قرى الهرمل المتداخلة مع سوريا انتخابات في مهب النزوح

في المساءات الباردة على تخوم البقاع الشماليّ، تصفر الرياح عبر الحقول المهجورة لبلدات مثل حوش السيّد علي وزيتا ومطربة، وكأنّها تردّد صدى سكّان رحلوا قسرًا عن بيوتهم. لم تعد الأبواب تُطرَق ولا النوافذ تُفتح، بعد أن خطفت الاشتباكات المتتالية آخر ما تبقّى من طمأنينة. هنا، بين حدود ضائعة وهويّة متأرجحة، لا تُعرَف الأرض إلى من تنتمي فعليًّا، ولا السيادة لمن تُكتب. في هذا الركن المنسيّ من لبنان، يتداخل الواقع مع الجغرافيّا، وتُصبح مسألة الانتخابات البلديّة أكثر تعقيدًا من مجرّد صناديق اقتراع ومجالس محلّيّة.
اليوم، وبعد الاشتباكات الأخيرة والتوتّرات الأمنيّة المستمرّة، يجد الأهالي أنفسهم أمام أسئلة مصيريّة: أين السلطة المحلّيّة؟ هل توجد بلديّات فعّالة؟ من يدير شؤون الناس؟ وإلى أين نزح من تبقّى من السكّان؟
بين غياب البلديّات، وضعف الخدمات، وحالة “اللا دولة” المفروضة عليها، تتحوّل هذه القرى إلى مرايا تعكس هشاشة مفهوم السيادة، وعجز الدولة عن بسط إدارتها على جميع أراضيها. ومع اقتراب الاستحقاقات الانتخابيّة البلديّة، تعود الأسئلة لتُطرح من جديد: كيف تُنظّم الانتخابات في مناطق لا تملك بلديّات رسميّة؟ ومن يمثّل الناس في ظلّ هذا الغموض؟
الجذور التاريخيّة والجغرافيّة
في محافظة بعلبك- الهرمل، شمال البقاع، تتمركز مدينة الهرمل في شمال شرق لبنان. وللمفارقة التاريخيّة، فإنّ مدينة الهرمل كانت تتبع متصرّفيّة جبل لبنان ولم تتبع يومًا الولايات العثمانيّة الشاميّة. وعليه كانت جزءًا أساسيًّا من النواة الأولى لإنشاء دولة لبنان الكبير بحسب إعلان الجنرال غورو العام 1920.
بسبب هذا الانتماء، نجد اليوم أنّ معظم عقارات الهرمل وما يتبعها من قرى تصنّف في الإفادات العقاريّة أو سندات الملكيّة كـ “ملك” وليست “أميريّة”، على عكس عقارات بقيّة البقاع التي تُعتبر بمعظمها “أميريّة”. وهذه إشكاليّة قانونيّة ناتجة عن توزيع الأراضي أيّام الدولة العثمانيّة، حيث كانت أراضي متصرفيّة جبل لبنان بمعظمها ملكًا خاصًّا. هنا تبدأ قصّة هذه القرى الحدوديّة، وأوّلها بلدة حوش السيّد علي، التي تثبت الخرائط الفرنسيّة تبعيّتها للبنان، بحسب ما أكّد مختار البلدة السيّد محمّد ناصر الدين.

هجرة قسريّة وقرى أشباح
جغرافيًّا، يعيش اللبنانيّون في عدد من البلدات المتداخلة بين الأراضي اللبنانيّة والسوريّة، إضافة إلى بلدات تقع بالكامل داخل الأراضي السوريّة، لكنّ سكّانها لبنانيّون سجلًّا وهويّة، وهنا أبرز هذه البلدات: حوش السيّد علي، مطربة، زيتا، حاويك، بلوزة، الفاضليّة، الجنطليّة، الصفصافيّة، السمّاقيّات، والفاروقيّة. سكّان هذه القرى كافّة هم لبنانيّون، وسجلّاتهم المدنيّة تتبع بلدة القصر الحدوديّة، حيث يقترعون في الانتخابات البلديّة والنيابيّة.
يوضح رئيس بلديّة القصر محمّد تركي زعيتر، ابن بلدة الفاضليّة الواقعة في الجانب السوريّ، أنّ حوالي 25 ألف لبنانيّ يعيشون في هذه القرى. يتابع لـ “مناطق نت”: ” إنّ الأراضي والمزارع في هذه المناطق تعود ملكيتها إلى العائلات اللبنانيّة الأصليّة، التي ورثتها عن أجدادها”، ويشير إلى أنّ “الإشكاليّة الأساسيّة تعود إلى غياب الترسيم الدقيق للحدود، ما جعل هذه القرى ضمن السيطرة الإداريّة السوريّة”.
جغرافيًّا، يعيش اللبنانيّون في عدد من البلدات المتداخلة بين الأراضي اللبنانيّة والسوريّة، إضافة إلى بلدات تقع بالكامل داخل الأراضي السوريّة، لكنّ سكّانها لبنانيّون سجلًّا وهويّة
ويضيف: “بعد سقوط النظام في سوريّا والفوضى الأمنيّة وتجدّد الاشتباكات بين مسلّحي هيئة تحرير الشام وعشائر المنطقة، نزح سكّان هذه القرى بالكامل إلى الداخل اللبنانيّ”. ويؤكّد زعيتر “وجود حوالي 10 آلاف نازح من هذه القرى في بلدة القصر وحدها، لكنّ هذه القرى باتت فارغة تمامًا منذ نحو شهرين. وعلى الرغم من أنّ التنسيق جارٍ بين الدولتين اللبنانيّة والسوريّة للسماح للعائلات اللبنانيّة بالعودة إلى قراها وممتلكاتها، إلّا أنّ بعض النازحين بدأ بشراء أراضٍ في بلدتي القصر والشواغير للاستقرار بعيدًا من التوتّرات الأمنيّة”.
تزامنًا، وعلى مقلب الانتخابات البلديّة، يوضح زعيتر أن “الوضع هذا العام استثنائيّ، بسبب حال النزوح. ففي السابق، كان السكّان يتوافدون إلى القصر للإدلاء بأصواتهم، أمّا اليوم، فالأولويّة أصبحت للعودة إلى البيوت والأرزاق، وهو أمر منوط بتنسيق رسميّ بين الدولتين وليس بيد البلديّات”. ويتذكّر زعيتر ما كان يرويه له والده من أنّ “مخفر الدرك في بلدة القصير غرب حمص كان يرفع علم دولة لبنان الكبير سابقًا، وأنّ الفرنسيّين شقّوا الطرقات من بلدة القصر إلى القصير بالتوازي مع إنشاء سكّة الحديد الفرنسيّة”.
خريطة تركيّة مقابل خريطة فرنسيّة
في عمق منطقة الهرمل، تبرز بلدة الشواغير كحالة نموذجيّة لفوضى الحدود بين لبنان وسوريّا. تتألّف هذه البلدة من قسمين أساسيّين: الشواغير التحتا والشواغير الفوقا، حيث يتوزع السكّان بين الداخل اللبنانيّ وامتدادات تتبع إداريًّا إلى القرى السوريّة المجاورة، وبخاصّة بلدتي النزاريّة وربلة.
يشرح رئيس بلديّة الشواغير محمّد حسين الحاج حسن لـ “مناطق نت” فيقول: “اعتبرت الخريطة الفرنسيّة النزاريّة وربلة جزءًا من لبنان، بينما الخريطة التركيّة قسّمتهما لصالح سوريّا. ومع غياب اتّفاق نهائيّ لترسيم الحدود، بقي الأهالي يعيشون في حال قانونيّة رماديّة”.

على رغم هذا الواقع المربك، فإنّ السكّان ممّن يحملون الجنسيّة اللبنانيّة والمسجّلين في قيود بلديّة الشواغير، يواصلون أداء واجباتهم الوطنيّة، لا سيّما عبر المشاركة الدوريّة في الانتخابات النيابيّة والبلديّة. ويبلغ عدد الناخبين المسجّلين اليوم في بلديّة الشواغير ما يقارب 1300 ناخب، مع تزايد ملحوظ في أعداد المسجّلين العائدين إلى البلدة مع كلّ استحقاق انتخابيّ”.
البوّابة الطبيعيّة للانتماء
طائفيًّا، يتميّز سكّان بلدتي ربلة والنزاريّة بانتمائهم للطائفتين السنّيّة والمارونيّة، ممّا خلق نسيجًا اجتماعيًّا متنوّعًا. وبعد سقوط النظام في سوريّا وتجدّد الاشتباكات والفوضى الأمنيّة في المنطقة الحدوديّة، سجّلت الشواغير حركة نزوح خفيفة نسبيًّا، مقارنة مع بلدات أخرى شهدت نزوحًا شاملًا. إنّ معظم أبناء ربلة والنزاريّة بقيوا في ديارهم على رغم المخاطر، محافظين على صلتهم ببلدتهم الأمّ الشواغير، التي بقيت بالنسبة إليهم البوّابة الطبيعيّة للانتماء إلى لبنان.
يشير الحاج حسن إلى أنّ “النازحين من ربلة والنزاريّة يجدون في المدرسة الرسميّة في الشواغير مركز اقتراعهم، حيث تكتسب الانتخابات البلديّة والاختياريّة بُعدًا رمزيًّا يتجاوز مجرّد التصويت، لتصبح تأكيدًا سنويًا على انتمائهم للبنان على رغم تعقيدات الجغرافيا والهويّة”. أمّا أمنيًّا، فالبلدة تعيش حالاً من الترقّب والحذر الدائمين بسبب قربها من مناطق النزاع السوريّ. وعلى الرغم من تراجع وتيرة التوتّرات المسلّحة في الفترة الأخيرة، إلّا أنّ الأهالي ما زالوا يتخوّفون من تجدّد الأزمات الأمنيّة في أيّ لحظة.

حوش السيّد علي رأس حربة التهميش
في أقصى الشمال الشرقيّ من قضاء الهرمل، تتبدّى بلدة حوش السيّد علي كإحدى أبرز القرى الحدوديّة التي تعيش واقعًا جغرافيًّا معقّدًا وهويّة لبنانيّة مهدّدة بفعل الإهمال والاضطرابات، البلدة، التي يمتدّ جزء من أراضيها نحو الداخل السوريّ، ظلّت إلى عقود طويلة على هامش الخطط الإنمائيّة للدولة اللبنانيّة، محاصرة بين فوضى الحدود وإهمال المؤسّسات الرسميّة.
يوضح مختار البلدة، محمّد ناصر الدين، لـ “مناطق نت” أنّ “القرية تُعتبر لبنانيّة بالكامل بحسب الخرائط الفرنسيّة، ولكن لكون جزءًا صغيرًا منها يمتد داخل الأراضي السوريّة، أصبحت في عين العاصفة، تدفع ثمن غياب الترسيم الدقيق للحدود وضعف حضور الدولة”.
حاليًا، يقدَّر عدد سكّان حوش السيّد علي الإجماليّ بنحو 5000 نسمة، على رغم أنّ عدد الناخبين المسجّلين لا يتجاوز 450 ناخبًا وفق لوائح الشطب الرسميّة. وهو رقم يحول دون إنشاء مجلس بلديّ مستقلّ، نظرًا إلى أنّ القانون اللبنانيّ يشترط تجاوز عتبة الـ 500 ناخب لتشكيل بلديّة، ما يفرض على البلدة الاعتماد على مختار واحد لإدارة شؤون الأهالي الإداريّة والاختياريّة.
ناصر الدين، الذي يشغل منصب مختار منذ أربع دورات متتاليّة بالتزكية، تحدّث عن رحلة طويلة من المعاناة عاشتها البلدة “منذ غياب المجلس البلديّ وحتّى يومنا هذا، تفتقر البلدة إلى أبسط مقوّمات الحياة الأساسيّة، لا وجود لشبكات مياه منظّمة على رغم مرور نهر العاصي في وسط القرية، والبنى التحتيّة من طرقات مدمّرة ومهترئة، وانعدام شبكة اتّصالات أرضيّة ولاسلكيّة، وغياب كلّيّ للخدمات الصحّيّة والرعاية الاجتماعيّة”.
انتخابيًّا، الأمل الذي كان يشجّع الأهالي على ممارسة حقهّم الديمقراطيّ في الانتخابات البلديّة، تراجع اليوم أمام أولويّات أكثر قسوة، وهي العودة إلى منازلهم المدمرة، تأمين لقمة العيش
غياب كامل للمؤسسات
كانت البلدة تاريخيًّا تعتمد على المدرسة الرسميّة الوحيدة كمركز للحياة العامّة ومكان لإجراء الانتخابات، إلّا أنّ الأوضاع الأمنيّة الأخيرة تسببت في احتراق المدرسة، وتدمير مرافقها بالكامل نتيجة الاشتباكات، ما أدّى إلى نزوح جماعيّ للأهالي الذين فرّوا تحت وطأة القصف والدمار.
يتابع ناصر الدين بأسى “بسبب غياب مجلس بلديّ فاعل أو هيئة تمثيليّة محلّيّة، أصبح سكّان البلدة يلجأون إلى مبادرات فرديّة لتأمين احتياجاتهم اليوميّة، سواء في إصلاح الطرقات الترابيّة أو في مدّ أنابيب مياه بدائيّة، أو حتّى في تأمين الكهرباء عبر اشتراكات خاصّة”. ويضيف “أمنيًّا، يعيش من تبقّى من السكّان في ظلّ خوف دائم من تجدّد الاشتباكات، مع تسجيل حالات متكرّرة من تسلّل مسلحين من الجانب السوريّ، ممّا يُبقي البلدة عرضة للخطر في ظلّ غياب قوى الأمن الداخليّ والجيش اللبنانيّ بشكل دائم ومستمرّ”.
أولويّات فوق الانتخابات
انتخابيًّا، الأمل الذي كان يشجّع الأهالي على ممارسة حقهّم الديمقراطيّ في الانتخابات البلديّة، تراجع اليوم أمام أولويّات أكثر قسوة، وهي العودة إلى منازلهم المدمرة، تأمين لقمة العيش، وحماية أطفالهم من دوّامة العنف والتهجير القسريّ.

في ظلّ هذا الواقع المرير، يوجّه ناصر الدين نداءً باسم أهالي البلدة إلى الدولة اللبنانيّة فيه “إنّنا نطالب بتبنّي قريتنا كحالة إنسانيّة طارئة. نطلب من الهيئة العليا للإغاثة إرسال فرق لمسح الأضرار وتأمين مساعدات فوريّة للعائلات التي باتت بلا مأوى. لقد فقدنا كلّ شيء، وما زلنا نحمل في قلوبنا إيمانًا بأنّ هذه الأرض لبنانيّة وستبقى كذلك”.
بين حدود الجغرافيّا والإهمال
تبرز معاناة قرى مثل: الشواغير، حوش السيّد علي، مطربة وزيتا كمرآة مصغّرة لحال الدولة اللبنانيّة مع أطرافها المنسيّة، هذه القرى التي دفعت غاليًا ثمن موقعها الجغرافيّ وأحداث المنطقة، تعيش منذ سنوات بين مطرقة الإهمال الرسميّ وسندان التهديدات الأمنيّة. سكّانها، الذين صمدوا في وجه كلّ أشكال العنف والنزوح والتهميش، يخوضون اليوم معركة مزدوجة: الحفاظ على وجودهم من جهة، والمطالبة بحقوقهم الأساسيّة من جهة أخرى.
إنّ واقع هذه القرى يكشف هشاشة مقاربة الدولة تجاه المناطق الحدوديّة، واليوم ومع كلّ استحقاق انتخابيّ جديد، تعود أصوات أهالي هذه القرى لتطالب، لا بمشاريع ضخمة ولا بوعود انتخابيّة جوفاء، بل بحقّ بسيط هو الاعتراف بهم كمواطنين كاملين، لهم حقوق وعليهم واجبات. فهم ليسوا مجرّد أرقام في لوائح الشطب، ولا مجرّد نقاط هامشيّة على أطراف الخارطة، بل هم خطّ الدفاع الأوّل عن السيادة الوطنيّة، والمحفّزون الحقيقيّون لأيّ مشروع بناء دولة حديثة عادلة وشاملة.
“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلة في لبنان”.