قراءة في دفتر النزوح.. كبّة وفراكة “تيو”، “علي” و”صوفي”
تقول فاطمة التي نزحت من بلدتها أنصار (النبطية) في الجنوب إلى بلدة حلبا في عكّار جرّاء الحرب لـ “مناطق نت”: “لا أخفي أنّني كنت خائفة من السكن في حلبا، لأنّ سكانها ليسوا من طائفتي، وخفت من العنصرية”. حال فاطمة التي عبّرت عنها، هي حال كثر من النازحين ممّن شاركوها الهواجس نفسها لحظة النزوح، فالتمترس الطائفيّ والمناطقيّ السائد في لبنان وما نتج عنه في النظرة إلى الآخر من تنميط وأحكام مسبقة هو السمة الغالبة التي حكمت العقدين الأخيرين، والتي كانت تتأجّج حينًا وتخبو في حين آخر وذلك بحسب الخطاب “التحشيديّ” الذي يستدعي ذلك.
لا يمكن نقل صورة الاندماج الشعبيّ جرّاء النزوح، والذي شهدناه بين المكوّنات الطائفيّة والمناطقيّة في الحرب الإسرائيليّة المدمّرة على لبنان، من دون ذكر أنّ تجّار الحروب والطوائف هم الذين زرعوا الذعر والخوف والذي أدّى إلى التباعد بين اللبنانيّين. تكاد تكون لحظة الـ 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) العام 2019، والحرب الأخيرة محطّتين سياسيّتين كشفتا خديعة الذعر الطائفيّ من الآخر، وأسقطت قناع تجّار الحروب. يوم الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي كان بمثابة رحلة البحث عن الآخر الذي نستطيع أن نعيش معه، من دون أن ننسى أنّ إسرائيل هجّرت اللبنانيّين والنظام الطائفيّ باعد بينهم وغرّبهم بعضهم عن بعض.
الفراكة الجنوبيّة إلى حلبا
عدم إخفاء فاطمة لهواجسها بداية، ومن ثم تبدّد تلك الهواجس عند معايشتها للآخر، أخذ الحوار إلى مكان عفويّ ومختلف ويكاد يكون أشدّ فتنة من الطائفيّة بالنسبة للجنوبيّين وهو موضوع الطعام وطرائق تحضيره. فلم تتردّد فاطمة بتسجيل موقف حادّ عند سؤالها عن سفرتها في حلبا أثناء نزوحها القسريّ جراء الحرب، “يا أستاذ، تصوّر، جيراننا في حلبا، ما بيعرفوا الفراكة الجنوبيّة!”. تتابع “في حلبا يمزجون اللحمة النيّئة بالبصل والبندورة، وهي تقريبًا تشبه ما نسمّيه نحن المجرمشة”، وهذا ما يدّعون أنه كبة”. تضيف “حتّى شوربة العدس، يعدّونها بطريقة مختلفة عنّا”.
جاهرت فاطمة باختلاف ثقافة الطعام وتحضيره لدى الجنوبيّين عن أهل حلبا التي كانت متوجّسة منهم. شكّلت “الفراكة” جسر عبور للتلاقي والتنوّع، قرّبت المسافات التي باعدتها السياسة، فانحصرت عبارة “ما بيشبهونا” بالأكل، ولم تعد تُصرف وتستعمل كخطاب كراهيّة وعنصريّة مقيت.
“أصبحتُ أتبادل الأحاديث مع الجيران من خلال النافذة، وتطوّر الأمر إلى جلسات قهوة عند بعضنا البعض”. تصف فاطمة يوميّاتها في مكان نزوحها في حلبا وتتابع “إنّها الأفضل في تجربة النزوح على رغم مشقّة الرحلة التي استغرقت 12 ساعة مع ابني وزوجي في السيّارة من بلدة أنصار إلى عكّار وسط الغارات العنيفة التي بدأت صبيحة ذاك اليوم”. تختم فاطمة: “أصعب شي أن تترك بيتك، بس أحلى شي تتعرّف على جيران يصيروا متل عيلتك”.
الضيفة والمضيفة – القرآن والإنجيل
ليس بعيدًا من حلبا، هنا في زغرتا تختلف تجربة ابنة البلدة عبير التي استقبلت وعايشت نازحين عمّا عاشته فاطمة. تقول لـ “مناطق نت”: “بادرنا إلى فتح إحدى شقق إخوتي المسافرين لعائلة نازحة تواصلت معنا عبر صديق مشترك”. تتابع “قبل وصول العائلة النازحة من الجنوب إلى زغرتا، عرفت أنّ المزاج السياسيّ لهذه العائلة، لا يتعارض مع أفكاري فقط، بل يتعارض مع الحيّ بأكمله من دون استثناء، لذلك نبّهت مع الصديق الطرفين بعدم التطرّق إلى السياسة، وأن يكون التعامل الإنسانيّ هو أساس التواصل بعيدًا من الخلافات والاختلافات السياسيّة”.
“العامل الطائفيّ والسياسيّ، لم يكونا عائقًا للتواصل مع الآخر”، تضيف عبير أثناء سرد تجربتها، “لم يكن هناك اختلافات جوهريّة في تفاصيل يوميّاتنا، لا بالعكس كانت التجربة فرصة لفهم الحقيقة، وأنّ الجنوب الذي نعتقد أنّه بعيد وغريب، هو أقرب إلينا ممّا نتصوّر”.
قبل وصول العائلة النازحة من الجنوب إلى زغرتا، عرفت أنّ المزاج السياسيّ لهذه العائلة، لا يتعارض مع أفكاري فقط، بل يتعارض مع الحيّ بأكمله من دون استثناء
ما جرى التفاهم حوله في السياسة لم يسرِ على الطعام، فبقي الاختلاف قائمًا حوله وإعداده بين الجنوب والشمال، وما حصل مع فاطمة في حلبا، تكرّر مع عبير في زغرتا، نقاش حول المطبخ الجنوبيّ والزغرتاويّ والحديث أيضًا، عن “الكبّة بالصينيّة”، “الكبّة الزغرتاويّة” وبعض المأكولات الأخرى مثل “الكبسة والفريك”.
حلّت الحشوة الجنوبيّة للـ “كبّة بالصينيّة” مادّة حواريّة مهمّة بين عبير وضيوفها النازحين من الجنوب، حيث أوضحوا أنّ الحشوة هي عبارة عن لحمة مفرومة وبصل وبهارات مقليّة على نار هادئة، ولرفع النكهة، بعض الجنوبيّين يضيفون دبس الرمّان إلى الخلطة. أمّا طريقة تحضير “الكبّة بالصينيّة” في زغرتا، فتعتمد حشوة أخرى ومميّزة، غنيّة بالجوز، والسمّاق والبصل.
جلسات حوار
لم يقتصر الحوار في زغرتا على الطعام وتفاصيله، توضح عبير، “بادر زوجي، إلى تنظيم جلسات حواريّة مع النازحين في المنطقة، بلغت نحو خمسة لقاءات وكانت النتيجة إيجابيّة، على رغم معرفتنا، أنّنا نواجه مشهدًا صعبًا، وسط بيئة لديها التزام ديني صارم، واختلاف سياسيّ حادّ، إلّا أنّ الهموم قاربت وجهات النظر، وحوّلت البعيد، إلى قريب”. عن يوميّات النزوح تقول عبير “من سكن بيت أخي، اشترى شجرة ميلاد وتبيّن لنا، أنّهم يهتمّون بهذا العيد، ويحتفلون به سنويًّا، وأنّ شراء الشجرة لم يكن مسايرة لنا، بل كان طقسًا يمارسونه سنويًّا مع تزيين الشجرة”.
ليس بعيدًا تقول ليلى ابنة الخيام النازحة من الجنوب وضيفة عبير “لم أكن خائفة من مكان نزوحي، لأنّه كان عبر صديق مشترك، أثق بخياراته، والمستضيفون، (أيّ عبير)، كانوا جدًّا لطيفين”، تابعت لـ “مناطق نت”: “لكن طبعًا، الخوف كان أن يشكّل حجابي وأيضًا رأيي السياسيّ حاجزًا بيني وبين الآخر ومصدرًا للخلاف معه، تفاقم ذلك مع الاستهداف الدمويّ الذي لازم طائفتي الشيعيّة، كان الصراع داخل رأسي يتفاعل، أريد أن أعيش باستقرار، وأتفهّم خوف الآخر”. تضيف، “كان من الصعب عليّ عند متابعتي للأخبار وما حلّ من دمار وأنا ابنة الجنوب أن أبقى مكتوفة اليدين، هذا شعور لا تصفه كلمات، ولا تحدّه تعابير، تلاميذي استشهدوا، أعرف وجوههم ووجوه أهاليهم”.
تكمل ليلي “شخصيّتي هي مواجهة القصص التي يمكن أن تستفزّني أو تستفزّ الآخر، لكنّ هذا من باب التواصل مع الآخر وتوضيح المجهول”. ولدى السؤال عن يوميّاتها وتفاصيلها، تروي ليلى بعضًا منها: “بينما كنت أوضّب المنزل ذات يوم، وجدت إنجيلًا في الجارور، فأخذته ووضعته على الطاولة بجانب القرآن”. وعند السؤال عن الدافع الذي جعلها تقوم بذلك تقول ليلي “لا أدري لماذا فعلت ذلك، لكن لا شكّ أنّه كان بدافع الراحة النفسيّة، وأنّني في مكان ليس غريبًا عنّي”.
كلمات جديدة “عيوقة”
تكمل ليلى مبتسمة “تعلّمنا كلمات جديدة مثل “عيّوقة”، وهو ما أطلقته جارتي على ابنتي، فابتسمت وسألت عن معناها، كنت أعلم من طريقة ذكرها أنّها تبدو مديحًا. التفاصيل كثيرة في هذه التجربة، بس عملنا “فراكة” بزغرتا، وتناقشنا حول حشوة الكبّة بالصينيّة، وللأمانة لم تنتهِ قصّتي مع هذا البيت عند وقف إطلاق النار”.
“بعد إعلان وقف إطلاق النار وعودتنا من النزوح، كنت أعلم أنّني سأعود إليهم، فأنا نمت في سرير أشخاص لا أعرفهم، واستعملت أغراضهم، وتدفّأت ببيتهم، فعدت إليهم بعد فترة، لأعرف من هم إخوة عبير، وكانت فرصة لابني علي، أن يعود ويلعب مع جيرانه في الحرب، تيو وصوفي.”
تختم: “كنت أعلم أنّني محطّ سؤال عند خروجي وجلوسي مع زوجي في مقهى، محجّبة، وأبدو غريبة عن المنطقة، ورأينا السياسيّ مختلفًا، لكن في الحقيقة كنّا أقرب ممّا نتصور إلى هؤلاء الناس”.
كم نحن متشابهون وهم غرباء
اختلفت تجربة ريّان النازحة من النبطية إلى الشوف عن تجربتيّ فاطمة وعبير، على الرغم من القاسم المشترك بينهم وهو الحرب والنزوح. تؤكّد ريّان قناعتها بالوطن، وأنّ اللبنانيّين متشابهون بعيدًا من السياسة والإعلام “كلّنا منشبه بعض، بس السياسة بعّدتنا”، تتابع لـ “مناطق نت”: “غادرنا قريتنا في الجنوب متّجهين إلى الشوف عند أقاربنا، الذين كانوا استأجروا منزلًا في بلدة السمقانيّة، (الشوف وهي قرية درزيّة)، ومن هناك أردنا البحث عن شقّة للإيجار، إلّا أنّه لحسن حظّنا، صادفنا شخصًا هو الذي لاحظ أنّنا لسنا من السمقانيّة، وحتمًا جنوبيّين، وعرض علينا بيتًا للإيجار بـ 400 دولار، وهذا ما كان ملائمًا جدًّا من دون أيّ نصب أو استغلال لحالنا” .
تضيف ريّان، “العامل النفسيّ كان الأسوأ، فنحن في المجهول، لا نعرف متى تنتهي الحرب، لا عمل لا مستقبل، لا نعلم إذا كانت مدّخراتنا ستكفي فترة النزوح!؟، اقتلعنا من عالمنا وبيتنا فجأة وخلال ساعات إلى بلدة لا نعرفها، ولا نعرف مجتمعها وناسها”.
ما حصل مع ريّان لم يكن في الحسبان، عن ذلك تقول “لسوء حظّنا، ما إن وصلنا واستقرّينا، حتّى استُهدف أحد منازل البلدة، الذي كان يأوي عائلة جنوبيّة نازحة بغارة إسرائيليّة، ممّا أدى إلى استشهاد وجرح جميع أفرادها”. تتابع “بدأ الخوف لدى الجيران يتعاظم والخوف يكبر والأسئلة كذلك، وجميعها يدور عمّا إذا كان الاستهداف سوف يطالهم، وإن كنّا نحن ضمن دائرة الاستهداف، طبعًا في هذه الحال، نتفهّم خوف الآخر، ولكنّ الآخر لا يعلم أنّك أنت أيضًا خائف، وكيف لنا تبرئة أنفسنا، ولكن ما إن طرحت الأسئلة في الصباح، حتّى تبدّدت هواجس الجيران بعد الظهر، حيث كانت ركوة القهوة في منزلنا المستأجر أحد نتائجها”.
بدأ الخوف لدى الجيران يتعاظم والخوف يكبر والأسئلة كذلك، وجميعها يدور عمّا إذا كان الاستهداف سوف يطالهم، وإن كنّا نحن ضمن دائرة الاستهداف
عن يوميّات النزوح تصف ريّان السمقانيّة بالبلدة الهادئة واللذيذة، “أهلها متعاونون، أصحاب المحال التجاريّة لعبوا دورًا إيجابيًّا وليس تجاريًّا، كانوا يوضحون أنّ الذبح حلال، ومنهم من خفض الأسعار أو البيع بسعر التكلفة، وحتّى في الأمر الطبّيّ، الصيدليّات كانت تقوم بعمل إنسانيّ من دون أيّ تكلفة”.
من جهته يصف رامي، وهو من الشوف عمليّة النزوح من الجنوب والبقاع إلى الشوف فيقول لـ “مناطق نت”: “تحوّلت قرى الشوف إلى نيويورك، فبعد أن كانت تقفل محالها عند الغروب، تغيّر ذلك وأصبحت تفتح حتّى منتصف الليل، والشوارع مكتظّة بالناس”.
“لحمة” طرابلس أرخص بدولار للجنوبيّين
من عدلون إلى طرابلس نزحت ناديا اليساريّة، بعد أن استهدفت غارة إسرائيليّة مكانًا لا يبعد كثيرًا من منزلها، ممّا أدّى إلى تحطّم الزجاج واستدعى دقّ ناقوس الخطر، فتنزح رفقة ابنها نحو الشمال. تصف ناديا ما عاشته في طرابلس أنّه علاقة استثنائيّة مع الأماكن، “دوّار وسوق أبو علي، المطاعم، محال الحلويات، كلّ هذه المتاجر كانت جزءًا من يوميّاتي في فترة النزوح، ولكن تبقى قريتي عدلون زرّيعة المنزل، كراسي البيت، وشجرة الفناء الخلفيّ، والتحيّات بين أهل القرية على الطريق هي روحي”.
تتابع ناديا لـ “مناطق نت”: “الحرب شيء فظيع، لكن تجربتي تؤكّد أن التعايش مع الآخر ليس مستحيلًا، عندما تمشي في الشوارع والناس يتعرّفون عليك، ويقدّرون ظروفك، ويقومون بالتخفيضات ومساعدتك للحصول على الخدمات مجّانًا أو بأسعار أرخص، وهذا ما حصل معي حيث إنّ اللحّام كان يبيعني كيلوغرام اللحم أرخص بدولار عن أهل المنطقة، فقط لأنّني نازحة من الجنوب، وهي دلالة على احتضان النسيج اللبنانيّ لنفسه في الأزمات”.