قاسم قديح آخر شهود حي “روسيّا” في النبطية، يرحل
المناضل الشيوعي جمع بين قضيته وحبّ "الحسين" وعاشوراء
غادرنا إلى جوار بارئه اليوم، الرفيق قاسم محمد قديح، أبو رشاد، عن 92 عاماً، كانت حافلة بالنضال على اكثر من صعيد، بعدما سجّل حضوره الفني في تشخيص عاشوراء النبطية على مدى ستين عاماً أو أكثر، فناناً عفوياً، أحبّ إلى نضاله الشيوعيّ في مرحلة الشباب والنهضة القوميّة، قضية الإمام الحسين ومظلوميته، فوجدها تتواءم مع النضال والثورة والمقاومة.
أبو رشاد قديح مناضل من زمن عادل صباح، شهدت لهما ساحات النبطية ورفاقهما صولات وجولات وتظاهرات دفاعاً عن حقوق الناس في المسكن والتنمية والعيش الكريم. وقد جسّد قديح حياة المناضل ليس في الصفوف الحزبية فحسب، بل في مهنته كمنجّد، هذه الحرفة التي كانت رائجة في النبطية، وظلّ هو إلى الرمق الأخير آخر عمالقتها بعدما أقفل المستورد من البضائع أبوابها شيئاً فشيئاً.
قصة حي التعمير
تعتبر قضيّة “حيّ التعمير” في النبطية من أهمّ نضالات “الرفيق قاسم”، إذ بدأت مع مشاركته ورفاقه في ثورة العام 1958 فعمل جنباً إلى جنب مع قائده الثوري عادل صباح على وضع اليد على هذه البيوت التي بنتها الدولة اللبنانية في أعقاب زلزال العام 1956 وأرادت توزيعها على المحسوبين، فوزعها عادل صباح وقاسم قديح على المحتاجين من أبناء النبطية إلى مسكن لا يملكونه. وكان هو أول ساكني هذا الحيّ الذي أُطلق عليه في حينه اسم “حي روسيّا” نسبة إلى الشيوعيين ممن سكنوا أو لعبوا دوراً أساسياً في ولادة الحي.
انبثقت عن التّحركات والاجتماعات المتعلّقة ببيوت حيّ التّعمير لجنة، كانت برئاسة قاسم قديح الذي روى في لقاء معه بعض تفاصيل ما جرى في العام 1958، قبله وبعده، فقال: “كانت الأرض عند الجهة الشّرقية من النّبطيّة لآل الصبّاح، اشترتها مصلحة التّعمير لغاية البناء، وكانت نحو 54 دونماً. بدأت عملية البناء في النبطية سنة 1956، وكانت كلّ وحدة تتألف من سقف وجدران وأبواب مطليّة، من دون تلييس أو أدوات صحّيّة أو بلاط، بل بقيت أرضها ترابيّة. غرف لها أبواب ومطلية من الداخل والخارج بلون زهري. ربّما هي الثورة التي انطلقت عام 1958، دفعت باتجاه عدم إتمام البناء، فتوقّفت الورش”.
ويضيف: “حصلت الثّورة التي كنّا في قلبها، وتوقّف العمل في البناء، وصارت البيوت تشبه القرى المهجورة. كانت مناوبتنا في الحرس في إحدى اللّيالي، عند الأطراف الشماليّة للحيّ، في محلّة تعرف بالمرج وكان خطّ سيرنا من هنا، من محاذاة بيوت التّعمير. وخلال نوبة الحرس رحنا نتداول في وضع هذه البيوت المقفلة، ومعظمنا من دون عمل “عايفين الله” وليس بمقدرونا أن ندفع أجرة البيت البالغة 9 ليرات لبنانيّة، كانت آنذاك، وصرنا نسأل بعضنا: لماذا لا نسكن هذه البيوت؟ ردّ البعض: ماذا لو اعتقلنا وسجنّا؛ وردّ البعض الآخر: نحن ماذا نفعل الآن؟ إننا نقاوم هذه السّلطة وهل سنخاف؟ ومن سيمنعنا؟ الأمر يحتاج إلى بحث، ولنعد إلى المسؤول عناّ، الأستاذ عادل صبّاح…
خلال نوبة الحرس رحنا نتداول في وضع هذه البيوت المقفلة، ومعظمنا من دون عمل “عايفين الله” وليس بمقدرونا أن ندفع أجرة البيت البالغة 9 ليرات لبنانيّة
إحتلال الحي
في اللقاء مع عادل صبّاح، رحمة الله عليه، سألني: هذه الفكرة فكرتك؟ أنا متأكّد أنك وراءها. فرددت بالإيجاب. كان إمام المدينة الشيخ محمد تقي صادق متعاطفاً مع حركتنا الثّورية، واقترح الأستاذ عادل سؤاله ووضعه بما يمكن أن نقدم عليه. ولم يتأخر في ذلك، فزاره في اليوم التّالي ووضعه في جوّ أنّ الشباب سيصعدون إلى الحي ويحتلّون البيوت، فاعترض من فوره، مبرراً بأنّه يمكن اعتقالهم، “ومن ثم سوف نحتاج إلى من يطلقهم! أعطني مهلة يومين، فغدا الأحد سيمرّ أبو كامل من هنا (رئيس مجلس النواب أحمد الأسعد) ونسأله ونردّ عليكم خبراً… مرّت ثلاثة أيام وأرسل الشيخ بطلب الأستاذ عادل ليسأله: بعدهن ناويين الشباب يحتلّوا البيوت؟ فردّ الأستاذ عادل: إذا مش اليوم عبكره. فقال الشيخ: ليكن، لكن بشرط ألاّ يكون أحدهم يملك بيتاً، أو يسكن عند أهله. فقال الأستاذ عادل: هذه اتركها لنا ونحن سندبّر الأمر…
عدّة ليال مرّت ونحن نجتمع ليلاً في منزل الرّفيق قاسم الصبّاع لنتباحث بموضوع بيوت التّعمير، حتى وصلنا إلى خلاصة من سيقطن في هذه البيوت. في اليوم التالي دعانا عادل صبّاح إلى اجتماع في بيته، للبحث في تنفيذ الخطّة، لكنني كنت قد صمّمت قبل الذهاب، على أنني سأسكن إحدى هذه البيوت، شاء من شاء وأبى من أبى. قال الأستاذ عادل: تمّ الرأي على احتلال بيوت التّعمير، ولن نسمّيه احتلالاً لأنه هذا من حق الناس، إنّه حقّ مكتسب لهم، بعدما بنتها مصلحة التّعمير لمصلحة النّاس ممّن لا بيوت لهم. وجرى الاتّفاق على أنّ من سيسكن هذه البيوت لا بيوت لهم ملكاً أو استئجاراً. ردّ البعض: إنّ هذا الأمر لا يناسبنا، خصوصاً من يسكن ابنه عنده في بيته. فردّ الأستاذ عادل بأن نؤجّل النقاش في هذا الأمر إلى وقت لاحق ولنؤلّف لجنة تعمل على توزيع البيوت بحسب الاتّفاق. واقترح جارنا مصطفى، أبو محمود صبّاح أن تكون اللّجنة برئاستي وفتح الباب أمام آخرين يمكن أن يكونوا في اللجنة، فتمّ اختيار علي سلّوم “أبو معروف”، وحبيب درويش، و”أبو تيسير” حسين بدر الدين، وهيّا إلى التنفيذ، شرط أن تعودوا إلى عادل صبّاح في كلّ أمر أو عقبة…
لأنّني شيوعيّ، كنت همزة الوصل مع الأستاذ عادل بكلّ شاردة وواردة، أمّا الآخرون، أعضاء اللّجنة، فهم ليسوا شيوعيّين، إنما كانوا يدورون في فلكهم… أتينا إلى الحيّ، وأحصينا البيوت، فكانت 58 بيتاً، أو ربّما أكثر أو أقل، لقد نسيت الرقم. ووجدنا أنّ بعض البيوت تتألّف من ثلاث غرف ومطبخ، وبعضها من غرفتين ومطبخ والباقيات من غرفة واحدة ومطبخ. ولا وجود لحمّامات فيها، أو لمياه أو كهرباء. واتّفقنا على أنّ من لديه عائلة كبيرة يأخذ بيتاً كبيراً، ومن تكون عائلته صغيرة يأخذ بيتاً من غرفتين، ومن لديه ولد واحد يأخذ غرفة واحدة مع مطبخها. لكن لنقارن بمن يحتاج بيتاً وعدد البيوت الموجودة. وكان عدد المحتاجين نحو 200 “وعرِّب إن كان بمقدورك أن تعرِّب”. التقيت الأستاذ عادل في دكّان قاسم الصبّاغ وأخبرته بأنني سأتصرف وفق ما أراه مناسباً وسأتحمّل المسؤولية بكاملها…
كان عدد المحتاجين نحو 200 “وعرِّب إن كان بمقدورك أن تعرِّب”. التقيت الأستاذ عادل في دكّان قاسم الصبّاغ وأخبرته بأنني سأتصرف وفق ما أراه مناسباً وسأتحمّل المسؤولية بكاملها
توزيع البيوت
صرنا نوزّع كل 3 غرف ومطبخ على عائلتين صغيرتين قريبتين، مثلاً حسن قدوح وموسى قدوح أعطيناهما بيتاً كبيراً، وهكذا.. حسب ما اتّفقنا، أنا مثلاً اخترت بيتي حيث أسكن حالياً وكانت الطّرقات تمرّ من أمامه، كانت طرقات مشقوقة غير معبّدة، عرضنا لائحة التّوزيع الأخيرة على الأستاذ عادل فوافق عليها. اتّفقنا أن تكون الساعة الثانية فجراً، ساعة الصفر، أخبرنا الجميع ممّن أبلغناهم وحدّدنا بيوتهم، أن يأتوا بصحبة عائلاتهم، لكن “على السكت” من دون أن يدري أحد غيركم. أتوا، قسّمناهم فرقاً، الحيّ التحتانيّ سيكونون مع المسؤول الفلاني، والشّرقية مع آخر، وأنا كانت الجهة الشّمالية تحت مسؤوليتي. كان الشيوعيّون هم أصحاب المشروع والفكرة، وكانت جميع الأمور تحت إشرافهم وسيادة رأيهم، وهذا لم يقتصر على المشروع فحسب، إذ أن الشيوعيين كانوا يشكّلون أعيان الحراك السّياسيّ والحزبيّ في مدينة النّبطيّة، وكانوا مصدر ثقة لجميع فاعليات المدينة. هكذا استلمت كلّ عائلة بيتها، وأثّثتها بفرشة وغطاء ومخدّة.
عند الثامنة صباحاً، دبّ (انتشر) الخبر في النبطية؛ أن الشيوعيين احتلّوا حي التعمير. وبدأت الجموع تتوافد إلى الحي، وحصل هرج ومرج، وراح البعض يهدد ويتوعّد، ونحنا كنا “يا برجاً عالياً” نستمع ونراقب، واشتكى بعضه إلى المخفر، فحضروا إلى هنا. قابلت دركيّاً اسمه كريم، وكان يعرفني، سألني ماذا تفعل هنا؟ أجبته، فقال: أليس عندك بيت؟، فأجبت بالنفي، وسألني من جديد: ما هو عملك؟ فقلت: عملي الذي تعرفه، منجّد، وكلّ أسبوع حتى أنجّد فرشة أو غطاءً؛ وهذه البيوت عمّرتها الدولة لمن ليس لديه بيت، فجئت وسكنت ها هنا، وكان هو يسجّل إفادتي وعندما انتهى سألته: كريم أفندي ما معنى هذا المحضر الذي سجّلته؟ فردّ: أعطني مثل هذا البيت وسجّل بحقي مئة محضر (كان عمري حينها 25 سنة).
سأل عادل صبّاح: هل أحد منكم لديه اعتراض على ما قاله قاسم قديح؟ يوم كان ينام في البراري ويحرس هو ورفاقه للدّفاع عن النبطية، كان غيرهم ينعم مع عائلته، لذلك هو يستحق بيته… في ذاك الحين، أطلق عدد من أبناء النبطية على الحي اسم “روسيّا” نظراً لأن الغالبية المنتشرة فيه، إمّا من الشيوعيّين أو ممّن يدورون في فلكهم أو من الفقراء، وكان الشيوعيّون وأنصارهم ومؤيّدونهم يشكّلون الأكثرية في النبطية.
في ذاك الحين، أطلق عدد من أبناء النبطية على الحي اسم “روسيّا” نظراً لأن الغالبية المنتشرة فيه، إمّا من الشيوعيّين أو ممّن يدورون في فلكهم أو من الفقراء
عادل صبّاح أبيّ النّفس
لماذا عادل صبّاح لم يحصل على بيت، وهو كان يسكن في بيت أهله؟ يقول: “كان بإمكان عادل صبّاح أن يأخذ أربعة بيوت، عادل صبّاح صار بدار الحقّ، والحقّ يقال: عادل صبّاح أبيّ النّفس. لو كان عادل صبّاح يحب المال ويسعى لمصلحته، كان بإمكانه أيّام الـ58 أن يجمع ثروة، كان يصرف ما في جيبه من أجل المصلحة العامّة والنّاس ومبادئه الحزبيّة. لم يمرّ بحياتي كلّها رجل مثله في النبطية، كانت في النبطية مجموعة جيّدة ومناضلة وأبيّة، لكن لا أحد مثل عادل صبّاح… أنا أعرف عادل صباح كواحد من أبناء النبطية، لكن عرفته أكثر منذ أنتفاضة سنة 1958 وصارت بيني وبينه مودّة كبيرة، كنّا شيوعيّين بالحماسة، يوم كنّا نغنّي ونردّد ونحن بأعمار 16 سنة:
هدّ الكون بسكّانه هجوم ستالين ما كان يهدّي حصانه إلا ببرلين
بعدها قرّرت قيادة الحزب في النّبطيّة ضمّنا إلى الحزب، كوننا نشارك في التظاهرات ونكون في المقدّمة عندما تدعونا الحاجة، فنظّمونا ودرّبونا وثقّفونا… في وقتها عادل صبّاح جعل معظم النبطية شيوعية”.
على مدى أكثر من سبعين عاماً “شدّ” ونجّد أبو رشاد فرش وأغطية معظم بيوت النبطية، ناهيك عن بيوت البلدات المجاورة أو قرى الجوار التي كان يجول عليها ممارساً مهنته بإتقان، بعدما ورثها عن والده محمد قديح. وفي عاشوراء أدّى دور “الشمر بن ذي الجوشن”، أحد قتلة الإمام الحسين وأهل بيته أكثر من ستين عاماً، معتبراً في تأديته لشخصية الظالم على أهل البيت، أجراً عند ربّه الذي انتقل إلى جواره بقلب محب مؤمن دافئ…