“القرية الزراعيّة” في بْوداي لتفعيل الإنتاج والزراعة والتسويق والمعارض
في ظلّ الغياب الرسميّ لمؤسّسات الدولة في البقاع، والحرمان المزمن الذي طالما ألقى بتبعاته على أبناء المنطقة وسكّانها، ليس غريباً أن يشعر المجتمع المدنيّ بالمسؤوليّة تجاه منطقته، بإمكاناته المستطاعة، فكانت في هذا الإطار مبادرة الجمعيّة اللبنانيّة للدراسات والتدريب في إنشاء مشروع القرية الزراعيّة.
بدأ المشروع في نهاية العام 2018 ومطلع العام 2019 لتكوين حاضنة زراعيّة لمزارعي بعلبك- الهرمل، تحمل في مضمونها مجموعة من الأهداف، لجهة التنمية الزراعيّة، وتشجيع المزارعين، وتعزيز العمل في القطاع الزراعيّ.
قرية زراعيّة متكاملة
تمّ اختيار الموقع في سهل “بوداي” حيث تتوافر المساحات والأراضي الزراعيّة الشاسعة لتنفيذ المشروع. انطلقت القرية الزراعيّة في مشوارها من رصد التحدّيات التي ترافق العمليّة الزراعيّة منذ بدايتها وحتّى مرحلة تسويق الإنتاج.
من هذه التحدّيات تمّ استلهام مجموعة من الأهداف، تحدّث عنها مدير القرية الزراعيّة، أحمد عودة لـ”مناطق نت” فقال: “إنّ مشروع القرية الزراعيّة عبارة عن مجموعة منشآت لتغطية سلسلة الإنتاج، بدءًا من أكّاديميّة زراعيّة تقدّم التدريبات، وسوق زراعيّة تسوّق الإنتاج، وبيت النحّال الذي يقدّم مجموعة من الخدمات، منها إعادة تدوير الشمع وتجفيف الحبوب، وفرز العسل”.
وأضاف: “لقد سهّل بيت النحّال على مربّي النحل مشقّات كثيرة، إذ كان عليهم أن يتوجهوا إلى عكّار العتيقة للقيام بهذه العمليّات”. ومن مشروع القرية كذلك :”مشتلان: أحدهما للخضار، يقدّم الشتول لمزارعي البيوت البلاستيكيّة. ومشتل آخر لزراعة لصنوبر، يقدّم الشتول والنصوب للبلديّات، ويشاركها في القيام بعمليّة التحريج، بالإضافة إلى مركز للتصنيع الغذائيّ، وصولًا إلى مختبر لفحص المياه، فالمطعم والمساحة الآمنة للأطفال” يقول عودة.
دعم المزارعين والزراعة
كان الهدف الأوّل والأخير من إنشاء القرية الزراعيّة تقديم الدعم اللازم للمزارعين في المنطقة معنويًّا ومادّيًّا. يتمثّل الدعم المعنويّ بالتدريبات والتوعية والتوجيه والمتابعة المستمرّة، من خلال فريق هندسيّ متابع مع المزارعين. أمّا الدعم المادّيّ فيتبدّى ببعض المساعدات العينيّة، من خلال مشاريع زراعيّة، تقديم شتول، معدّات زراعية، بذور، أسمدة وغيرها.
هنا يشير عودة إلى “أنّ هذا المشروع التنمويّ لبعلبك- الهرمل يستفيد منه أكثر من ألفيّ مزارع، ويقدّم ما بين 17 ألف و18 ألف خدمة زراعيّة. ودعم المزارعين يكون من خلال تقديم الخدمات كافّة، من دعم عينيّ وإقامة تدريبات وزيارات ميدانيّة، وتدريب على التعاونيّات المحليّة، وتقديم المعدّات والشتول المجّانيّة، وأكياس تحمل شعار المشروع”.
كان الهدف الأوّل والأخير من إنشاء القرية الزراعيّة تقديم الدعم اللازم للمزارعين في المنطقة معنويًّا ومادّيًّا. يتمثّل الدعم المعنويّ بالتدريبات والتوعيّة، أمّا الدعم المادّيّ فيتبدّى ببعض المساعدات العينيّة.
وفي ما يخصّ الدعم المعنويّ والتدريب، كان التوجّه إلى تقديم التدريبات بأشكال مختلفة، عبر الأكّاديميّة الزراعيّة، وعدم الاكتفاء بالتدريب الضروريّ، بل التدريب والمتابعة. ثمّ من خلال الزيارات الميدانيّة ومتابعة الفريق الهندسيّ المجريات الزراعيّة على أرض الواقع.
تمكين المرأة في الأولويّات
ولأنّ المرأة باتت تخوض غمار الأعمال المختلفة، وكونها جزءًا لا يتجزّأ من أيّ مشروع، فقد أعطى مشروع القرية الزراعيّة المرأة أولويّة في جميع متفرّعاته. ويلفت عودة إلى “أنّ هناك مشاريع خاصة بالسيّدات، يهدف أحدها إلى تدريب النساء الراغبات على تربية المواشي.
وهذا المشروع عبارة عن ثلاث مراحل، في كلّ مرحلة يتمّ تدريب ثمانين سيّدة، أيّ أنّ مجموع السيّدات المستفيدات يصل إلى ٢٤٠ سيّدة في هذا المشروع”. مؤكّدًا أنّ ما بين ٢٥ إلى ٣٠ بالمئة من ألفيّ مزارع مستفيد من المشروع، هنّ من النساء.
لن يكون التدريب على تربية الماشية، الخطوة الوحيدة على طريق تدريب المرأة وخلق فرص عمل لها، بل إنّ المنشأة الخاصّة بالتصنيع الغذائيّ، تستهدف هي الأخرى نساء تخضعهنّ لدورات تدريبيّة حول التصنيع الغذائيّ، مثلما تستهدف جيل الشباب بشكل عام، سواء أكان الشاب يعمل مع أهله ضمن نطاق العائلة مالكًا للأرض، أو مستقلًّا يسعى إلى تأسيس مشاريع زراعيّة خاصّة به.
ويُفصح عودة عن مشروع قيد الدراسة “تستفيد منه عشرون سيّدة، تمتلك كلّ واحدة منهنّ أرضًا مساحتها خمس دونمات، فتقدّم لها القرية الزراعيّة حراثة الأرض، والشتول، والعمّال عند الضرورة، وهكذا تستطيع ضمان منتج خالٍ من المواد المسرطنة، ومياه نظيفة، وتخفيف كلفة الإنتاج على المزارعين”.
تحدّيات مختلفة
قليلة هي التحدّيات التي واجهت مشروع القريّة الزراعيّة ويختصرها عودة: “بالعقليّة والذهنيّة السائدة لدى المزارعين الذين لم يتقبّلوا بدايةً الجديدَ الذي جاءت به القرية الزراعيّة، إذ في اعتقادهم هم يمتلكون ما يكفي من الخبرة.
لاحقًا، تبدّلت النظرة وبدأنا نتلّمس استجابة وتعاونًا، وبعبارة مختصرة، استطعنا إقناعهم بضرورة تغيير بعض المعتقدات حول أهمّيّة السماد الطبيعيّ، وبدأ المزارع يرى النتائج؛ وحول عدم صوابيّة بعض الممارسات كاستخدام المبيدات الحشريّة في الوقت غير المناسب، وهي أعباء على المزارع يمكنه الاستغناء عنها”.
ويوضح عودة: “في بداية المشروع كانت تتمّ دعوة مئة مزارع للتشاور والتدريب، فيحضر عشرون مزارعًا، اليوم أصبحنا ندعو مئة مزارع فيحضر مئة وخمسون”.
موظّفو القرية الزراعيّة
كأيّ مشروع ينشأ في المنطقة، شكّلت القرية الزراعيّة باباً من أبواب التوظيف، خالقة فرص عمل في بعلبك- الهرمل. لم تكن هذه الفرص حكرًا على المتعلّمين. فهناك نحو ١٣٠ موظّفًا من فريق لوجستيّ ومن الأمن والعمّال، بالإضافة إلى أنّ كلّ مشروع بحاجة إلى عمّال وورش عمل.
كأيّ مشروع ينشأ في المنطقة، شكّلت القرية الزراعيّة باباً من أبواب التوظيف، خالقة فرص عمل في بعلبك- الهرمل. لم تكن هذه الفرص حكرًا على المتعلّمين. فهناك نحو ١٣٠ موظّفًا من فريق لوجستيّ ومن الأمن والعمّال.
أمّا الموظّفون فهم من الجنسيّة اللبنانيّة، بينما العمّال والورش من تابعيّات مختلفة. هناك مستفيدون مباشرون، ومستفيدون غير مباشرين، على نحو الشركات الزراعيّة التي يتمّ شراء المعدّات والأدوية والأسمدة منها.
المطعم والمساحة الآمنة
جاءت فكرة المطعم والمساحة الآمنة لربط المشروع بالزراعة، ولترسيخ القطاع الإنتاجيّ. ويلفت عودة إلى “أنّ ثلاثين بالمئة من الإنتاج يذهب لمساعدة عائلات فقيرة، ويدعم المطبخ الخيريّ التابع للجمعيّة اللبنانيّة للدراسات والتدريب”.
أمّا المساحة الآمنة، فهي عبارة عن حديقة تحتوي على ألعاب مخصّصة للأطفال في إطار التكامل، فالمتسوّق في السوق والمشاتل بإمكانه أن يتجوّل تاركًا أطفاله في مكان آمن، وبإمكانه إنهاء زيارته للقرية الزراعيّة في المطعم.
معارض وأنشطة ومنتوجات
تتنوعّ أنشطة القرية الزراعيّة بين أنشطة اجتماعيّة وإحياء مناسبات مختلفة، وبين معارض المونة (المؤونة) والإنتاج الزراعيّ. تهدف كلّها إلى تسويق إنتاج المزارعين، بحيث تقوم القرية بتقديم المكان لإقامة النشاط أو المعرض. ثمّة أكثر من ثلاثين أو أربعين نشاطًا شهريًّا، منها معارض للمزارعين ومعارض للنحّالين، معارض المؤونة والتصنيع الغذائيّ، معارض للعائلات المعدومة، يوم الخسّ البلديّ، يوم التفّاح، تتمّ في منطقة بعلبك- الهرمل، وذلك من أجل زيادة المبيعات، وتسويق الإنتاج.
الجدير ذكره، أنّ نشاط القرية الزراعيّة لا يقتصر على المساحة الجغرافيّة الخاصّة بها، بل تعمل على ضمان العديد من الأراضيّ المحيطة وزراعتها. وتنقسم أبرز منتوجات القرية الزراعيّة إلى قسمين اثنين، وبحسب عودة: “ثمّة قسم للمنتوجات الخاصّة بالقرية، من شتول مختلفة: خسّ وفريز ونعناع وخيار وملفوف. بالإضافة إلى الحبوب والخضار والفواكه، ومنتجات النحل والبيض والبهارات والمؤونة من مكدوس ودبس رمّان وكشك وأنواع مختلفة”.
أمّا القسم الثاني فهو “قسم المنتوجات الزراعيّة للمزارعين المتابَعين من قبل القرية الزراعيّة، وهي تتضمّن كذلك الأنواع نفسها، وكلّها تسوّق وتباع في السوق الزراعيّة الخاصّة بالقرية، وأحيانًا في المعارض التي تقيمها”.
معمل الألبان والأجبان
ينفصل معمل الألبان والأجبان عن مشروع القرية الزراعيّة، لكن بشكل أو بآخر ثمّة ترابط وثيق بين مشاريع الجمعيّة كافّة، حيث أنّ المعمل يعتمد على العلف والتبن ممّا يزرعه المزارعون في المشروع.
يشكّل مشروع القرية الزراعيّة في “بوادي” دورة حياتيّة مستدامة، بالإضافة إلى مشاريع أخرى ترعاها المؤسّسات المانحة، من أجل النهوض بالقطاع الزراعيّ في بعلبك- الهرمل وتمكين المزارع في أرضه.