في مواجهة تداعيات الحرب.. مبادرات نسويّة لمساعدة النازحات وأبنائهنّ
أدّت الحرب المندلعة على الحدود اللبنانيّة مع فلسطين المحتلة، والتي تزامنت وتأثّرت تصاعديًّا مع العدوان الإسرائيليّ على غزّة، وما تبعها من حركة نزوح داخليّ كبيرة، إلى فقدان الآلاف لأعمالهم ومصادر رزقهم، والانتقال للسكن في ظروف قاسية لا تراعي الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة الكريمة، سواء من نزحوا إلى مراكز إيواء استحدثت بعد الحرب، أو من نزحوا إلى منازل مستأجرة أو حلّوا لدى أقاربهم.
للنساء في الجنوب كما في كلّ الحروب، النصيب الأكبر من المعاناة، حيث يتأثرنَ بالظروف الإنسانيّة والمعيشيّة الصعبة المترتّبة عن النزوح، بشكل مباشر، فالفرص المتاحة أمامهنَّ للحصول على الموارد تكون أقلّ، وحاجاتهنّ الخاصّة بالرعاية الشخصيّة أكبر من مثيلاتها لدى الرجال، كذلك تقع على عاتقهنّ مسؤوليّة اجتماعيّة من أجل تقديم المساعدة والرعاية للآخرين.
اليوم، تلعب النساء في الجنوب دورًا حيويًّا بارزًا في مواجهة تداعيات الحرب القائمة على الحدود، وتشكيل شبكة تكافل إنسانيّة بديلة، تجعل من النساء عناصر فاعلة في الحروب والأزمات الطارئة، تركّز على حاجاتهنّ بوصفها ضرورات لا يمكن إغفالها أو تهميشها، ومنع التعامل معها كرفاهيّات لا ترقى إلى وضعها في خانة الأولويّات.
ويأتي عملهنّ في ظلّ تهميش وانشغال دوليّ عالميّ لما يجري في الجنوب، لتزامنه مع أحداث اقليميّة كبيرة كالعدوان الإسرائيليّ على غزّة والحرب الداخليّة الدائرة في السودان، وما يعانيه لبنان من أزمات داخليّة مختلفة، تحدّ من قدرة الحكومة بمؤسّساتها ومنظّماتها الرسميّة على الاستجابة للأزمة الحديثة، التي ضربت جميع مفاصل الدولة وقطاعاتها في أنحاء لبنان، وأثّرت على الاستقرار الذي كانت البلاد قد بدأت تشهده في الآونة الأخيرة.
النساء والبيوت المكتظّة
“راح علينا موسم الزيتون وراح علينا كلّ شي وأولادنا بلا مدارس”، تروي زينب لـ”مناطق نت” معاناة عائلتها التي نزحت من بلدة بيت ليف في قضاء بنت جبيل إلى بيروت، “بحثًا عن مكانٍ آمنٍ في ظل القصف الإسرئيليّ الذي أصبح يطال المنازل والمجمّعات السكنيّة، ولا يميّز بين أهداف مدنيّة وعسكريّة، بحيث يشكّل البقاء في المنزل خطرًا حقيقيًّا على الحياة”.
تنقّلت زينب مع عائلتها بين ثلاثة منازل ضمن الجنوب قبل أن تغادر إلى بيروت، بعد فقدانها الأمل من عودة الهدوء واستتباب الأمن، واستقرّت في نهاية الأمر في منزل شقيقتها وزوجها الذي يعتاش من راتبه كعسكريّ متقاعد، وهو ما لا يكفي حاجة العائلة لوحدها في الأيّام العاديّة.
وكمعظم سكّان القرى الحدوديّة، تعتاش عائلة زينب عادة من خلال عائدات بيع موسم الزيتون والزيت، وعمل زوجها في حراثة الأرض وزراعتها على مدار العام، إلّا أنّ الحرب منعته من جني حصاد موسم الزيتون لهذا العام، وهو عاطل عن العمل حاليًّا، ما يجعل عبء المصاريف المنزليّة اليوميّة على عاتق مضيفهم الذي يواجه بالأصل صعوبات مادّيّة. ولم تحصل زينب في المقابل حتّى الآن إلّا على فرشتين وحصّة غذائيّة كمساعدات من قبل إحدى السيّدات ممّن يقمن بمبادرات فرديّة لمساعدة النازحين.
كمعظم سكّان القرى الحدوديّة، تعتاش عائلة زينب عادة من خلال عائدات بيع موسم الزيتون والزيت، وعمل زوجها في حراثة الأرض وزراعتها على مدار العام، إلّا أنّ الحرب منعته من جني حصاد موسم الزيتون لهذا العام، وهو عاطل عن العمل حاليًّا.
كذلك تعاني زينب مع النساء في داخل المنزل من انعدام الخصوصيّة والإرباك بسبب وجود ثلاث عائلات في منزل واحد، وتؤثّر الخصوصيّة الدينيّة للغالبيّة العظمى من النازحين على النساء بشكل خاص فهنّ ملزمات بارتداء الحجاب في ظل تواجد أشخاص من غير العائلة طوال الوقت، وقد تضطرّ بعضهنّ للنوم وهنّ يرتدين الحجاب، يضاف إلى ذلك، أنّ زينب لم تقم بتسجيل أبنائها في المدرسة حتّى اليوم، لأنّها لم تتأكّد بعد من طول المدّة التي ستبقيها مع عائلتها بعيدًا عن المنزل.
تنتظر زينب وعائلتها أملًا بهدنة قريبة أو وقف الحرب الدائرة على الحدود من أجل العودة إلى منزلها وأرضها والعودة إلى حياتها الطبيعيّة كما كانت قبل بداية الأحداث، وقبل أن يفقد أبناؤها عامهم الدراسي بالكامل.
مبادرات نسائيّة فرديّة
في المقلب الآخر، ثمّة نساء تفرّغنّ لمساعدة النازحين ومحاولة احتواء تداعيات الحرب على المنطقة. تتحدّث “ميّ إسماعيل” التي تمتلك وعائلتها مدرسة “إسماعيل واكد إسماعيل” في بلدة أنصار الجنوبيّة، لـ”مناطق نت” عن تجربتها في هذه الحرب، حيث أخذت على عاتقها مع العائلة استقبال الأطفال النازحين، ومحاولة دمجهم في برنامج المدرسة التعليميّ، وتقديم كتب وقرطاسيّة لهم، لمنع خسارتهم عامهم الدراسيّ كما يجري مع أطفال في مناطق أخرى. وقد تمّ الترويج للمبادرة وتأمين مساعدات مادّيّة عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ وأهالي البلدة.
“عدد الطلاب يتزايد يومًا بعد يوم، مع ارتفاع عدد النازحين إلى البلدة، وقد وصل عددهم اليوم إلى 70 طالب، ويعنيني أن أساعد في تقديم المساعدة، وكنت أتمنّى أن تمتدّ هذه المبادرة إلى البلدات المجاورة بما يحفظ للأطفال حقّهم في استكمال عامهم الدراسيّ، خصوصّا أنّه مستمر في لبنان” تقول ميّ.
وتضيف: “إنّ الأطفال النازحين تبدو عليهم مؤشرات الإرهاق النفسيّ بسبب انعدام الاستقرار الذي يعيشونه في داخل البلدة التي تستقبل أكثر من مائتي عائلة نزحت من البلدات الحدوديّة وفق أرقام بلديّة أنصار”.
بدورها تؤكّد “منال الروماني” من بلدة دير الزهراني، والتي بدأت رحلتها بالعمل في التكافل الاجتماعيّ منذ أكثر من 12عامًا، “أنّ الحرب خلقت أزمة ذات حدّين، فمن جهة ازدادات الحاجة إلى المساعدات خصوصًا أن العائلات المحتاجة قد تضاعف عددها في الأونة الأخيرة، ومن جهة أخرى أوقف بعض الداعمين تقديم المساعدات بالوتيرة السابقة، بسبب تأثّر مصالحهم وأعمالهم بالحرب”. لذا تكثّف جهودها اليوم من أجل جمع تبرّعات لتلبية حاجة أكثر من 50 عائلة في الجنوب، ولا تزال تحاول قدر المستطاع.
وفي حديثٍ لـ”مناطق نت” تقول منال: “أحببت العمل بالطبّ منذ الصغر، إلّا أنّني لم أستطع أن أمتهنه لذلك دخلت هذا المجال الإنسانيّ من بابٍ آخر وهو جمع الأموال لتأمين ثمن العلاج والأدوية أو تكاليف العمليّات الجراحيّة للمرضى المحتاجين، الذي يتضاعف عددهم يومًا بعد يوم، واليوم أسعى لتأمين مساعدات أخرى كحصص غذائيّة وأغطية وفراش للنوم”.
تؤكّد “منال الروماني” من بلدة دير الزهراني، والتي بدأت رحلتها بالعمل في التكافل الاجتماعيّ منذ أكثر من 12 عامًا، أنّ الحرب خلقت أزمة ذات حدّين، فمن جهة ازدادات الحاجة إلى المساعدات ومن جهة أخرى أوقف بعض الداعمين تقديم المساعدات.
وتشير إلى أنّ الوضع الاقتصادي “لم يكن في أحسن حالاته قبيل اندلاع الحرب، فالأزمة الاقتصاديّة التي بدأت في خريف العام 2019 ألقت بظلالها على الجميع، وشكّلت الأحداث ضربة كبيرة في عصب الاقتصاد في المنطقة، مع إغلاق المحال التجاريّة وتوقّف المشاريع واحتراق الأراضي الزراعيّة وصعوبة التنقّل في العديد من المناطق خوفًا من الاستهداف الإسرائيليّ العشوائي”.
وكان تقرير الأمم المتّحدة قد أشار إلى أنّ “القطاعات الاقتصاديّة الرئيسيّة، السياحة والخدمات والزراعة، تضرّرت أكثر من غيرها، وهي التي توفر فرص العمل والدخل لنسبة كبيرة من سكّان لبنان، كما أنّ احتمال انكماش الاقتصاد بات مرتفعًا”.
نساء بلا معيل
سبّبت الحرب في اشتداد صعوبة الأزمة التي تواجهها السيّدات اللواتي لا يملكن معيلًا، ومن بين قصص هذه المعاناة تخبر نادية (اسم مستعار)، وهي أرملة، عمّا تعانيه بعد انتقالها للسكن في منزل مستأجر بقيمة 150 دولارًا، مؤلّف من غرفة واحدة في بيروت، مع كلٍّ من شقيقتها (63 عامًا) وخالتها (80 عامًا)، بعد نزوحهن من منطقة الطيري في الجنوب.
لا تمتلك السيدات الثلاث أيّ مصدر رزق ثابت، بينما كنّ يعتشن سابقًا من عمل السيّدة نادية في جمع التنك والحديد وبيعه في القرية، ومن خلال زراعة الأرض المجاورة للمنزل للاستهلاك الشخصيّ لا البيع. أمّا اليوم فهنّ لا يملكن أيّ مردود ماليّ ولم يحصلن حتّى الساعة على أيّ مساعدات، باستثناء ما كان يُقدّم لهنّ من أدوية شهريًا، فشقيقتها وخالتها جريحتان من حروب لبنان السابقة، وهما بحاجة إلى أدوية معيّنة بشكل دوريّ، ما يجعل تأمين القوت اليوميّ والتكاليف المعيشيّة الأخرى مهمّة شبه مستحيلة في هذه الظروف.
هذا، ولا يزال عدد من أفراد عائلة نادية في منازلهم في القرية بسبب عدم إمكانيّة انتقالهم إلى مناطق أخرى.
الجمعيّات النسويّة والخطط الطارئة
تتحمّل الجمعيّات المعنيّة بشؤون النساء على جميع الأراضي اللبنانيّة اليوم مسؤوليّة تقديم الرعاية والمساعدات للنساء النازحات من القرى الحدوديّة الجنوبيّة، وتأمين احتياجاتهنّ الخاصّة كافة، لا سيّما تلك التي لا يتم التركيز عليها من قبل الجهات الأخرى المعنيّة بالوقوف على أحوال النازحين، لاعتبارات اجتماعيّة خاصّة.
فالمتبرّعون يركّزون عادةً على تقديم المواد الغذائيّة أو مستلزمات النوم، فيما يتمّ تهميش مستلزمات العناية بالنظافة الشخصيّة والمستلزمات الصحّيّة الخاصّة بالفتيات والسيّدات. كما أنّ الحديث عن الدورة الشهريّة ومستلزماتها، لا يزال محدودًا في المجتمعات المحافظة، ويعدّ من المواضيع التي لا يتمّ تداولها بشكل واسع ومريح، لذا تجد النساء النازحات صعوبةً في المطالبة بتأمين هذه المستلزمات.
تتحمّل الجمعيّات المعنيّة بشؤون النساء على جميع الأراضي اللبنانيّة اليوم مسؤوليّة تقديم الرعاية والمساعدات للنساء النازحات من القرى الحدوديّة الجنوبيّة، وتأمين احتياجاتهنّ الخاصّة كافة.
تؤكّد إحدى السيدات اللواتي يقمن بمبادرات فرديّة لجمع التبرّعات العينيّة للنازحين، أنّها شعرت بالخجل من طلب “الفوط الصحّيّة” من المتبرّعين الذين تواصلوا معها لسؤالها عن نوعيّة المساعدات العينيّة التي يمكن تقديمها؛ على الرغم من أنّ بعض السيّدات طلبن منها بشكل مباشر أن تساعدهنّ في تأمين الفوط الصحّيّة، لكنّها بالمقابل استخدمت بعض المساعدات المادّيّة التي لم يحدّد المتبرعون النوعيّة التي يرغبون بتقديمها، من أجل شراء فوط للمنازل التي تحوي عددًا كبيرًا من السيّدات.
من ضمن هذه الجمعيّات، جمعيّة “فيمايل” اللبنانيّة التي نشأت وتأسّست العام 2012، وسبق لها العمل في مشاريع متعدّدة تهدف إلى دعم وتمكين المرأة في المجتمع اللبنانيّ، وهي اليوم معنيّة بتأمين هذه المستلزمات للنازحات، إذ جرى توزيع لوازم صحّيّة للنساء في كلّ من صيدا ومخيّم عين الحلوة.
وقد وضعت الجمعيّة، بالتعاون مع عدد من الجمعيّات الشريكة المعنيّة أيضًا بالنساء، خطّة عمل مشتركة للاستجابة إلى الوضع الطارئ في الجنوب، وسيبدأ العمل فيها تدريجيًّا في القرى والمدن الجنوبيّة. تلحظ الخطة احتماليّة توسّع رقعة الصراع بعين الاعتبار، ويتمّ التجهيز على هذا الأساس لاستجابة شاملة تغطّي المناطق اللبنانيّة كافة.
وستقوم الجمعيّة بتنسيق العمل على الأرض ميدانيًّا مع مجموعة من العاملين والمتطوّعين، ممّن سيقومون بالتوجّه إلى مراكز النزوح والتحدّث مباشرةً مع النساء النازحات لمعرفة مختلف احتياجاتهن والعمل على تأمينها، من خلال جمع مساعدات عينيّة وماليّة، وفق ما صرّحت به “زهراء برجاوي” لـ”مناطق نت”، وهي المنسّقة الميدانيّة لجمعيّة “فيمايل” في الجنوب.
كذلك تدين هذه الجمعيّات من خلال موقعها في العمل بالشأن العام الاجتماعيّ، ودورها الإعلاميّ المحلّيّ والإقليميّ، الاعتداءات الإسرائيليّة على الجنوب واستهداف المدنيّين وتهجيرهم من منازلهم. وتحاول تسليط الضوء على معاناة النازحين، لا سيّما النساء والفتيات، عبر منصّاتها، من أجل توجيه الجهات المعنيّة لتأمين ما يستلزمه الأمر من مساعدات معيشيّة واقتصاديّة واجتماعيّة مستعجلة وضروريّة، وتمكين النساء كي يتحوّلن من ضحايا حرب إلى صانعات قرار ومؤثّرات على مجريات الأحداث.
هذا التحقيق أُعدّ بالشراكة مع: