قصص من تحت الركام.. النجاة وحدها لا تكفي
“كلّ ما إتذكّر ما بعرف شو بحسّ..”، ثمّ يتوقّف صاحب العبارة عن الكلام، معتذرًا عن مُتابعة قصّة قيامه من تحت الركام.
في البداية بدا الموضوع سهلًا أن يتحدّث الناجون من تحت الركام عن قصصهم! فالنجاة في زمن الحرب فعلُ بطولة أيضًا! ولكن ليس من وجهة نظرهم. يحمدون الخالق على بقائهم أحياء، وعلى توافر سبل النجاة والمساعدة لهم، ولكنّهم يؤثرون التخطّي، ويبدو الكلام حول التجربة فعل استثارة لشعورهم بالاختناق، ألسنا نقول في “الدارجة” عندما نريد أن نعبّر عن إحساس عميق بالضيق “في ثقل على قلبي؟” كيف والثقل ليس معنويًّا بل كان حجارة ورُكامًا وقد تكون أشلاءً فوق أجسادهم.
كُنت نائمة…
انهار المنزل فوق جسدها وبقيَ رأسها فوق الرُكام شاهدًا على نجاتها. تروي هـ.ع. (مواليد 1983) من منطقة النبطيّة، أنّها في أثناء حدوث الغارة المعادية على منزل العائلة كانت نائمة قرابة الحادية عشرة ليلًا، بينما توزّع باقي الأفراد على منازل الأقرباء والجيران المحيطين.
في الـ 26 من أيلول (سبتمبر) الماضي، أيّ بعد مرور ثلاثة أيّام على توسّع رقعة الحرب (الحرب الكبرى) تستيقظ هـ.ع. على أصواتٍ تُناديها، وجهها وحده ظاهر من تحت الركام، وجسدها كلّه تحت الردم، ليسرع والدها وشقيقها برفع الحجارة والركام عنها.
كان وضعها مزريًا؛ وجهها متورّمًا ومخضّبًا بالدّماء، وجسدها مليء بالجروح والرضوض. استجاب فريق الإسعاف في البلدة لنداء العائلة وأسعف هـ.ع. حيث أدخلت إلى المستشفى الحكوميّ في النبطية، لكنّ حالتها الصعبة وعدم توافر أسياخ لإجراء عمليّة لها، إذ كانت إصابتها في الفخذ والورك والكتف، استدعى نقلها إلى مستشفى في صيدا لتخضع لعمليّات في يديها ورجليها.
تستيقظ هـ.ع. على أصواتٍ تُناديها، وجهها وحده ظاهر من تحت الركام، وجسدها كلّه تحت الردم، ليسرع والدها وشقيقها برفع الحجارة والركام عنها
بقيت هـ.ع. في المستشفى مدة أربعة أيّام، لتنزح بعدها مع عائلتها إلى منطقة في الشوف، حيث تلقّت هناك رعاية تامّة من قبل جمعيّة طبّيّة تعمل في المنطقة، حيث بقيت أسيرة السرير مدّة شهر عاجزة عن الحركة، فعانت كثيرًا من كتفها الذي لم يلتحم بسهولة وظلّت يدها معلّقة إلى رقبتها نحو شهرين، وهي ما زالت تخضع إلى جلسات علاج فيزيائيّة والمُداومَة على المتمّمات الغذائيّة والفيتامينات.
لم تخرج هـ.ع. من تحت الركام معافاة تمامًا بل بقيت أثار الضربة ظاهرة في فكّها ووجهها وأسنانها، نجت بأعجوبة وظلّت حديث العائلة ومن عرف بقصّتها، وهي اليوم ترغب في النجاة من فضول السائلين ألّا ينظر الناس إليها كأعجوبة.
صقر والتاكسي المُنقِذ
في ذاكرة سمير صقر وهو طالب جامعيّ من سكّان دوحة عرمون ويعمل سائقًا، كثير ليرويه. واصل عمله أثناء الحرب وبزخم أكبر وبكثير من المخاطرة. شملت مواصلاته جميع مناطق الجنوب وصور والضاحية، في ظلّ إحجام عديد من السائقين عن المخاطرة. يروي أنّه أثناء الحرب تلقّى اتّصالًا قرابة منتصف الليل من امرأة لا يعرفها، تطلب إليه القدوم بسرعة لأنّ بيتها في منطقة الشويفات العمروسية ضمن دائرة الاستهداف التي كان يتابعها سكّان المناطق المستهدفة في الضاحية من خلال صفحة “أدرعي” على منصّة إكس X. سألها على عجل “منذ متى الإنذار”؟ فأجابت “منذ ربع ساعة”.
كان هناك اتفاق سارٍ بين السائقين ألّا يذهبون إلى مكان، مضى على إنذاره أكثر من ثلث ساعة. يروي صقر أنّ السيّدة أخبرته أنّها وحدها في الشارع هي وأولادها وليس هناك من أحد. لم يتردّد صقر في تلبية استغاثة السيّدة، نصحه بعض الشُبّان بعدم التوجّه ناحية المنطقة المُنذرة بالإخلاء، لكنّه أصرّ على المضيّ، وما إن وصل إلى المكان وصعدت العائلة معه في السيارة وسارة مسافة قصيرة حتّى سقط الصاروخ على المبنى المستهدف. يروي صقر أنّه “ما أن ابتعدت عن المبنى مسافة سبعين مترًا، حتّى سقط الصاروخ وتحوّل المبنى إلى ركام، “الصاروخ هوّي وعم ينزل مرق من فوقنا وسمعنا صوته وضغطوا ذينينا”.
اختلطت قوّة الانفجار وما خلّفه انهيار المبنى وتحطّم الزُجاج بالصُراخ وبكاء الأطفال، تجاهل صقر انكسار الزجاج الأماميّ والخلفي لسيّارته، وتابع السير بسرعة جنونيّة، وكانت النجاة. يشعر صقر بالفخر أنّه استطاع إنقاذ العائلة، في مقابل مرّاتٍ شعر فيها بالعجز والذنب، منها قصّة الرجل الذي اتّصل به ليلًا من منطقة كفرشيما، طالبًا قدومه لأنّ المنطقة شملها إنذار بالإخلاء. لم يكد يصل إلى المنطقة حتّى حصلت الغارة وكان الصوت قويًّا جدًّا، ظلّ يحاول الاتّصال بالرجل من دون نتيجة ممّا سبّب له شعورًا بالضيق أقعده في المنزل أسبوعًا كاملًا.
يروي صقر عن عائلة اتّصلت به من الجنوب، وكان يحتاج للوصول إليهم مدّة ساعة ونصف الساعة، أخبرته السيدة أنّ عددهم 12 شخصًا وجميعهم نساء إضافة إلى رجلين كبيرين في السنّ هما الأبّ والعمّ، أخبرته عن القصف العشوائي، وعن ضياعهم وعدم معرفتهم كيف يتصرّفون، وصل إلى صيدا وهناك انقطع الاتّصال بالسيّدة. يحكي صقر أنّه بعد وقف إطلاق النار عمل على إرجاع العائلات إلى ضيعهم، “فوق كلّ الدمار صامدين ومبتسمين”، ويُضيف أنّه كان يتمنّى لو كان باستطاعته المساعدة أكثر، وتلبية كلّ نداء.
من تحت الرُكام..
يعمل أحد الشبّان (رفض ذكر اسمه)، سائق جرّافة في منطقة حاروف (النبطية)، وكان عمله في الحرب يقضي بالتحرّك بعد حدوث كلّ غارة والمباشرة بإزالة الركام وفتح الطرقات.
يروي الشاب أنّه في أحد أيّام الحرب وكانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء، كان هو ورفاقه يرتاحون في أحد منازل الضيعة، فحدثت غارة مفاجئة وأصابت المنزل، حينها لم يدرِ ما حدث، إلّا أنّ الركام كان يغطّي الشبّان. يروي كيف قاموا بتخليص بعضهم بعضًا، حتّى وصول سيّارات الإسعاف التي نقلتهم إلى مستشفى “الشهيد راغب حرب” في تول، “وكانت جراحهم محتملة” كما يروي ويردف: “تقطبنا كمّ قُطبة..” بعدها غادر المستشفى ليومين، ثمّ عاد لإجراء عمليّة في كتفه. يقول الشاب أنّه لم يترُك الضيعة، بل استكمل عمله حتّى اليوم الأخير.
“هيّاني”
يقول وجه أبو علي كثيرًا، فآثار الحرب تبدو واضحة وتركت ندوبًا بارزة فيه. هو كان يعمل في فريق إسعاف الهيئة الصحّيّة الإسلاميّة في الجنوب. يروي أنّه “في أثناء قيامنا بواجبنا في مركز الهيئة، استهدفت طائرة مسيّرة مركز عملنا”، وبتأثُّر بالغ يتذكّر كيف اخترق الصاروخ المسافة الفاصلة بينه وبين زميله الذي “استُشهد” على الفور.
أبو علي: في أثناء قيامنا بواجبنا في مركز الهيئة، استهدفت طائرة مسيّرة مركز عملنا، اخترق الصاروخ المسافة الفاصلة بيني وبين زميلي الذي “استُشهد” على الفور
بقي أبو علي بعين مطفأة وأخرى مبصِرة لتروي معجزة نجاته. فقدَ إحدى أذنيه وإحدى عينيه، وبصوتٍ متهدّج يروي كيف أنّه في كلّ مرّة كانت تتناوب على إنقاذه إحدى الفرق الإسعافيّة، تباغتهم المسيّرة اللعينة بصاروخ، لأربع مرّات كُتبت له النجاة واستُشهد الجميع. وبعد هدوء الطيران جاء أحد معارفه وراح ينادي عليه، ويندبه بصراخ متوتِر “وينك يا أبو علي..” حتّى جاءه الصوت ضعيفًا “هيّاني”. ما زال أبو علي يداوم على علاج يده شبه المعطوبة، ويترحّم على الشهداء الذين قضوا في سبيل إنقاذه واقفًا أمام معجزة نجاته شاهدًا “على همجيّة الاحتلال الذي لا يعرف طريقًا للسلم ولا الرحمة”.
كأنّني في قبر
بقيَ الشاب ع. مرابطًا ورفاقه في بيت في إحدى القرى الجنوبيّة. يقول إنّه أثناء حدوث الغارة على المنزل الذي يتواجدون فيه، غاب عن الوعيّ لساعات لا يتذكرها، لم يُحسّ بأيّ شيء، كانوا يتابعون الأخبار على التلفاز، ليختفى صوت التلفاز فجأة ويحلّ في الغرفة ظلامٌ لا نهائيّ، مصحوبًا بهدوءٍ تام، خجل من مناداة رفاقه لظنّه أنّهُ نام قبلهم، وعندما همّ بفتح فمه أحسّ بطعم الغبار والدُخان، وهنا أيقن أنّهم تعرّضوا لغارة، فراح ينادي على رفاقه واحدًا واحدًا، وعندما لم يجد جوابًا عرف أنهم استشهدوا جميعهم.
كان عاجزًا عن الحِراك وسط الركام، ولكنّ قوّة الحياة دفعته إلى المجاهدة والمحاولة، فيحفر بأصابعه حتّى اهتدت يداه إلى حدائد عامود، يقول: “كأنّني في قبر، على قدّي المطرح”. حتّى تمكّن من رؤيّة بصيص ضوء عرف أنّه ضوء القمر، التقط نَفسَهُ الأوّل وظلّ يحفر بكلّ ما أوتي من جهد حتّى تمكّن من إخراج رأسه، وراح يصرخ طالبًا النجاة حتّى سمعه أحد المسعفين وبعد أخذ وردّ عن مكانه وما الذي يوجد بقربه تمكّنوا من تحديد مكانه وانتشال جسده المعفّر بالرماد والأتربة والمثخن بالجراح.
ما يذكره ع. عن شعوره في ذلك الوقت أنّه لم يحسّ بوجع ولا بصوت الضربة ولولا صراخ الوعي ما كان حفر بأصابع يده الركام والتُراب وحرّك الجسد باحثًا عن نقطة نجاة من بصيص ضوء.
خجل من مناداة رفاقه لظنّه أنّهُ نام قبلهم، وعندما همّ بفتح فمه أحسّ بطعم الغبار والدُخان، وهنا أيقن أنّهم تعرّضوا لغارة، فراح ينادي على رفاقه واحدًا واحدًا، وعندما لم يجد جوابًا عرف أنهم استشهدوا جميعهم.
حديث الطبّ النفسيّ
تُشير المتخصّصة والمعالجة النفسيّة دارين صالح حوماني في حديث لـ “مناطق نت” إلى “أنّ الذين يفقدون أطرافًا يكون الأمر شديد الصعوبة عليهم، لأنّهم يشعرون بأنّهم عاشوا فقدان الموت بموت جزء من جسدهم أو موت أطرافهم، ويحتاجون كثيرًا من الوقت للتعافي من الفقد، ويعيشون الحداد على فقدِهم”.
تتابع: “إنّ الشعور بالذّنب يكون مضاعفًا عند الذين يفقدون أشخاصًا في المكان نفسه مثل المجازر، فيظلّ المكان وكأنّه جزء منهم ذهب مع هؤلاء الناس وهو من أقسى أنواع الحداد الذين يعيشه الإنسان، ويشعر بالذنب الشديد بأنّ جزءًا من جسمه فقط ذهب معهم وليس كلّه”.
“لا يقصد الناجون تحاشي الحديث عن قصصهم، ولكنّ الصدمة تُحدث تجمُّدًا عاطفيًّا”، تقول حوماني وتُضيف “أنّ الإنسان عندما يُصدم تعلق لديه في اللغة وفي الحشوة العاطفيّة وفي قلبه، فيفقد قدرته على إدراك التفاصيل، لذا نلاحظ كثرة شرودهم، وهنا نتحدّث عن تجمّد عاطفيّ”. وتؤكّد حوماني “ضرورة احتضان العائلة للناجي واحتوائه، وتأمين الدعم والحماية له كي يتمكّن من التفريغ النفسي عبر الحكيّ، وتوجيهه إلى مُعالج نفسيّ حتّى يتمكّن من التعافي”.
لا تتوقّف قصص الناجين هنا، بل هناك كثير من القصص التي يفضّل أصحابها نسيانها على نبشها وروايتها، ربّما يحتاج الأمر إلى وقت أطول كي يتمكّن هؤلاء من لملمة مشاعرهم، والوقوف فوق ركام الذكريات ليتحدّثوا عنها كماضٍ بعيد، ولن يتكرّر. وربّما هذا ما يرجونه ونرجوه نحن!