قراءة في “الحياة كما قُدّمت لهم” لزياد كاج
حيّ السلم، الرادوف، الغبيري، الشيّاح، حارة حريك، طريق المطار وغيرها؛ لا تني هذه الأماكن تتكرّر في رواية الكاتب اللبنانيّ زياد كاج “الحياة كما قدّمت لهم” الصادرة عن دار “نلسن” لتتحوّل من كونها أماكن محض جغرافيّة إلى أماكن من نمط آخر تستلّ وجودها من ذلك التشظّي العبثيّ بين ذاكرة الأمس وذاكرة اليوم.
أكثر ما تدعو إليه رواية “الحياة كما قدّمت لهم” هو إعادة النظر بالحتميّات القارة في تصوّراتنا عمّا هي الضاحية بالعمق. فالضاحية الجنوبيّة التي تقدّمها هذه الرواية تأبى أن تكون حيّزاً يحفل بحتميّات صير إلى استنباتها من كلّ حدب وصوب. لا يمكن رصد هذه الحتميّات المفتعلة في مشهد بعينه بيد أن المشهد الرئيس الذي يستبطن كلّ هذه المشاهد هو حتمّية أن يكون الإنسان رهن مزاج سياسي- جهاديّ بعينه.
لا يستفرد زياد كاج بحدث سياسيّ محدّد ليبني عليه سرديّة ناس روايته الوافدين بشكل خاص من بعلبك والجنوب. أمّا تاريخ أحداث الرواية فيمكن لحظه عبر الصور التي تعتلي غرفة القعدة في منزل واحدة من الشخصيّات الرئيسيّة في هذا الكتاب… جمال عبد الناصر وصولاً إلى السبعينيّات ثمّ موسى الصدر حتّى التسعينيّات لتسقط كلّ الصور بعدها إلّا صورة حسن نصرالله التي تتحوّل لأن تصير هي جدار البيت وجدار الحيّ وجدار الضاحية بالإجمال حيث تخثّرُ الذاكرة في هذا السياق يأخذ مداه بما يفوق التوقّعات.
فرصة المكبوتين
أكثر ما يجيد زياد كاج في لعبته السرديّة عبر هذا العمل هو إعطاء الذكريات المكبوتة إلى ناس هذه الأحياء فرصة للظهور عبر السرد. فالسرد في هذا السياق يكفّ عن أن يكون حكايا تُنسج بل تراه أقرب إلى تواقيع ناس الضاحية الجنوبيّة على ما لطالما اعتور أيّامهم في هذه البقعة من ألم وكدح وسعي للفوز.
يقول غاستون باشلار في كتابه عن المكان: يا لخصوبة اللامتوقّع. أمّا المكان في “الحياة كما قدّمت لهم” فهو أبعد ما يكون عن الحدّ الأدنى من اللامتوقّع. فهذا المكان هو ذاكرة صير إلى بلورة ماضيها بما يتناسب مع سياسات قوى الأمر الواقع. وهي ذاكرة على الرغم من كثرة تلافيفها هي على الدوم رهن الأجوبة المتوقّعة لهذا الخيار السياسيّ أو ذاك… هي رهن الأجوبة المعلّبة، الأجوبة الجاهزة، أجوبة سادة الضاحية في كلّ زمن من أزمنة هذا المكان المشوّش على الدوم.
أكثر ما يجيد زياد كاج في لعبته السرديّة عبر هذا العمل هو إعطاء الذكريات المكبوتة إلى ناس هذه الأحياء فرصة للظهور عبر السرد
قد لا يليق بالهويّات الجماعيّة أن تكون شديدة الوثوقيّة والانضباط في عالم يزخر بما لا نهاية له من احتمالات وتخمينات، بيد أنّ واقعة العزلة التي تؤسّسها ذاكرة الضاحية الجنوبيّة تلقي بناسها في أفق الانضباط والصرامة والوثوقيّة على الدوم. أمّا واقعة العزلة تلك فهي شديدة الحضور في “الحياة كما قدّمت لهم” تارة بشكل واضح وجليّ وتارة أخرى بالمواربة والخفوت وهمس الصوت والإيماءات.
فذاكرة الأمس في هذا الحيّز المرتبك هي عينها ذاكرة اليوم، أمّا الغد فهو ضبابيّ إلى حدّ الإنهاك.
حيويّة السرد
يتميّز السرد في رواية زياد كاج بكثير من الحيويّة، وما يعاضد هذه الحيويّة إلى حدّ بعيد تلك العامّيّة التي تحايث مجمل مقاطع الكتاب وكأننا إزاء واقعة شفوية، محض شفويّة في بعض متون القصّ. ولا يجب أن يغيب عن البال في هذا الصدد الطبيعة الطقوسّية للذاكرة الشفويّة بسبب ارتباطها المباشر بالأسلاف كما يقول أهل الإختصاص في هذا الشأن…
وفي الرواية موضوع هذه القراءة نرى أنّ الناس لم يغادروا نطاق أسلافهم بل ترى أنّ فعل اللامغادرة هذا صير إلى بلورته بقوّة عبر ذاكرة ترسمها المنابر باضطراد ومع كلّ استحقاق “ضخم”. أمّا تلك المسافة البعيدة بين جغرافيا الأسلاف والضاحية فنراها تزخر باحتياط ضخم من الدلالات المرهونة للغة المنابر.
لا يتطرّق كاج في مجمل العمليّة السرديّة إلى الكلام عن الهويّة المتولّدة عن التكرار، بيد أنّ تلك الهويّة لا تنفكّ تتجسّد أمام المتلقّي بعديد مواقف ناس الرواية وردّات أفعالهم إزاء هذا الحدث أو ذاك.
ذاكرة الأمس في هذا الحيّز المرتبك هي عينها ذاكرة اليوم، أمّا الغد فهو ضبابيّ إلى حدّ الإنهاك
الذاكرة لبّ السرد
يقول إيتالو كالفينو في “مدن لامرئيّة”، إنّ المدن مثل الأحلام مكوّنة من رغبات ومخاوف وقد نجح زياد كاج إلى حدّ بعيد في بلورة هذه المقولة عبر سرده لمخاوف ورغبات أولئك الذين تتناولهم روايته.
قد لا تكون المدينة موئلًا مريحًا لأهل الضواحي إلّا إذا أمست هي بدورها ضاحية بالفعل، ذلك أنّ الرغبات والمخاوف تجيز لنفسها حتّى تغيير ملامح المدن وخطوط وجهها. لقد فرح أبو ناصر، الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية، بفوز ابنه بسباق السيّارات، بيد أنّ هذه الفرحة تضاعفت وتضاعفت أكثر وأكثر… لماذا؟ لأنّ ابنه أصبح بطلاً…”وأين؟ في بيروت” كما جاء في الرواية.
إن الذاكرة التي تلبّي عمليّة السرد في “الحياة كما قدّمت لهم” تخضع أكثر ما تخضع لمحض قوانين الفوز والإستحواذ. أمّا السؤال الذي لطالما أرّق نقّاد الأدب والمتعلّق بالدافع الذي يؤسّس لنصّ الذاكرة فنراه في هذا العمل محلّ تحيّز لذاكرة ألغت تلك المسافة المنطقيّة بين الأمس واليوم.