“قلعة عاد” في مقنة.. حلم إبن 8 سنوات بناه في 20 عاماً بمفرده
غالباً ما تنمو الأحلام على ضفاف الكتب وحول مقاعد الدراسة. هذا ما قرأناه عن طلاب كثر تحوّلت أحلامهم إلى حقيقة، وهذا ما حصل مع إبن بلدة مقنة البقاعية عاد المقداد، الذي وُلد حلمه من رحم تلك المقاعد ومن كتب التاريخ. الأحلام تكون حينها طرية العود كأصحابها حيث كان عاد تلميذاً في الصف الثالث أساسي، عمره لم يتجاوز الثماني سنوات.
عاد الذي رفض أن نضع صورة له في المقال، بنى من قصص الرومان واليونان في مخيلته المدماك الأول لقلعته التي ستصبح حقيقة بعد عقود من الزمن. زاده في ذلك مرافقته الدائمة لوالده الذي كان يهوى الآثار ويجمعها. العمر الصغير والإمكانات المادية المتواضعة والظروف الصعبة، حالت جميعها دون البدء بتنفيذ الفكرة لكنها ظلّت متوهجة في خيال عاد لا تفارقه.
من مقنة إلى بيروت ومنها إلى صيدا فالنبطية ومن ثم العودة إلى مقنة، رحلة نزوح عاشها عاد واستمرت حوالى ١٥ عاماً، رفيقته الدائمة في تلك الرحلة كانت القلعة وصورها ورسوماتها الورقية. العام ٢٠٠٣ كان مفصلياً في مسيرة قلعة عاد، حيث قام ببناء جسر خشبي للمشاة بطول ١٠ أمتار كان بمثابة جواز سفر ومرور لكي تعبر قلعته من الحلم إلى عالم الحقيقة.
قلعة عاد.. حجر حجر
تقع قلعة عاد في بلدة مقنة في البقاع الشمالي على بعد ١٠٠٠متر عن الطريق العام على الجهة اليمنى من طريق الكنيسة. تبلغ مساحتها ٢٠٠٠ متر مربع، أي ما يُعادل ٢ دونم.
شغفٌ كبير بكل تفصيل تلمحه في عيني عاد، وهو يتحدث عن قلعته، كيف لا؟ وقد بناها حجراً حجراً وحده من دون عامل أو مساعد، لكل حجر حكايته وهويته بالنسبة لعاد، الذي يستذكر رحلة شاقة ومضنية في البحث عن حجارة القلعة في الخُرب والخشاخيش والمقابر الرومانية القديمة على امتداد السلسلة الشرقية.
عاد الذي يعمل في مجال “التوريق والباطون” ليكسب قوت يومه، كان سخياً جداً مع قلعته، وكان يوزع مدخوله مناصفةً بين القلعة وعائلته، وأحياناً تميل كفة التوزيع لصالح القلعة فيحرم عائلته لأجل ذاك الحلم.
عاد ليس مهندساً مدنياً، ولكن إرادته الصلبة وتصميمه كانا كفيلين بأن ينجز قلعة وأعمدة وقناطر تحتاج قياسات هندسية يعجز المتخصصون عن وضعها. يقول عاد كنت أعمل لفترات متواصلة، في “التوريق” صيفاً، وفي الشتاء حيث يتوقف عملي أتفرغ للعمل في القلعة، مضيفاً كنت أجمع أحجار الصوان والحوّار والكدّان والأحجار السوداء التي يفوق تاريخ بعض حجارتها الـ ٤٠٠٠ عام وما فوق من خربة تدعى الكروم والتي تبلغ مساحتها مساحة مقنة، ومن الآبار والخشاخيش، والحجر الأسود من قاموع الهرمل، ومن مكبات رأس العين والكيال حيث تُرمى الردميات.
حرم القلعة
بعد الجسر الخشبي، يقول عاد إنه باشر ببناء برج مع مروحة هوائية خشبية تبعد عن الجسر حوالي العشرين مترًا. هذه المروحة أيضاً هي عمل يدوي شكلت ما يشبه “قهوة” يتجمع فيها الأهالي والزوار، بالإضافة إلى غرفة مسقوفة بشجر اللزاب، في زاويتها موقدة. ويلفت عاد إلى أنه صمّم أبواب قلعته بارتفاع مترين وخمسين سم، مصنوعة من الخشب وتفتح بواسطة الجنازير.
على مدى أعوام طويلة كان عاد يجدد في قلعته، أحيانًا يهدم ويعيد البناء مطوراً فيها، وأحياناً أخرى يستكمل العمل مضيفاً عليها، حتى وصلت اليوم وبعد ١٨ عاماً من العمل إلى ما هي عليه.
للقلعة في الوقت الحالي ثلاثة مداخل، إثنان شماليان، وآخر جنوبي، وهي عبارة عن مجموعة من الأجنحة، الجناح الأول مؤلف من طابقين، الأول هو الغرفة التي بدأ عاد العمل بها وطورها إلى مجموعة من الغرف، والطابق الثاني هو عبارة عن متحف بمجموعة من القناطر جمع فيه عاد كل أشيائه التراثية القديمة، أما بابه فهو من الحديد الملبس بالحجر…، وسطحه عبارة عن مجموعة من الأبراج العالية، أما الجناح الثاني فيضم بيتاً صغيراً من التراب والطين، وهو بيت الأهل الذي حافظ عليه عاد ورمّمه، والجناح الثالث عبارة عن ديوان في الطابق السفلي يضم الكثير من الأواني الفخارية، والنحاسيات والطاولات المرصعة بالأحجار، أما الطابق العلوي الذي يعمل فيه عاد حالياً، يعقد النية أن يأخذ شكل قصر، حيث يربط عاد هذا الجناح بالجناح المقابل عبر جسر تحته قناطر، بالإضافة الى الدهاليز والأنفاق.
عمل شاق وجبار
بناء القلعة ليس بالأمر السهل، هو عمل أقل ما يقال فيه بأنه جبّار، من عملية جمع الحجارة ونقلها من مكانها إلى مكان القلعة ومن ثم تحضيرها لكي تأخذ موقعها في عملية البناء. يذكر عاد أنه في خربة الآثار كان يحمل الحجر ويمشي أحيانًا مسافة الستين متراً لكي يصل إلى الآلية التي ينقل فيها الحجارة. يصف عاد ذلك العمل بالشاق والمتعب، خصوصاً عندما يكون الجو ماطراً ومثلجاً ويسوده الضباب، لكن في الوقت نفسه يقول عاد إنه مفرح حيث كان يشعر أنه بعد العناء وجد ما كان يبحث عنه.
بناء القلعة لا يُعتبر وحده سرّ جمالها، الطبيعة أيضاً ساهمت ولعبت لعبتها في محاكاة الحجارة حيث زادت من رونقها، فحديقة القلعة تحتوي على العديد من الأشجار المعمرة، شجرة سنديان عمرها حوالي ١٥٠ عاماً، وما يقارب العشرين شجرة زيتون تتراوح أعمارهم ما بين ٧٠ عاماً والمئة عام، بالإضافة إلى بئرين لتجميع المياه صُمما على الطريقة التقليدية القديمة.
لم يكتفِ عاد ببناء القلعة إنما قام بتجميع الأواني الفخارية والمحاسبة القديمة، والقطع النادرة كالدرّاية ومعصرة الزيتون، وعدة الفلاحة من الرفوش والمجارف والشوك والشواعيب والمورج والغرابيل والمسارد والمناجل التي يبلغ عددها ٢٢ منجلاً. والأخيرة لها حكايتها كما يروي عاد، فقال إن والده كان كلما وُلد له طفل يشتري له منجلاً للعمل، بالإضافة إلى مكونات خياطة وأجهزة تلفزيون قديمة وراديو قديم، ناهيك عن النبل والسهم وأسرجة الخيل والعربات الخشبية والعديد من الأشياء القديمة التي جمعها واشتراها عاد.
سياحة بلا مردود
للقلعة زوّارها من كل مكان، من البقاع ومن لبنان، وحتى من دول عربية وأجنبية، من الصين والسويد وأميركا. يزورون القلعة ويتجولون في أنحائها، ولكن عاد لم يجعل منها حتى الآن مشروعاً تجارياً، فالزائر يتجول داخل القلعة بلا مقابل، مع العلم أن تكلفتها عالية جداً. يقول عاد أنه لم يقدر هذه التكلفة، وقيمتها بالنسبة إليه معنوية وليست مادية، هي مجهود شخصي لما يقارب العشرين عاماً دون مساعدة من أي جهات رسمية ومحلية لافتاً إلى أن الطريق الذي يؤدي إلى القلعة لا زال ترابياً ولم يتم تعبيده من قبل المعنيين.
أربعون عاماً هو عمر الحلم الذي صار حقيقة إسمها قلعة عاد في بلدة مقنة البقاعية. الأحلام غالباً تسبق الحقيقة فتحيلها الإمكانيات المحدودة إلى أماكن تحفظها طي المخيلة. لكن إرادة عاد وعزيمته حققا جزءاً من حلمه الذي سيبقى ذكرى ماثلة للعيان خالدة على مر العصور.