولاً إلى الوسيلة التي كانت سائدة حينذاك في التواصل بين المغتربين وأهاليهم في لبنان قبل الإنترنت وثورة العالم الرقمي، وهي شرائط الكاسيت، حيث كانت العائلة تتحلّق حول آلة التسجيل لتسمع من خلالها صوت القريب – البعيد المغترب الآتي من خلف البحار؟
من هو هذا الشخص؟ وهل هو مغترب جنوبي في أفريقيا؟ وهل المرأة التي يخاطبها (أم زوجته) وهي “سكنة حرب” المكتوب إسمها على الشريط؟
نكمل أنا وآية سماع الشريط، ويُكمل الرجل حديثه بإرسال السلامات للكثير من أبناء ضيعته ومنهم “كامل نعيم ومرتو” و”إم قاسم” و”إم عماد” و”إم ناصر” وهنا كانت المفاجأة الثانية والصدمة أيضًا. فكل تلك الأسماء هي أسماء عرفتها منذ طفولتي في بلدتي معركة في قضاء صور. هذه الأسماء يمكن أن تتواجد في أي ضيعة في الجنوب، ولكن ترتيبها بهذه الطريقة وتواليها مع بعضها، جعلني شبه متأكد أنهم من بلدتي معركة، لأني أعرفهم جميعًا.
“المسجّلة” التي لم تكن بأحسن حال، أعاقت دهشتنا لبعض الوقت، حيث لم يكن بوسعنا أن نعيد الشريط إلى البداية لنعرف حقيقة الأمور بسرعة، فكان علينا الإنتظار ليعيد الشريط نفسه. لم أتحمّل الإنتظار وأمسكت بهاتفي مباشرة واتّصلت بأبي سائلاً: هل عندنا في الضيعة امرأة إسمها “الحجة سكنة حرب”؟ فأجاب سريعًا بـ “نعم”. وقال إنها في الأصل من بلدة شحور (ضيعة قريبة من معركة) ولا نعرف حكاية انتقالها إلى معركة، لكن بالتأكيد منذ فترة طويلة، حيث لديها أولاد وأحفاد كثيرين هنا.
سألته هل كان لديها إبنة إسمها صفاء تزوجت من شخص كان مسافر؟ فقال لي أنه كان لديها حفيدة إسمها صفاء وتزوّجت من شخص إسمه “راشد” كان مغتربًا في الكويت.
من خلال إجابات أبي السريعة بدأت تتكشّف لنا الصورة! فمرسل الشريط هو “راشد” الذين اغترب في الكويت وليس في أفريقيا، وسكنة حرب هي جدّة صفاء والتي سمّاها راشد بـ “ستّي إمّ خليل” عندما كان يوجّه حديثه لأم صفاء في اللحظة التي بدأنا سماع الشريط بها.
بعد سماع الشريط بأكمله، تبيّن لنا أن راشد لم يوجّه أي رسالة مباشرة إلى سكنة حرب، ولكن ربّما كتب إسمها على الشريط لأنّها كما قال لي أبي، كانت إمرأة معروفة في الضيعة، وكان حظوظ أن يصلها الشريط أعلى من غيرها. تاريخ الشريط كما قال راشد في البداية كان 15 آب 1984.
ما سر كل هذه المصادفات؟ أسأل نفسي من جديد؟ سوق الأحد، ستوري على الإنستا، معركة، بيروت، الكويت، الحجة سكنة حرب. هل هناك شيء ما ورائي خلف كل هذا؟
الكاسيت كأداة تواصل
من المثير للإهتمام أنّ المغتربين كانوا في أيام الثمانينيات وقبل انتشار الهواتف الذكية، يسجلون كاسيتات ويرسلونها لأهلهم وأحبّائهم في لبنان. كان المغترب يرسل تسجيلا مدّته ساعة وأكثر مليئ بالأخبار عن حياته وصعوبة الغربة مستغلّا فرصة التسجيل الواحدة ليرسل سلامات لكل الأشخاص الذين يعرفهم بدلًا من أن يرسل مكتوبًا واحدًا لكل منهم، فبهذا المعنى كان الكاسيت بديلًا للمكتوب. وتبيّن أنّ العائلة كانت تجلس مع بعضها لسماع الشريط مكرّرينه مرّات عدّة ومن بعدها يسجلّون شريطًا آخر يُرسل إلى المغترب.
كان المغترب وأهله ينتظرون شخصًا ما، يأتي من بلد الاغتراب ليحضر ومن ثم يعيد شرائط من الأهل معه. التواصل عبر الكاسيت كان يستغرق أشهرًا وأكثر. وتلك الفترة الفاصلة كانت ملعبًا للمخيّلة، تعيد فيها تدوير المشاهد المفترضة، المبنية على عالمٍ آخر يقبع هناك خلف البحار ويضم أحبة تفصلهم عن أقاربهم مسافات طويلة، قبل أن تجتاح الهواتف الذكية بما تتضمنه من Video Call تلك المخيلة وتطويها إلى غير رجعة.
الكاسيت أعاد تصويب الصورة النمطية عن الاغتراب الجنوبي من أنه أفريقي بامتياز، حيث تبيّن أن هجرة الجنوبيين إلى الخليج والكويت تحديدًا في تلك الفترة كانت كثيفة وقديمة، وترقى إلى فترة الخمسينيات وقد تكون أقدم من ذلك. والنموذج راشد الذي كان مغتربًا في الكويت وله إخوة هناك وأشخاص آخرين من معركة يسكنون بالقرب منه.
الكاسيت أعاد تصويب الصورة النمطية عن الاغتراب الجنوبي من أنه أفريقي بامتياز، حيث تبيّن أن هجرة الجنوبيين إلى الخليج والكويت تحديدًا في تلك الفترة كانت كثيفة وقديمة، وترقى إلى فترة الخمسينيات وقد تكون أقدم من ذلك
ولتأكيد تلك الصورة النمطية الراسخة في أذهاننا، أنه عند سماع الشريط وحديث “راشد” عن المكيّف ودرجات الحرارة المرتفعة، تبادر لأذهاننا أنا وآية أنه كان في أفريقيا وليس في الكويت.
أما كيف وصل شريط “الحجة سكنة حرب” إلى سوق الأحد؟ وهل وصل إلى معركة وسمعه أهل راشد؟ فلذلك حكاية أخرى، تكفّل بها الـ Smart Phone الذي أماط اللثام عن ذلك الكاسيت التائه والمنسي ما بين معركة والكويت وسوق الأحد.
أعطاني أبي رقم أحد أصدقاء “راشد” الذي أخبرني أنه توفيّ منذ خمس سنوات عن عمر 58 سنة فقط. أما عن زوجته صفاء فقال إنها تعيش مع أولادهما في المنزل الذي كان قيد البناء أثناء تسجيل راشد للشريط.
حصلت من صديق أبي على رقم “صفاء” فاتصلت بها مباشرة. عرّفتها عن نفسي فعرفتني. المفارقة كانت أن صفاء لم تكن تعرف شيئاً عن الكاسيت الذي كُتب عليه إسم جدتها ““سكنة حرب” وأرسله قبل حوالي الأربعين عامًا خطيبها حينذاك “راشد”، وكانت مذهولة بالقصّة وشكرتني على التواصل معها. وقالت لي أنّه بالفعل لم يصلهم الشريط ولكنها متحمّسة جدّا لسماعه وطلبت منّي أن أسجّله على الهاتف وأرسله على الواتساب لكي يسمعوه في الضيعة.
قالت لي أنه في تاريخ تسجيل “الكاسيت” كانت ما زالت مخطوبة لراشد واصفة طيبته وتواضعه. سألتها لماذا برأيك لم يصل الشريط إلى معركة؟ ومن فرضيّة إلى أخرى اعتقدنا أنه ربّما كان راشد قد أرسله مع شخص مسافر إلى لبنان ليعطيه لأحد الأشخاص من معركة المقيمين في بيروت. فإمّا أن ذاك الشخص لم يسلّمه وظلّ في بيته في بيروت ومن هناك وصل بطريقة ما إلى “سوق الأحد” كأحد “الأنتيكات” التي تُسحب أو تباع من البيوت القديمة، أو أنه قام بتسليم الشريط لشخص ثانٍ من معركة، لكنه علق في بيروت لفترة طويلة، وتعذّر عليه الذهاب إلى بلدته حينذاك بسبب ظروف الاحتلال الاسرائيلي للجنوب، وفصل المناطق عن بعضها وأيضًا صعوبة الانتقال من وإلى الجنوب بسبب حال الطرقات التي كانت محفوفة بالمخاطر.
“كاسيت الـ TDK” المكتوب عليه “الحجه سكنة حرب” يرقد الآن في آلة التسجيل القديمة عند آية، بعد رحلة شاقة استغرقت حوالي الأربعين عامًا، والحكاية تكشّفت فصولها تباعًا، لكن راشد لم يعد على قيد الحياة ليخبرنا مع من أرسل الشريط حينها، لنفهم أكثر كيف وصل إلى سوق الأحد.