“قصر العذارى” في قصرنبا ثالث معابد بعلبك تحت سطوة الإهمال
هو واحد من رموز بعلبك الغامضة، من أساطيرها وحكاياها التي تتلحّف بالغموض وسترة التاريخ، ولكن الطريق المؤديّة إليه معبّدة بالإهمال فلا تدلّك عليه، إذ تغيب عنها إشارات التعريف به كمعلم أثريّ مهمّ في المنطقة. تعدّدت أسماؤه بين قلعة قصرنبا الرومانيّة، قصر البنات، قلعة العذارى، كاسترا البنات (باللغة اللاتينيّة وتعني قلعة البنات).. كلّها مسميّات ترمز إلى معبد بناه الرومان في القرن الأوّل أو الثاني الميلاديّ في بلدة قصرنبا في محافظة البقاع، وقد وُسم بلقب ثالث أضخم معبد في بعلبك.
وبحسب تصنيف عالم الآثار الإنكليزي جورج ف. تايلور، “قصر البنات هو واحد من المعابد القديمة في وادي البقاع”، وعلى الرغم من أنّ تاريخه يعود إلى العصر الرومانيّ لكن البعض يقول إنّه شُيّد خلال العصور اليونانيّة المتأخّرة، وجرى ترميمه في العهد الرومانيّ.
معابد رومانيّة
ليس غريبًا أن تضمّ قصرنبا هذا المعبد، فالمنطقة الممتدّة من مدينة بعلبك حتّى راشيّا الوادي تضمّ عديدًا من الآثار والمعابد الرومانيّة المكتشفة وغير المكتشفة، منها معابد بعلبك، نيحا، قصرنبا، تمنين التحتا، كامد اللوز، عين حرشا، النبي صفا وغيرها في كثير من المناطق وصولًا إلى دير العشائر على الحدود السوريّة.
تتربع قصرنبا البلدة على المنحدر الشرقيّ للسلسلة الغربيّة، وبالتحديد جبل صنين، تبعد نحو 15 كيلومترًا عن مدينة زحلة، ونحو 25 كيلومترًا عن مدينة بعلبك. لا يزال أهلها يحافظون على عاداتهم وتقاليدهم، إذ إنّهم موصوفون بالكرم وحسن الضيافة وبالنخوة في الأفراح والأتراح.
ثالث أكبر معبد
هناك أكثر من ثلاثين معبدًا في البقاع تمتدّ من جبل حرمون إلى بعلبك شمالًا وشرقًا وغربًا، بحسب الأستاذ هيثم الدرزي الباحث المهتمّ بدراسة الآثار في لبنان، ويشير إلى أن “المعبد يتميّز بحجارته الضخمة وبنائه الهندسيّ الراقي، وهو عبارة عن ثلاث طبقات كما تقول الروايات، وحتّى الآن لم تكتشف الحفريّات الأثريّة سوى الطبقة العليا منه”.
يتابع الدرزي حديثه إلى “مناطق نت” فيقول: “يقع المعبد على علوّ يفوق 1100 متر عن سطح البحر. من المرجّح أنّه ثالث أكبر معبد رومانيّ في البقاع بعد جوبّيتير وباخوس في المرتبة الأولى، وبعد نيحا وبيت مري في المرتبة الثانية”.
ليس غريبًا أن تضمّ قصرنبا هذا المعبد، فالمنطقة الممتدّة من مدينة بعلبك حتّى راشيّا الوادي تضمّ عديدًا من الآثار والمعابد الرومانيّة المكتشفة وغير المكتشفة، منها معابد بعلبك، نيحا، قصرنبا، تمنين التحتا..
يشدّد الدرزي على أنّ المعلم الأثري الرومانيّ في قصرنبا “هو معبد وليس قلعة، وهو يحتاج إلى جهود ضخمة من الناحية الهندسيّة حيث أن نظامه كورنيثيّ “Cornithian” وهو مبنيّ على طريقة، “Hexastyle” أيّ إنّه مؤلّف من ستة أعمدة تحوط مدخل المعبد، الذي يقوم على منصّة ضخمة أو قاعدة صخريّة“Podium” فيتدرّج بشكله الهندسي ثمّ يستقبلك درج مبنيّ من بلوكّات صخريّة، بعدها “البلكون” ثمّ الفوّهات الخاصّة بأبواب المعبد، إلى الساحة الداخليّة للملعب، ويليها درج، ثمّ يتبعها ما يسمّى بقدس الأقداس، وفيه الإله الأساس للمعبد، وتحته القبو حيث كانت توضع حاجات المعبد”.
يتابع الدرزي: “يضاف إلى ذلك المثلّث “Pediment” وهو كان موجودًا سابقًا فوق الأعمدة الستّة، أمّا اليوم فموقعه عند الجهة الشرقيّة للمعبد. وهو الذي وضع عليه تمثال الراهب نونيانوس الذي يحمل مرشّة بخّور”.
مذبح ومقلع
خارج المعبد ما يُعرف بالمذبح “Altar” مع أعمدة صغيرة، كانت تُقدّم فيه القرابين للإله. يتميّز المعبد بنقوش الأسد التي تحيط بكلّ جوانبه تحوي فتحة صغيرة مخصصة لانسياب هطول مياه الأمطار. كما يحتوي المعبد على عديد من التيجان والأجران.
أمّا بالنسبة إلى المقلع والذي يُسمّى كذلك بـ”المقطع” الذي كانت تُقطع فيه الحجارة لبناء المعبد ويقع بجواره، فهو أيضًا مصنّف من ضمن الآثار. وهنا يشير الدرزي إلى أنّه من المقالع النادرة في لبنان، والتي لا تزال كما كانت عليه في أيّام الرومان، لافتًا إلى أنّ الألمان عندما قدموا سنة 1903 كانت بيوت القرية لا تزال من ضمن المعبد.
معلمٌ مهمّ مهمل
يتألف المعبد من طبقات ثلاث، واحدة فقط هي المكتشفة حتّى اليوم، ففي تاريخ عمليّة التنقيب عن الآثار في منطقة البقاع، يُقال إنّه عند قدوم القيصر والإمبراطور الألمانيّ نيلهام الثاني سنة 1898 إلى بعلبك، قابل السلطان العثمانيّ آنذاك وبدأت في حينه البعثات الأثريّة والإرساليّات تنشط في بعلبك، والتي كان عملها سابقًا محصورًا في الساحل والجبل. في هذا الصدد يؤكّد الدرزي أنّه في العام 1903، أتى فريق ألمانيّ إلى قصرنبا كأوّل إرساليّة للتنقيب في معبدها الرومانيّ.
وكذلك الأمر في ما يخصّ المديريّة العامّة للآثار في وزارة الثقافة، إذ جرت آخر عمليّة تنقيب ما بين ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، ومذ ذلك الوقت لم تُجرَ أيّ عمليّة تنقيب في معبد قصرنبا الرومانيّ.
“المفارقة أنّ “الحسينيّة” المجاورة للمعبد هي التي تُعرّف عنه، وذلك عن طريق الصدفة، نظرًا إلى وجودها قريبة منه، “ففي أثناء قيام الناس بزيارة الحسينيّة بهدف القيام بواجب تعزية أو غيره، يشاهدون المعبد، وهذا دليل على غياب الاهتمام الرسميّ بهذا المعلم الأثريّ وفي استقطاب الزوّار إليه، إلّا أنّ أهالي البلدة سبق أن بادروا إلى التعريف عنه من خلال وسائل التواصل الاجتماعيّ” بحسب أحد أبناء البلدة من آل ديراني لـ”مناطق نت”، مشيرًا إلى أنّ “عددًا كبيرًا من أبناء البقاع لم يسمعوا يومًا بهذا المعبد وتاريخه”.
من جهته، يؤكّد رئيس بلدية قصرنبا الحاج مهدي الديراني أنّ “هذا المعبد من المعالم المهمّة جدًّا في البقاع، والمسؤوليّة عنه تقع بالدرجة الأولى على مديريّة الآثار في وزارة الثقافة، وهي الجهة التي يفترض أن تهتمّ بالمعلم وإقامة المشاريع المتعلّقة به”.
يضيف الديراني لـ”مناطق نت”: “إنّ البلدية لا تستطيع فعل شيء تجاه المعبد، فهو كما قلنا من مسؤوليّة مديريّة الآثار، وأيّ نشاط أو مشروع داخله أو يتعلّق به، يستوجب أخذ موافقة المديريّة، هذا من جهة، من جهة ثانية البلديّة اليوم لا تملك إمكانيّات ترميمه، ومنذ نحو ثلاث سنوات كانت البلدية تقيم احتفالات وسهرات في المعبد وكانت أجواء البلدة يومها مؤاتية لذلك، لكن الوضع اليوم مختلف تمامًا”.
ويختم الديراني “نحن نطمح إلى تطوير هذا المعلم”، داعيًا مديريّة الآثار “إلى إنارته، وإقامة مدخل رئيس له، بالإضافة إلى دعوة السيّاح وتشجيعهم على زيارته”.
غياب عناصر الجذب
على الرغم من أهمّيّة معلم قصرنبا الأثريّ، إلّا أنّه لا يزال غامضًا وغائبًا عن عيون الناس، فكثير من اللبنانيّين والبقاعيّين على حدّ سواء لا يعلمون بوجوده، إذ أسقطه الإعلام من حساباته، ولم تنصفه الوزارات والجهات المعنيّة، في حين يكمن دور كلّ من وزارة الثقافة والسياحة في التعريف بالمعبد وتسليط الضوء عليه عن طريق إقامة النشاطات وإحياء المناسبات في داخله.
وينسحب الإهمال أيضًا على غياب الحدّ الأدنى من الاهتمام في المعبد، من حيث التشذيب الدوريّ للأشجار والأعشاب التي تنمو بجواره وتنظيفه وزيادة الإنارة في داخله. يضاف إليها تأمين عناصر الجذب لزيارة المعبد إذ تغيب المطاعم والمقاهي والمؤسسات السياحية، ويقتصر الأمر على بعض الدكاكين الصغيرة.
كان يزور المعبد سابقًا حوالي 150 زائرًا شهريًا من جميع المناطق، أيّ بمعدّل خمسة زوّار يوميًّا، إلّا أنّه منذ نحو شهرين انقطع الزوّار عن المعبد في أعقاب الوضع الأمنيّ السائد في لبنان والمنطقة.