قرن على جريدة “أبو الكشاكش” الساخرة للسيّد جعفر الأمين

عند العودة إلى أرشيف الصحافة اللبنانيّة، تتقدّم الجرائد الكبيرة بعناوينها السياسيّة العريضة، بخطوطها الغليظة، وبنبرة خطابيّة ترفع القارئ وتُسقطه مع كلّ حدث. غير أنّ هناك طبقة أخرى من الصحافة، طبقة رقيقة كأوراق دفتر منسيّ، تحمل حرارة الأصابع التي خطّته، وتُطلق سخريّة لا تهدأ. هذه الطبقة صنعت جزءًا واسعًا من الوعي اللبنانيّ الشعبيّ، وصاغت نقده المرير بضحكات ذكيّة، متّقدة، وساخرة.
ضمن هذه الطبقة تقف تجربة واحدة بخصوصيّتها، بتفرّدها، وبدفئها الريفيّ، جريدة “أبو الكشاكش” التي حرّرها السيّد المربّي جعفر الأمين، الرجل الذي حمل في قلمه روح القرية، وحيويّة النقد، وسلاطة اللسان الذي يلمع بخفّة وخفَر في آن.
كانت “أبو الكشاكش”، منذ عددها الأوّل في الـ 17 من تشرين الأوّل (أكتوبر) 1925، مغامرة إعلاميّة رائدة. جريدة خطّيّة، تُكتب باليد، وتُنسخ ثانية بيد صاحبها حين يتلف الورق خوفًا على ما فيه من أخبار وتعليقات تُشبه نبرة المجالس القرويّة الساخرة. لم تعتمد المطابع الكبرى ولا استندت إلى مؤسّسة سياسيّة. خرجت من بيت دينيّ في بلدة شقرا، ووُلدت بين أصابع رجل يراقب التفاصيل اليوميّة بحدّة شاعر وذكاء صحافيّ يعاين البِركة والحقول والطرقات.
بلدة صغيرة وصوت كبير
لم تُخفِ الجريدة مكان ولادتها، كانت تُعلن “شقرا” على الغلاف الأوّل، في زمن كانت فيه الصحف تتباهى ببيروت أو زحلة أو بعلبك. جعل السيّد جعفر من هذه البلدة الصغيرة مركزًا لكونه الساخر، وأدخلها في سجال واسع مع الصحف الساخرة الأقدم. يكفي أن يضع هذين البيتين في الصفحة الأولى لتدرك شعوره بالندّيّة:
من ذا يعارض أو يناقش
فاق الجميع أبو الكشاكش
فاق الجرائد كلّها
حتّى “الجراب” مع “المناغش”
غامزًا من قناة جريدة “جراب الكرديّ” الصادرة في دمشق، و”المناغش” الصادرة في القاهرة. بهذه الجرأة صعدت “أبو الكشاكش” إلى المشهد وكأنّها تقول: “هنا قلم يستطيع أن يلاعب المدن بمنطق القرية، وبثقافة ذات مستوى رفيع تسمح لرئيس التحرير بمقارعة الكبار.
جعل السيّد جعفر من هذه البلدة الصغيرة مركزًا لكونه الساخر، وأدخلها في سجال واسع مع الصحف الساخرة الأقدم
سخرية من السطر الأوّل
في أسلوب الجريدة، تتجاور الطرفة مع الخبر، والسجال مع حكاية طريق ترابيّة، والانتقاد اللاذع مع صورة قرويّة تُذكّر بالنكتة الشعبيّة. كان السيّد جعفر يبتكر كاريكاتورًا بلا رسم، كأن يسجّل “اتّصالًا” هاتفيًّا على شكل مشهد مكتوب:
آلو سنترال: قلْ لأهل شقرا والمجدل وافق شنّ طبقة.
آلو سنترال: قل لأهل شقرا أن يعزّلوا البركة وإلّا في السنة القادمة تموت دوابهم من العطش.
هذه السطور تحمل صرير الحياة اليوميّة، وتعكس روح النقد التي ترى في البركة القرويّة شأنًا عامًّا يساوي في أهمّيّته أيّ خبر سياسي.ّ
مع ذلك كانت هناك رسوم كاريكاتورية ضمن المجلّة، مشغولة بأسلوب بدائيّ، لا بأس به مقارنة ببداية الصحف الساخرة، وأبرزها في مصر “أبو نضارة” بتوقيع يعقوب صرّوف.
طرائف الناس… ذاكرة مجتمع
تحفل أعداد الجريدة بحكايات تُروى كما تُحكى في السهرة، من بينها الطرفة التي صارت مثالًا على ذكاء السخرية القرويّة:
الشحّاذ: الله يعطيك أعطِني كسرة خبز.
صاحب البيت: آسف النسوان لسنَ في البيت.
الشحّاذ: أنا طالب كسرة خبز ولم أطلب منك زوجة.
هذه الدعابة تكشف روح المكان أكثر ممّا تكشفها عشرات الدراسات الأكّاديميّة. فيها مكر، بساطة، سرعة بديهة، وروح نقديّة تتسلّل عبر الضحك.
السجال والاعتداد بالنفس
لم تكن الجريدة تتورّع عن السجال، بل كانت تتعمّده. في أحد أعدادها تعلن بوضوح أنّها تعرّضت لهجوم من “بريد العرب” وأنّ الردّ سيأتي. وفي موضع آخر تقول بثقة مطلقة: “إذا قيل لك إنّ جرائد أفضل من أبو الكشاكش فصدّق قلبك وكذّب لسانك!”.
لم يكن السجّال مجرّد عناد. كان أسلوبًا لإثبات الذات. فالصحافة الساخرة في لبنان نشأت من قلب التعدّد، من تنافس محموم بين الأقلام، من رغبة كلّ جريدة في أن تُصبح صدى الناس، صدى غضبهم وسخريّتهم.
حياة القرى في مرآة الجريدة
ربّما يرى قارئ اليوم في هذه الصفحات موادّ بسيطة، لكن القيمة الحقيقيّة لـ “أبو الكشاكش” تكمن في أنّها سجّلت يوميّات قرويّة لا يلتفت إليها المؤرّخون عادة: نزاع بين ورثة المرحوم محمّد أمين حول “المعصرة الفوقا”، أزمة ماء وقلّة نواطير، مشكلات المدارس في جبل عامل، أخبار عن التلقيح من الجدري، وحتّى التعليق على انتشار “المجدّرة” كطبق شائع.
هذا النوع من الصحافة يفتح نافذة على العادات واللغة والمزاج والأخلاق، ويمنح القارئ اليوم وثيقة اجتماعيّة نابضة.
الإعلانات المحلّيّة
لم تهمل الجريدة الاقتصاديّ اليوميّ، فقد ضمّت إعلانات تُبرز المهن والحرف في شقرا:
الحلويّات عند السيّد حسن مهدي، وأعمال التكليس والنجارة والدواخين عند أبي نجيب موسى عطوي. هذه التفاصيل البسيطة تحمل في طيّاتها صورة مجتمع يكدّ ويبتكر، وتحفظ أسماء أشخاص عاشوا زمنهم بلا بهرجة، لكنّهم حفروا أثرهم في الورق. لكن تدلّ كذلك هذه الإعلانات أنّ الصحيفة كانت توزّع بشكل لا بأس به في شقرا، فما من معنى لإعلان بلا جمهور يقرؤه.
القيمة الحقيقيّة لـ “أبو الكشاكش” تكمن في أنّها سجّلت يوميّات قرويّة لا يلتفت إليها المؤرّخون عادة
بين السياسي والوعي الشعبيّ
في أحد أعداد الجريدة، يخبر السيّد جعفر عن استقالة مسؤول عسكريّ أمريكيّ، وعن جنرال أبحر من باريس إلى سوريا لمعرفة سبب الهزيمة. هذه الأخبار تختلط مع دعوات تربويّة يكتبها بقلب معلّم: “نعرة لمن لا يعلّم أولاده”، ثم يختمها بتحذير ساخر: “قرصة لمن لا يشترك في أبو الكشاكش”.
بهذه الروح، كان الرجل يُدخل السياسة إلى القرى ويُدخل القرى إلى السياسة، يُحرّك الوعي في الاتّجاهين.
سيرة رجل وسيرة صحيفة
ولد السيّد جعفر الأمين سنة 1908، لأسرة دينيّة علميّة وأدبيّة، فهو ابن المرجع السيّد محسن الأمين، لكنّه حمل في تجربته ما يتجاوز التقليد العائليّ. وصف نفسه بأنّه ابن لامرأة أفريقيّة سوداء كانت قد خُطفت واقتيدت في قافلة، ثمّ عاد أحد أفراد آل الأمين وجاء بها إلى جبل عامل، قبل أن تصبح زوجة السيّد محسن الأمين وأمّ جعفر.
هذه السيرة تحمل طبقات من الألم والقسوة والحرّيّة، وتنعكس في كتاباته عبر حساسيّة اجتماعيّة واضحة، ونفَس احتجاجيّ يظهر حتّى في النكتة.
رافق جعفر الأمين التعليم، فأسّس مدارس عدّة في شمسطار وفي شقرا وحولا، وتتلمذ عليه صحافّيون وشعراء وكتّاب، بينهم طلال سلمان وحسين الحسيني، ممّن اعترفوا بدوره في نشر المعرفة وإيقاظ الوعي إلى جانب عبد الحسين حامد من النبطية.
“أبو الكشاكش” والصحافة الساخرة
تجربة “أبو الكشاكش” تُعدّ حجرًا ملوّنًا في فسيفساء الصحافة الساخرة اللبنانيّة. تسبقها تجارب وتليها أخرى، إلّا أنّها تبقى التجربة التي ضخّت في هذا الفنّ نبض الريف.
تجارب بيروت الكبرى جاءت مكمّلة لهذا المشهد، بدءًا بجرائد مثل حمارة بلدنا والبغلة وحمارة الجبل وجراب الكرديّ، ثمّ “هَبّت” التي حملت بدايات الكاريكاتور، وصولًا إلى اللحظة التي ظهر فيها فنّ الكاريكاتور ناضجًا مع يوسف مكرزل ومجلّته “الدبّور”، حيث ارتفع مستوى النقد البصريّ إلى حدّ جعل السياسيّين يتحسّبون لكلّ رقم، ولكلّ لوحة، ولكلّ ضربة قلم. كذلك شكّلت تجربة أبو النوّاس لمحمّد صبحي عقدة حلقة إضافيّة في هذا التيّار الساخر، بما حملته من حسّ فكاهي وجرأة. أيضًا هناك مجلّة “الصيّاد” التي نافست الدبّور مع كتّاب وكاريكاتوريّين.
بهذا يتكامل المشهد: قريةٌ تكتب بسخرية خفيفة وعميقة، وعاصمةٌ تشتعل بنقد لاذع وكاريكاتور يفضح رموزها. بينهما تنسج الصحافة الساخرة في لبنان تاريخًا واحدًا، تاريخًا يفيض بالذكاء الشعبيّ واللغة اللاذعة، ويمنح الضحكة موقعًا يعادل موقع الفكرة ذاتها.
وهكذا ترتفع “أبو الكشاكش” كصفحة مضيئة من الذاكرة اللبنانيّة، تشهد على زمن، وعلى قلم، وعلى روح نقديّة تسري في الناس كما يسري النسيم في الحقول، وتنهض بقوّة سخرية تعبر التعب وتضخّ في اليوم اللبنانيّ شعاعًا من وعي لا يبهت.




