قلعة بعلبك.. هُويّة لبنان البصريّة
تستند هويّة لبنان البصريّة على رموز ثلاثة، لا رابع لها: الأرزة، صخرة الروشة، وقلعة بعلبك. تماماً مثل ارتكاز هُوية مصر على الاهرامات الثلاثة، وإيطاليا على برج بيزا المائل، وفرنسا على برج إيڤل، وأميركا على تمثال الحرّيّة، وروسيّا على مبنى الكرملين، والكويت على أبراجها الثلاثة، والصين على سورها العظيم، لكن الأمر ليس محقّقاً في جميع البلدان، حتى الكبيرة منها، إذ لا رمز بصريّاً يعرّفنا على ألمانيا، كذلك الحال مع الهند والسويد والدانمرك وتونس وسوريّا…
من هنا سنكتشف أنّ الأمر ليس بالسهل أبداً، وهو ليس قراراً تتّخذه الدولة، فينعكس في وجدان الشعوب الأخرى، والدليل أنّ رموزاً عدّيدة في البلد الواحد، لكنّ واحداً منها فقط من يحتل الواجهة الرمزيّة، ليستقرّ في الوجدان ما أن يُسمَع إسم هذا البلد، والعكس صحيح، بحيث نستحضر البلد ما أن تستقر أعيننا على صورة رمزه.
للتسويق دور
لا شكّ في أنّ الأمر لا يستند على ما جادت به المصادفة، أو عبقريّة فنّيّة وهندسيّة فحسب، بل لا بدّ من عمليّة “التسويق” لهذا الرمز من خلال وزارات السياحة، كما وزارات الثقافة، والإعلام، ذلك لأن الترويج البصريّ لكلّ بلد يتقاطع مع أبعاد اقتصاديّة، وتاريخيّة ربّما، فتظهر عراقة البلد، وجذوره الضاربة في عمق التاريخ، وربما يعكس الرمز بعداً حداثويّاً ممزوجاً بالعراقة، كحال برج العرب الذي يأخذ شكل الشراع، في الامارات العربيّة.
وفي بعض الحالات لا يكون هذا الرمز أجمل ما في البلدان، غير أن العامّة تنتخبه لأسباب عدّة، فلا تستطيع الدول تغيير هذا الرمز، كما هو حال برج إيڤل، تلك الكتلة المعدنيّة الباردة التي بنيت لهدف مؤقّت، وكان على بلديّة باريس إعادة تفكيكه بعد حين، غير أنّه ترك أثراً عظيماً في عاصمة الأنوار، فجرى الإبقاء عليه، ليصبح هو شخصيّة فرنسا بكلّ تاريخها ورموزها.
تمظهرات القلعة
إذاً للبنان ثلاثة رموز، أوّلها من نتاج الطبيعة والتاريخ (شجرة الأرز) وثانيها نتاج التشكيل الجيولوجيّ (صخرة الروشة)، وثالثها من نحت البشر (قلعة بعلبك)، بيد أن يد الطبيعة اشتغلت كذلك في تكوين القلعة، إذ إن تلك الأعمدة الستّة المنتصبة، هي جزء من قلعة كبيرة هُدِمَت بفعل زلزال كان قد ضرب تلك الناحية من لبنان، فانهارت بمعظمها، لتتشكل تلك الروعة، كتمثال ضخم، بحجارة مستديرة، يجمعها حاجب مزخرف. نشير إلى أنها صنفَت من قبل اليونسكو، كجزء من التراث العالميّ، في العام 1984.
ظهرت قلعة بعلبك في الكثير من رسومات المستشرقين، وبتقنيات عدّة، بعضها ليتوغرافيّ (طباعة حجريّة)، والآخر مائيّ، أو زيتيّ، أو تحبير على ورق مقوّى. كذلك صارت القلعة رمزاً على أولى العملات الورقيّة في لبنان، في تلك الفترة التي طُبِعَت في خلالها العملات تحت إشراف الإنتداب، فكانت معنونة بوَسم “بنك سوريا ولبنان”، ثم بقيَت القلعة رمزاً رئيسيّاً مع العملة التي أصدرها مصرف لبنان، لتكون على فئة الليرة، أي الرمز الأساس لباقي الفئات التي تحمل رسومات بيت الدين، وقلعة المسيلحة، وقلعة صيدا…
صار اسم بعلبك رمزاً للعديد من السلع، والشركات، والمحلات، والشوارع، ودخلت القلعة كتشكيل بصريّ في لوحات، وأزياء وملصقات ومنحوتات وكتب وأختام ووشوم ومجوهرات، وبطبيعة الحال خُطَّت فيها القصائد، والروايات، وصدحت باسمها الحناجر.
صار اسم بعلبك رمزاً للعديد من السلع، والشركات، والمحلات، والشوارع، ودخلت القلعة كتشكيل بصريّ في لوحات، وأزياء وملصقات ومنحوتات وكتب وأختام ووشوم ومجوهرات، وبطبيعة الحال خُطَّت فيها القصائد، والروايات، وصدحت باسمها الحناجر.
العين على بعلبك
كان للمهندس المعماري روبرت وود، وزميله جايمس داوكينز، الدور الأهم في إبراز هياكل بعلبك، وذلك من خلال تسليط الضوء عليها في منتصف القرن السادس عشر، بعد أن عايناها عن قرب، ليتولّد الإبهار الذي أحالاه كتاباً أطلقا عليه اسم “أطلال بعلبك أو هليوبولس في سوريا المجوّفة”، ليكون إطلاقه في لندن، رفقة مجموعة من الرسومات التوضيحية، المشغولة بعناية، لتظهر فيها الأعمدة التسعة آنذاك، قبل أن يضرب المدينة زلزالاً قوياً سنة 1759، فتفقد ثلاثة من أعمدتها.
الجدير ذكره أن القلعة خضعت لعمليات ترميم عديدة، منها واحدة في العام 1904، بدعم من الإمبراطور الألماني، والثانية في العام 1930، بدعم فرنسي، حيث أخذت المهمة الطابع التنقيبي والبحثي، لمعرفة المزيد عن المكان تاريخياً وهندسياً.
مع شهرة الأعمدة الستّة، صار السيّاح يقصدون بعلبك، كمكان أوّل، من ضمن رحلاتهم إلى لبنان، ولاكتمال الحالة كان لا بدّ من وجود بيئة منسجمة مع الحالة السياحيّة، ولذلك نشهد في محيط القلعة خدمات مثل ركوب الحصان، والتصوير الفوتوغرافي بالزيّ العربيّ، وتقديم القهوة، وفرق للدبكة الشعبيّة، اضافة إلى بيع مجسّمات للقلعة في علّاقة مفاتيح، أو لوحة من السيراميك، أو خياطة يدوية على الطارة.
أمّا عن الثوب البدوي مِن شماغ وعقال وعباءة، فهو أمر كان محل استغراب من قبل البعض الذين يسألون عن علاقة هذا الزّي بالقلعة التي بنيت فترة الوجود الروماني في البلد؟ لكن التبدلات السكانية والشعوب المتعاقبة التي توالت على المنطقة ومنها بعلبك تجيب عن ذلك التساؤل وهو بعلبك دخلت بدءاً من الفتح العربي والإسلامي لمنطقة الشام عصراً جديداً، حيث سكنتها العديد من القبائل العربية العربية وفرضت عاداتها وتقاليدها وتراثها.
الخطة المجهَضَة
لا شكّ في أنّ لمهرجانات بعلبك الفنّية، أبعاداًّ ثقافيّة وسياحيّة واقتصاديّة، ساهمت في تكريس الرمز، ومن ثمّ استخدام القلعة في تكريس الهوية اللبنانية، الحديثة النشأة، والتي واجهت صعوبات عديدة لرسم تاريخها المستقلّ عن الجوار، ولم يكن الأمر ليجري في مسار عفويّ، إنما هو قرار اتخذته الدولة اللبنانيّة، لبلورة صورتها وتاريخها، وخصوصيّتها، ومن هنا كان الدعم المادّيّ لتلك المهرجانات، وغيرها من الأعمال الفنّيّة، الفولكلوريّة، والأشغال الحرفيّة المتقاطعة مع التطريز والفخّار والقصب وغيرها.
لكنّ مع وصول الحرب وسقوط الفكرة، كلّ هذا لم يعد موضع اهتمام جدّي من قبل الوزارات المتعاقبة، غير تبديد الميزانيّات على المحسوبيّات.
لم تردّ الدولة تحيّة بعلبك بأحسن منها، ففي مقابل تلك العظمة الهندسيّة للقلعة، وأعمدتها الشهيرة، وتأكيد البعد التاريخيّ العريق للمنطقة، أهمَلت الدولة منطقة بعلبك الهرمل إنمائياً، حتى تلك الشوارع المحيطة بالقلعة، وكأن قلعة بعلبك مجرّد شكل بصريّ في استديو تصوير، يقف أمامه السائح لتلتقط له الصور، ثم يستكمل جولته في مناطق ثانية، دون التفات إلى البنية التحتيّة السيّئة، والبنية الفوقية المهمَلة، وهو أمر يعود إلى الانقسامات الحادّة في رؤية ومشروع ودور هذا البلد الذي يحتلّ مساحة خجولة من الخارطة.