قلعة “دوبيه” المنسيّة في الجنوب شاهدة على التاريخ والحروب
على رغم أنّها مهملة ومنسيّة ومغيّبة عن الخارطة السياحيّة اللبنانيّة، إلّا أنّ لقلعة “دوبيه” الجنوبيّة الواقعة بين بلدات حولا وميس الجبل وشقراء، مكانة راسخة في ذاكرة ووجدان أبناء القرى المحيطة بها، خصوصًا شقراء وحولا وميس الجبل والمجدل (مجدل سلم) وغيرها، يتناقلونها جيلًا بعد جيل، من أجداد الأجداد وحتّى الأبناء والأحفاد، فهي محطّ نزهاتهم ورحلاتهم، ومسرح دبكاتهم واجتماعاتهم وفرحهم، وأيضًا ملهمة شعرائهم لا سيّما شعراء شقراء من آل الأمين، حيث نظموا قصائدهم هناك، تغنّوا فيها وببنيانها وتاريخها، واحتضانها لفتوّتهم وأيّام مرحهم، وعشقهم ولقاءاتهم.
على أنقاض رومانيّة
القلعة هي جزء من سلسلة قلاع عاملية صليبيّة، مثل قلاع شمع وأرنون (الشقيف) وتبنين وهونين وديركيفا وغيرها، والتي يمرّ بها الذاهب إلى فلسطين من جهات النبطيّة أو صور أو صيدا، حيث كانت ترتبط هذه القلاع ببعضها البعض عسكريّاً، وكانت توقَد النار على أبراجها كإشارة للقلاع الأخرى عند وقوع خطر ما.
تتميّز قلعة “دوبيه” عن أيّ قلعة أخرى، أنّها تقع على التلّة الأقل ارتفاعاً من بين التلال المحيطة فيها، لذلك يُرجّح أنّ مهمّتها كانت دفاعيّة إسناديّة، أو ككمين متقدّم للعابرين في وادي السلوقيّ، الذي يعتبر امتداداً لوادي الحجير، وهو ممّر إجباريّ لقاصدي فلسطين، من جهة صور وصيدا وبالعكس.
كما يُرجّح أنهّا استعملت للتدريب، والإقامة الطويلة والتجمّع وتخزين المؤن والسلاح والمياه، ويستدلّ على ذلك، ممّا تحتويه من غرف وآبار وأجران مياه وباحات، وهي محاطة بأودية عميقة من جهتيّ الشرق والشمال والغرب، وتتّصل بما حولها من أرض فقط من جهة الجنوب.
التسمية والمواصفات
أصل تسميتها يُرجّح أنّه مشتقّ من “دو بويون” وهو أحد القادة الصليبيّين (فرنسوا دو بويون) الذين أقاموا فيها. يبلغ طول بناء القلعة66 مترًا، وعرضها 36 مترًا، وكانت تتألّف من ثلاث طبقات بقي منها طبقتان. بُنيت قلعة “دوبيه” على أنقاض مبنى رومانيّ، يظهر ذلك من خلال حجارتها الصخريّة الضخمة في الأسفل والتي تصبح أصغر حجماً في الأعلى.
بناها الصليبيون على الأرجح بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وأضيف إليها ما أضيف في عهدي المماليك والعثمانيّين. كما جدّد بناءها آل علي الصغير في عهد ناصيف النصّار، ومنهم الشيخ ظاهر ابن أخ ناصيف النصار، ويُقال أنّه بعدما أتمّ بناءها صعد إلى أعلاها ووقع ومات سنة 1163 هجرية.
تضمّ القلعة ساحة داخليّة مفتوحة على السماء بطول 16 مترًا وعرض 10 أمتار، على الأرجح كانت تستعمل للتدريب والتجمّع وللاستراحة. وتضمّ أيضًا عشرات الغرف والقاعات، منها اسطبلات للخيل وقاعات لرمي السهام، فيها فتحات تسمح للرامي بأن يرى ولا يُرى، وفيها مخازن للمؤن وأخرى للأسلحة، أماكن استقبال واستراحة ونوم، ومطابخ، أبراج للمراقبة، وخزّانات مياه تكفي لفترات من الحصار.
أبراج وسور وآبار
في القلعة أبراج للمراقبة والدفاع، يتمّ الوصول إليها عبر أدراج، منها درج يسمّيه الأهالي “درج العبيد” وهو ضيّق وشبه عموديّ، وسقفه قليل الارتفاع ومعتم، بحيث يصعب على المهاجمين صعوده إذا أرادوا مهاجمة المرابطين على البرج. وكذلك معظم الأبواب والمداخل ضيّقة وقليلة الارتفاع، بحيث يضطرّ الداخل إلى الانحناء فيسهل قتله من قبل المدافعين في الداخل .
في القلعة أبراج للمراقبة والدفاع، يتمّ الوصول إليها عبر أدراج، منها درج يسمّيه الأهالي “درج العبيد” وهو ضيّق وشبه عموديّ، وسقفه قليل الارتفاع ومعتم، بحيث يصعب على المهاجمين صعوده إذا أرادوا مهاجمة المرابطين على البرج
تتميّز القلعة بأقبيتها الجميلة وقناطرها العالية والمتراكبة بشكل هندسيّ مميّز. ويوجد فيها غرفة يسمّيها الأهالي غرفة التعذيب أو السجن، وأخرى تسّمى المشنقة. كما يوجد فيها لجهة الشمال كنيسة واضحة المعالم. أمّا حول القلعة فيمتدّ سور بيضاويّ بعرض مترين ونصف المتر، وارتفاع مترين يفصل بينه وبين القلعة خندق بعرض يراوح ما بين 10 و15 مترًا، ويبلغ طول هذا السور 259 مترًا.
على مقربة من القلعة يوجد بركة كبيرة مربّعة، محفورة في الصخر، يتمّ النزول إليها بدرج، تبلغ مساحتها نحو مئة متر مربّع، ومعروفة لدى الأهالي باسم “الصهريج”، وتبعد عن القلعة قرابة مئة متر. كما يوجد حول القلعة وخصوصًا من جهة الجنوب عدّة آبار محفورة في الصخر، عمق بعضها يصل إلى 15 مترًا، تتّسع في أسفلها لتصل أحياناً إلى 59 متراً مربّعاً، وتضيق في أعلاها لتكون فتحتها دائريّة قطرها من متر واحد إلى مترين اثنين، وتتّخذ البئر بذلك شكل الإجاصة وهذه الطريقة معتمدة في الآبار القديمة في جبل عامل.
كما توجد بعض الأجران الصخريّة الدائريّة، يصل قطر بعضها إلى أكثر من مترين اثنين تشرب منها الخيل أو الماشية، كما يوجد حولها مدافن ومغاور محفورة في الصخر.
إهمال ونسيان ومحاولة ترميم
تشكو القلعة حاليّاً الإهمال والنسيان، وليس لها ذكر رسميّ بين الأماكن السياحيّة والأثريّة في لبنان، وهي بذلك تنهار تدريجيّاً حيث ينبت العشب وشجر البطم في أعالي جدرانها، إضافة إلى ما أصابها من تهديم على مدى السنين، جرّاء الاعتداءات الاسرائيليّة وعبث العابثين.
جرت محاولات لترميم القلعة وتنظيفها من قبل بلديّة شقراء، وذلك بالتعاون مع قوّات اليونيفيل. وقام معهد الشرق الأدنى للآثار التابع للدولة الفرنسيّة سنة 2012 بأوّل دراسة تاريخيّة وعلميّة جدّيّة، ومسح آثريّ وطبّوغرافيّ للقلعة، تمهيداً لبدء حفريّات أثريّة علميّة فيها، ولكنّ العمل لم يكتمل لنقص التمويل وظروف البلاد، وكان ذلك بالتعاون بين وزارة الثقافة اللبنانيّة والسفارة الفرنسيّة في بيروت وبلدية شقراء.
ولا يزال الأمل موجوداً بأن تأخذ هذه القلعة ما تستحقّه من اهتمام بعد أن تهدأ الأوضاع الأمنيّة جنوباً، لكنّ القلعة تعرّضت عشرات المرّات للقصف الإسرائيليّ، ممّا أدّى إلى تهدّم جزء كبير منها، وزادت عوامل الزمن والطبيعة من تهالكها.
القلعة وذاكرة الجوار
للقلعة مكانة مميّزة في وجدان وذاكرة أبناء القرى التي تجاورها. وهناك كثير من الحكايا والذكريات والعادات مرتبطة بالقلعة ومكانها، منها ما كان يقوم به الشباب من تحدّ لبعضهم البعض، حول من لديه الجرأة بالذهاب والدخول إلى القلعة ليلاً وحده، والعودة مع ترك علامة أنّه دخلها نظراً لبعدها في حينه عن القرى، ووعورة مسلكها وما يحاك حولها من حكايات وأساطير.
للقلعة مكانة مميّزة في وجدان وذاكرة أبناء القرى التي تجاورها. وهناك كثير من الحكايا والذكريات والعادات مرتبطة بالقلعة ومكانها، منها ما كان يقوم به الشباب من تحدّ لبعضهم البعض، حول من لديه الجرأة بالذهاب إلى القلعة ليلاً وحده
على رغم ذلك، سكن القلعة قديماً أشخاص من آل الفوعاني، ثم سكنتها عائلة من آل الأمين مدّة من الزمن. مع العلم أن غالبيّة ملكيّة الأرض حول القلعة، تعود لآل الأمين.
نزاع عقاري
حاليّاً يوجد نزاع عقاريّ بين بلدات شقرا وحولا وميس الجبل، حول تبعيّتها عقاريّاً، ولأيّ بلدة من هذه البلدات، لا سيّما أنّ حولها مساحة كبيرة من الأرض تسمّى أرض “دوبيه”، وقد كان يزرعها قديماً وحتّى اليوم أبناء حولا بالضمان من مالكيها آل الأمين.
تشكّل القلعة ومحيطها مقصداً لراحة ونزهة أبناء الجوار مع ما يجاورها من معالم طبيعيّة مثل “وادي السلوقي” وقطعة أرض منبسطة وجميلة قربها تدعى” البطانة” لكثرة شجر البطم أو البطن فيها، وكذلك “وادي الملّول” المليء بشجر الملّول والسنديان وأرض أخرى قبالتها شرقاً، لجهة بلدة حولا تسمّى “مرج الستّ” وهي هضبة جميلة لها منظر رائع خصوصًا في الربيع .
قالوا في القلعة
وقد أنشد فيها شعراً العلّامة السيد علي محمود الأمين:
قفا نسأل عن الحصن المشيّد
وعمّن حلّ فيه من جنودِ
لقد طال السُّهى شأواً وفخراً
بمن علّاه ذي البطش الشديد
إلى أن يقول السيّد علي محمود:
قصورٌ أُحكمت صنعًا ففاقت
على بُنيان عادٍ أو ثمودِ
وكم فيه من مراصد للأعادي
تصدُّهم من المرمى البعيد
إذا ما سدّدوا منها سهامًا
أصابوا القوم من رأيٍ سديد
وقصيدة للسيّد هاشم عبّاس وردت في خطط جبل عامل:
يا قلعةً شمخت حُسْنًا وبنيانا
على القلاع سقاك المزن هتانا
أصبحت ألطف مصطاف ومرتبعٍ
وخير ملهى يردُّ الطرْفَ حيرانا
هذي ربوعك قد حاك الربيع لها
مطارفًا طرزتها السُحب ألوانا
وقال فيها المرحوم الشاعر الشيخ محمّد المزرعاني:
وإذ قلعة منسيّةٌ وقفت
عبر القرون ولم يبلَ بها حجرُ
وكم تعاقب في تاريخها بشرٌ
لم يبقَ منهم على ساحاتها أثر
أكبرتُ من أسّسوا في سفح رابيةٍ
أسطورةً تزدهي في فنها العُصُرُ
باتت كحارسٍ للواد ترقبه
عبر السنين لمن في عمقه عبروا..