قبل أن تعود عيترون إلى الوطن عاد مزارعوها إليها

قبل أن تعود عيترون إلى حضن الوطن عاد مزارعوها إليها، قلوبهم كانت هناك قبل معاولهم التي اشتاقت كي تعفّر ترابها وتعانقها، فانتشروا يرسمون فوق أديمها مساكب التبغ ليزرعوها تحضيرًا للموسم المقبل. وبعد الحرب الإسرائيليّة الوحشيّة الأخيرة التي دمّرت البيوت وجرّفت الطرقات والحقول، وقف مزارعو التبغ من جديد بين رماد قراهم وركامها، يعاينون ما بقي من ذكريات المواسم الماضية، ويصلّون لأجل مواسم خير قادمة.

انتظر أبناء عيترون نهاية هدنة الستّين يومًا بفارغ الصبر كي يعودوا إلى بلدتهم، لكنّ قوّات الاحتلال لم تنسحب من البلدة في التاريخ المعلن الـ 26 من كانون الثاني (يناير) الماضي، بل أرجأت انسحابها من عيترون إلى الثاني من شباط (فبراير) الجاري فدخل أبناء عيترون إلى بلدتهم، ليجدوا الخراب والدمار ينتشر في أحيائها وأزقّتها ومرافقها وحقولها، إذ لم يبقَ شيء لم تطاوله وحشيّة آلة الدمار الإسرائيليّة، لكنّ ذلك لم يمنع مزارعي البلدة من أن يشمّروا عن سواعدهم ويبدأوا بزراعة مشاتل التبغ التي يحين أوان زراعتها في شهر شباط من كلّ عام.

بالتأكيد لن يكون الموسم هذا العام كالمواسم الماضية، فالبلدة لم تلملم ركامها وجراحها بعد، وثمّة عدد قليل من مزارعي البلدة من أصل عدد كبير استطاع معاودة نشاطه الزراعيّ، لكن هذا العدد سيزداد مع الأيام، ووفق أحد مزارعي البلدة “اللّي ببطن أمّه بيكون عم يزرع دخّان بعيترون”.

لن يكون الموسم هذا العام كالمواسم الماضية، فالبلدة لم تلملم ركامها وجراحها بعد، وثمّة عدد قليل من مزارعي البلدة من أصل عدد كبير استطاع معاودة نشاطه الزراعيّ

مزارع يشرئبّ بين الركام!

يعود المزارع يوسف طعان علويّة إلى حقله الذي لم يتركه أساسًا إلّا في أيّام قليلة، إذ كان يخاطر على الدوام ويدخل إلى عيترون، مسقط رأسه الذي كان يعيث فيه الاحتلال خرابًا ودمارًا. هو شاهد على جميع فصول الحرب، وعاشها لحظة بلحظة، فبعد توسّع رقعة الحرب وفي الـ 26 من أيلول (سبتمبر) الماضي، استهدفت غارة إسرائيليّة منزلًا قرب منزله، ممّا أدّى إلى إصابة عائلته وعائلة أخيه، وكانت بعض إصاباتهم خطرة، إلّا أنّ ذلك كلّه لم يجعله يفكّر للحظة في أن يترك الأرض التي كاد أن يخسر فيها أعزّ من عنده.

قبل انسحاب قوّات الاحتلال الإسرائيليّ من عيترون في الثاني من شباط الجاري، كان علويّة قد استبق الانسحاب ونثر بذوره على صفحات المساكب، متيقّنًا أنّ شتولها ستنغرس في مكانها، وأنّ الأرض عائدة إلى أهلها. عن المخاطرة في الدخول إلى البلدة على رغم معرفته بوجود قوّات الاحتلال بداخلها في تلك الأيام، يقول علويّة “اللّي إلو عمر ما بتقتله شدّة”، ويتابع لـ “مناطق نت”: “الدخّان مصدر رزقنا ونحن لسنا معتادين على أن يحضر لنا أحد كرتونة مساعدات، فأنا كبرت وعلّمت أولادي أفضل تعليم من شتلة التبغ”.

موسم ليس كسابقاته

يلفت علويّة إلى أنّه لم يتوقّف عن زراعة أرضه طوال أيّام الحرب حتّى تاريخ بدء الحرب الكبرى في أيلول الماضي، وكان يزرع كلّ أنواع المزروعات، على الرغم من دنوّ أرضه من موقع المالكيّة الإسرائيليّ، حيث كان يتعرّض دائمًا لملاحقة المسيّرات وتفجير درون، وفي إحدى المرّات حصل ذلك بالقرب منه بينما كان يغرس الشتول.

المزارع يوسف علويّة وخلفه مساكب التبغ التي زرعها في أرضه في عيترون

عن وضع الموسم المقبل، يشير علويّة إلى أنّ “من يزرع اليوم مساكب الشتول يستطع اللحاق بالموسم، إلّا أنّه لن يكون كسابقاته بالطبع، فهناك عدد كبير من المواطنين فقدوا منازلهم، فهل سيأخذون “دخاناتهم” معهم إلى مكان نزوحهم؟ هذا غير ممكن”.

وعودة قطيع ماعز

لم يعد علويّة وحده إلى عيترون، بل عاد معه قطيعه الذي نزح برفقته أثناء الحرب، لكنّ القطيع لم يعد كما خرج إذ كان يتألّف من نحو 400 رأس ماعز، فقد خسر علويّة جرّاء الحرب 100 رأس وبقي لديه بحدود الـ 300 رأس. والمفارقة أنّ علويّة عاد بقطيعه سيرًا على الأقدام من بلدة صريفا (قضاء صور) التي كان قد نقله إليها، وصولًا إلى عيترون، بعد أن اجتاز مسافة نحو25  كيلومترًا على أقلّ تقدير.

علوية سار على قول أخيه الشهيد الذي ارتقى خلال هذه الحرب، “اطلع من البيت لابس بإجريك، أحسن ما تطلع حافي”، أخذ عائلته ولم يمضِ بعيدًا، ظلّ يزور محبوبته عيترون، يؤنس وحشتها ويتنشق هواءها، ويحرس رزقه من أرضه التي إليها يعود.

جرّفوا المساكب فأعاد زرعها

“خلال هدنة الـ 60 يومًا، كنت زارع مساكب الدخّان، إجو جرفولي إيّاها الإسرائيليّون، وهلّأ رجعت زرعتها من جديد”، يقول المزارع إبراهيم عبدالمنعم لـ “مناطق نت”.

سيارة المزارع ابراهيم عبد المنعم وقد أصابها القصف

عبد المنعم، مزارع يتّخذ من الأرض وشتلة التبغ مورد رزق وحيد. “اللي معو مصاري بتفرقش معه، بدنا نطعمي ولادنا وما إلنا إلّا هالدخّانات”، يجيب عبدالمنعم لدى سؤالنا عن المخاطرة بزرع الشتول على رغم عدم وضوح مآل القرى الجنوبيّة. ويلفت إلى أنّه في اليوم الذي اشتدّت فيه الغارات على الجنوب، كان في تبنين (قضاء بنت جبيل) يسلّم بعض محصوله من الموسم الفائت.

عن الإصرار على العودة إلى عيترون وأرضها، يجيب عبدالمنعم مقاربًا المسألة بالقول: “إذا مرّ جارك ورمى عليك حجر، سينشب عن ذلك خلاف، ويمكن أن يؤدّي إلى تعارك معه، فكيف إذا أراد أحد سلبنا أرضنا ورزقنا وجنى عمرنا، هل نتركه يفعل ذلك؟”. يؤكّد عبدالمنعم أنّه يملك حقولًا تضمّ أكثر من 200 شجرة صنوبر و600 شجرة زيتون، قائلًا: “وبتسألوني ليش بدّي إرجع إطلع على عيترون؟”.

بحاجة إلى كلّ الدعم

يشير عبدالمنعم إلى أنّه يعمل في زراعة التبغ “من لمّا تكوّنت ببطن أمّي”، على حدّ قوله. وقد زرع قبل أيّام نحو 200 متر مربّع من مشاتل التبغ، وحرث أراضٍ جديدة استطاع تأمينها، كون أراضيه قريبة جدًّا من الحدود، ولا يستطيع الوصول إليها حتّى الساعة.

عبد المنعم: إذا مرّ جارك ورمى عليك حجر، سينشب عن ذلك خلاف، ويمكن أن يؤدّي إلى تعارك معه، فكيف إذا أراد أحد سلبنا أرضنا ورزقنا وجنى عمرنا، هل نتركه يفعل ذلك؟

وعن متابعة أوضاع المزارعين، يشدّد عبدالمنعم على أنّهم بحاجة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى رعاية ومتابعة استثنائيّتين من الجهات المعنيّة، إذ أنّهم بحاجة إلى أسمدة وكلّ أنواع الدعم. يضيف: “للأسف هناك نظرة دونيّة إلى المزارع في بلادنا، إذ يعتبرونه إنسانًا بسيطًا، لا يعيرونه الاهتمام اللازم، لكن في البلاد التي تحترم الإنسان للمزارع دور كبير ويعيش في أفضل حال”. و”اللّي بياخدلك رزقك كأن أخدلك روحك”، ينهي عبد المنعم حديثه في تأكيد على أنّ أهل الأرض سيحرسون أرزاقهم حتّى ولو كان الثمن أرواحهم.

مخاطرة في سبيل الرزق

خاطر المزارع بهيج مهدي ابن بلدة عيترون بحياته مرارًا، وذلك في سبيل مساكب التبغ التي وحدها دون غيرها تؤمّن له معيشته. وخلال هدنة الـ 60 يومًا، كان يتوجّه نحو عيترون، حاملًا روحه على كفّيه، كي يتمكّن من اللحاق بالموسم، ويزرع المساكب قبل فوات الأوان. يشرح مهدي لـ “مناطق نت” قائلًا: “واظبت على البقاء بعيترون غالبيّة الأوقات، كنت أنام تحت القصف وأتخفّى من قوات الاحتلال حتّى أستطيع الوصول إلى رزقي”.

يذكر مهدي أنّه زرع حتّى الآن مشتلًا يكفي لزراعة نحو ثلاثين دونمًا من الأراضي، إلّا أنّه حتّى الساعة لم يستطع حراثة وتجهيز سوى أربعة دونمات من الحقول. وعن خطورة الزراعة في هذا الوقت، يقول مهدي: “بدنا نزرع دخّان من حاجتنا، إلنا سنتين بلا مواسم، نحنا فلّاحين وهاي شغلتنا شو بدنا نسوّي؟”.

تجريف الأراضي الزراعية في عيترون

يؤكّد مهدي في هذا السياق غياب أيّ دعم من الجهات المعنيّة في وزارة الزراعة أو الداعمة، ويلفت إلى أنّ “المزارعين بحاجة إلى سماد وغيره من الأمور التي تمكّنهم اليوم من العودة إلى حقولهم والصمود مرّة جديدة فيها، على رغم غطرسة المحتلّ وطمعه الدائم والمتواصل في الأراضي الجنوبيّة”.

رعاية من هنا وهناك

من جهته يؤكّد رئيس بلديّة عيترون سليم مراد أنّ عيترون تعتبر البلدة الأولى من حيث زراعة التبغ وأهاليها يعيشون من هذه الزراعة بشكل أساس. ويتابع لـ “مناطق نت” فيقول: “إنّنا اليوم أمام تحدٍّ كبير بعدما عاث العدو الإسرائيليّ في الأرض فسادًا، وهذا التحدّي يستلزم تكاتف الجهود بين الجميع”. ويضيف “أنّ البلديّة تعمل على تأمين الأمور الأساسيّة ومقوّمات الحياة كي يستطيع الأهالي الاستقرار والعودة إلى حقولهم وزراعاتهم من جديد”.

وفي هذا السياق، يشير رئيس اتّحاد نقابات مزارعي _التبغ حسن فقيه، لـ “مناطق نت” إلى أنّ خطوة زراعة مساكب شتول التبغ هي خطوة منطقيّة وطبيعيّة من قبل المزارعين الذين عادوا إلى قراهم ومنازلهم. ويؤكّد أنّ “الريجي قامت بدور مهمّ تجاه المزارعين في السنة الماضية، وحاولت قدر الإمكان التعويض عن خسائرهم”. وأمل أن “يكون هذا الموسم واعدًا، بعدما كان الموسم الفائت كارثيًّا على المزارعين الجنوبيّين”._

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى