قطط الجميزة تحدق فينا من اللوحات

شهدتْ العاصمة بيروت في التاسع من الجاري في صالة “Art scene” (مشهد فنّيّ) في محلّة الجمّيزة مقابل مخفر أحبّائي الدرك، معرضًا تشكيليًّا لمجموعة من الفنّانين، تمحورت كلّ الأعمال الفنّيّة المعروضة فيه، حول القطط. تميّزتْ الأعمال بالإجمال بحركة وحيويّة رائعتين، وذلك يعود بالتأكيد إلى ما تحوي من قطط متنوّعة الأحجام والأشكال.

من محاسن تلك اللوحات أنّها شدّت ليس بصري وحسب، وإنّما أيضًا مسامعي بحيث تهتُ أثناء تأمّلي تلك الأعمال، عن تعليقات زوّار المعرض، وما يأتون به في الغالب من عبارات تتراوح بين “الواو” و”الياااي” و”اليييي”، وإلى غيرها من أصوات تترجم دهشة هؤلاء الزوّار.

ليس القطّ بالكائن العاديّ على الإطلاق، وهو في جلّ تلك الأعمال المعروضة في صالة الـ Art scene، كان كمن يرمق المشاهدين بعينيّ الملل والرغبة، بأن يتركوه وشأنه في هذه اللوحة أو تلك. لا أخفي أنّ بعض لوحات المعرض ساقتني بقوّة لأن أتجاسر على بعض قططه، فأعمد إلى استنطاقها، ومحاولة نبش ما تكتم من أخبار وأسرار ومغامرات. بيد أنّ للقطّ مآربه، التي نقف نحن البشر إزائها موقف الحيرة والتردّد والارتباك.

سألتُ بعض الفنّانين والفنّانات، ممّن شاركوا عبر لوحاتهم في هذا المعرض، عن بعض الأمور، إلّا أنّ الحيرة عقدت ألسنتهم عن بكرة أبيها، حتّى ليخال المتلقّي المسكين مثلي، أنَّ القطط هي مَن رسمتْ نفسها، عبر هؤلاء الفنّانين في تلك اللوحات.

من معرض القطط في صالة “Art scene” في الجميزة
قطط بعيون حذرة

كان الغاليري ليلة الافتتاح يعجّ بالناس، بينما القطط تعجّ بتلك العيون الحذرة والقلق النبيه إزاء الأشباح الغريبة، التي هي نحن ناس ذلك الافتتاح. في نصّه “القطّ المجنون” يقول الشاعر المكسيكيّ ذو الأصول اللبنانيّة، خايمي سابينس “إنّ القطط عند القلق تقوم بالتيقّظ ضدّ الأشباح، ضدّ الذبذبات الشرّيرة، وضدّ روّاد فضاء قد يأتون من كواكب أخرى”.

كنت أجول في المعرض متداريًا عن كلّ الناس، عن كلّ هؤلاء الأشباح، متماهيًا مع تلك القطط، أبادلها المواء بكتم الصوت. أحدّج تلك القطط وتحدّجني، فأنا أحبّها وهي تحبّني، إذ لم يمرّ طيلة سنواتي الخمسين يومًا خاليًا من القطط. كلّ قطط ذلك المعرض رائعة الجمال، سواء أكانت مستلقية أو منتصبة فوق قوائمها الشديدة الإنتصاب، مسترخية أو متوثّبة للإنقضاض.

لم أبالِ بالمرّة في تداخل خطوط تلك القطط وغرابة ألوان بعضها، ذلك أنّ روحها الواحدة كانت ترفرف بحضور آخر، تراني أشكر القدر دائمًا لمنحي نعمة تلقّيه ومعايشة تلك الروح. كتب مرّة رجل حكيم يعشق القطط إلى حدّ الذوبان ويدعى جورج برنارد شو، أنّ الإنسان يصير متحضّرًا إذا فهم روح القطط، وحبّذا لو كان للبشر تلك القدرة على تلقّف ذلك الفهم المتعالي الماورائيّ… الميتافيزيقيّ بامتياز.

حاولتُ جاهدًا مغادرة الغاليري بعد مكوثي هناك ما يقارب الساعتين، إلّا أنّ الانخراط الهائل لتلك القطط، في عالم لطالما اشتهيته، وما زلت أشتهيه، حال دون هذه المغادرة

قطط اللوحات

على الرغم من وضوح قسماتها، وجلاء تلك القسمات، فضلًا عن نظراتها الثاقبة وتركيز تلك النظرات، فإنّ قطط لوحات ذلك المعرض الجميل، كانت تصرّ على أن تكون مجهولة من قبل الجميع، وهي عادة متأصّلة في القطط بعمق، ويدرك مغزى تلك العادة كلّ من يعايش القطط، أو عايشها لزمن طويل.

يفتتح اليابانيّ ناتسومي سوسيكي رائعته الروائيّة “أنا قطّ” بالعبارة الآتية: “أنّا قطّ ولكن لا اسم لي”. لا تأبى القطط بعامّة بأن تكون مجهولة، فهي بعكسنا نحن البشر المساكين، لا تسعى لأن تكون محلّ اعتراف من قبل الآخرين، لا تجهد نفسها لأن تكون محلّ هويّة ثابتة المعالم والحدود، ولا تستجدي تلك المذلّة لأن يكون اسمها محلّ تداول فوق ألسنة الآخرين…. “مياااء”، هي تقول حيال كلّ هذه الأمور.

حاولتُ جاهدًا مغادرة الغاليري بعد مكوثي هناك ما يقارب الساعتين، إلّا أنّ الانخراط الهائل لتلك القطط، في عالم لطالما اشتهيته، وما زلت أشتهيه، حال دون هذه المغادرة، إذ، وعبر الامتداد اللانهائيّ لأذنابها، وعبر الوقار الأصيل لنظراتها، فضلًا عن وبرها الفسيح، وتثاؤب بعضها وحركة آذانها المنصاعة إلى محض صمت جليل، عبر كلّ هذه العناصر وجدتني مشدودًا إلى أصل غاب عنّي، ككائن بشريّ في عتمة التاريخ الطويل.

فأنا أرى وبكلّ سذاجة، أنّ مجافاة العالم لنا كآدميّين، يمكن ترميمه من خلال الذوبان في الوجه النباتيّ للعالم، ومن خلال وجهه الحيوانيّ، وبشكل خاص من خلال قططه. وليس من باب العبث في هذا الصدد، أن يرى الروائيّ الفرنسيّ برنار فيريير في ثلاثيّته الروائيّة الجميلة (ملكة القطط – كوكب القطط – القطط غدًا) والمؤلّفة من نحو 1200 صفحة، أنّ خلاص البشر يقوم على انتصار حضارة القطط الأوفياء للأرض، أكثر منّا نحن البشر بكثير.

اللمّة القططيّة الأنيسة

يا لروعة تلك اللمّة القططيّة الأنيسة، التي شاعت في شارع الجمّيزة تلك الليلة، ويا لذاك الانسياب الذي لا يستجدي إلّا محض مصالحة الذات مع ذاتها بهيئة منظر القطط.

كنت إبّان ذلك المعرض شديد التحوّط حيال التحدّث إلى الناس، أو الانخراط في الكلام مع آخرين حول تلك اللوحات، إذ إنّ ذلك المعرض ساقني بلطف لأن أكون مشدودًا إلى محض تاريخي القططيّ الطويل، والذي يتلوّى في داخلي كـ Kitten (هريرة) في الشهور الأولى من العمر. يقول أهل النقد الفنّيّ وأصدقائي الفلاسفة منهم بشكل خاص، إنّ حدود اللوحة لا تنتهي عند الإطار الذي يحوطها من كلّ جنب، وهو قول في محلّه، لكنّه يتجسّد أكثر ما يتجسّد في اللوحات التي تحوي القطط بشكل خاص. لقد تأصّل في كياني منذ عقود وعقود أنّ القط هو كائن يأبى كلّ ضروب التأطير، وليست اللوحة التي تحويه إلّا استعارة، أو مجازًا لحقيقة رائعة، حتّى الفنّان صاحب اللوحة لا يدرك كنهها النهائيّ.

مواء

لم يكن في نيّتي على الإطلاق أن أتناول ذلك المعرض بنأمة حرف، ورتّبتُ ذهني بحيث لا أنساق إلى سحر الكلام عن القطط، إلّا أنّ للكلمات مساربها وللعبارات دروبها كما تعلمون، وليس الكلام عن القطط في هذه السياقات، إلّا مدّ الكلمات بنمط آخر من النبض، وبأفق آخر من الدلالات.

حبّذا لو كانت تلك القطط هي من تكتب عن نفسها عبري، وحبذا لو كانت العبارات مواء ومن بعده مواء…

تحيّة بنهاية هذه المادّة إلى كلّ من يعشق القطط وتحيّة أكبر إلى “بسبس” و””زوزو و”لولو” و”لونا” وبشكل خاص إلى “بلبل” قطّي الجليل… تحيّة إلى قططي الخاصّة التي تشاركني الانزواء – ما أمكن – بعيدًا من فداحة العالم البشريّ التعيس… وتحيّة إلى كلّ قطط العالم التي تجهد لسوق البشر إلى روعة التحديق المنزّه عن الغرض، وإلى البُعد عن الضجيج المخزي والركون إلى نعمة الصمت النبيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى