قوى الاعتراض في بعلبك – الهرمل.. أنت مهزوماً وأنت تقاوم
لم يكن لدي ولا لدى أي مرشح للانتخابات النيابية في بعلبك-الهرمل أي برنامج سياسي، وأطرح نفسي كحالة اعتراضية في المنطقة منذ أول ترشح لي عام 1992 وأنا أرتكز على الطروحات الإنمائية. هكذا يوصّف المرشح شبه الدائم للانتخابات النيابية فادي يونس (1992-2018) حالة الاعتراض في البيئة الشيعية البعلبكية.
فالبوصلة الإنمائية هي التي كانت تحدد خيارات الاعتراض في هذه البقعة الجغرافية شمالي بقاع لبنان الذي ألف فقدان الخدمات وطوّع طموح قاطنيه بـ”طريق معبّدة”، وراتب شهري، أو حتى تسوية مخالفة بناء.
وفي هذا الإطار، يكشف يونس الذي عزف عن الترشح في دورة أيار 2022، بسبب الطابع الهجين للقانون الانتخابي ذات الطبيعة التغليبية للقوى المسيطرة طائفياً، أنه كان يفرح بمنافسة النائب السابق يحيى شمص على تعبيد طريق أو تقديم خدمة إنمائية لهذه البلدة أو تلك، حسب قوله.
إنطلاقاً من هذا الواقع البسيط يعتبر يونس “أن ملف المقاومة لم يكن يوماً مادة سجالية في منطقة ألفت النضال من أجل التحرر من كل الإحتلالات منذ العثمانيين مروراً بالفرنسيين وصولاً إلى الإحتلال الإسرائيلي”.
ففي العام 1919، إنضم البعلبكيّان حسين حيدر وصالح حيدر إلى الجمعية العربية الفتاة، إثر اندلاع الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي. وعام 1925 لبست بعلبك عباءة المقاومة، فكان كل من توفيق هولو حيدر وأبو علي ملحم قاسم المصري رمزين لمقاومة الاستعمار سواء بشكليه العثماني والفرنسي.
والحال، سيرة هذه المنطقة مع المقاومة تطول. منذ الإستقلال مرورًا بنكبة عام 1948 وصولاً للحرب الأهلية اللبنانية وتأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية عام 1982 وصولاً إلى حالة انكفاء المقاومة العابرة للطوائف مع بروز أفواج المقاومة أمل ثم حزب الله كفصيل شبه أوحد على الساحة الشيعية البعلبكية.
في الشق التداخلي بين المقاومة العسكرية والاستثمار السياسي، نجح “حزب الله”، كون حركة أمل ضعيفة جداً وحضورها رمزي، في شد عصب البعلبكيين من خلال وصف أمين عام حزب الله حسن نصرالله منطقتهم بخزان المقاومة، ففي هذه البيئة العاطفية الذي تراجع فيها مد الأحزاب العلمانية كرّس الحزب نفسه لاعبًا أساسيًا بعد الانسحاب السوري من لبنان عام 2005، وتدحرجت كرة تضخمه الشيعي مع حرب تموز 2006 وصولاً إلى معركة الجرود عام 2017 التي شكلت أرضية خطاب حزب الله الانتخابي سنة 2018.
في العام 1919، إنضم البعلبكيّان حسين حيدر وصالح حيدر إلى الجمعية العربية الفتاة، إثر اندلاع الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي. وعام 1925 لبست بعلبك عباءة المقاومة، فكان كل من توفيق هولو حيدر وأبو علي ملحم قاسم المصري رمزين لمقاومة الاستعمار سواء بشكليه العثماني والفرنسي
أبعاد سيطرة الحزب
هذا الواقع، يطرح السؤال حول مصير المعركة الانتخابية المزمع عقدها في شهر أيار المقبل ربطًا بالمعارك الانتخابية التي حصلت منذ عام 1992.
يرى الباحث الاجتماعي د. فؤاد خليل أن قوانين الانتخابات المتعاقبة منذ أول انتخابات نيابية بعيد الحرب الأهلية اللبنانية عام 1992، وصولًا إلى عام 2009 التي كانت تتم وفق القانون الأكثري، ركزت سطوة القوة المسيطرة على دوائرها الانتخابية، بحيت وُضع القانون ليخدم كل أكثرية طائفية، ومنها الدائرة الانتخابية المتمثلة بالشيعة المتأطرين عاطفياً ببيئة “حزب الله” في بعلبك الهرمل.
ما هي الأكثرية الطائفية؟
يُعرّف خليل الأكثرية الطائفية بأنها “كُتلة صمّاء صلبة” تجعل مرشحيها يفوزون بالانتخابات، كما تجعل من المرشحين على لوائحها من طوائف أخرى يفوزون شرط أن يكونوا متماهين وطروحاتها السياسية. وفي التقسيم الطائفي لممثلي بعلبك الهرمل في الندوة البرلمانية فإن هذه الدائرة تضم 6 نواب شيعة تختارهم الكتلة الصماء الصلبة، إضافة الى 2 سنة، 1 ماروني 1 كاثوليكي.
وعلى الرغم من أن الطوائف الأخرى تتمثل في المنطقة، إلا أن الشيعة المحظيين بالنسبة الأكبر في الدائرة هم من يختاروا كل نواب الدائرة، بمعنى أن النظام الأكثري الطائفي وفق خليل، يخدم الكتلة الطائفية في الدائرة ومن معها خاصة في ظل انعدام وجود أكثرية سياسية أو طائفية تستطيع منافسة الكتلة الطائفية ذات الأكثرية الشيعية في المنطقة.
يفصّل خليل الواقع منذ انتخابات 2018، التي تمت على أساس قانون انتخابي نسبي هجين يجمع ما بين النسبية والطائفية، ويقول “في حال استطاعت لائحة منافسة أن تحقق حاصلاً انتخابيًا يتيح لها الدخول إلى الندوة البرلمانية، يطغى في التمثيل الصوت التفضيلي الطائفي وتصبح كل كتلة طائفية صماء تصوت لمرشح الطائفة الأقوى، الأمر يكرس الثنائي الشيعي وتحديدًا حزب الله ذات السطوة شبه الأحادية في بعلبك الهرمل أكثر وأكثر”.
ويعطي خليل مثالاً على انتخابات عام 2018 التي أحدثت خرقين في المنطقة، وهما الماروني طوني حبشي والسني بكر الحجيري نتيجة تحالف كتلتين صماوتين سنية ومارونية تحالفتا مع وزن شيعي نسبي معارض في حينها (يحيى شمص)، بيد أن الشيعي لم يخترق لخروجه عن كتلة طائفته الصماء (الشيعة مع الثنائي).
ويتطرق خليل إلى إعادة تسمية حزب الله للمرشحين ذاتهم قائلاً “إن الإسلام السياسي يستعصي على التغيير كون فكره سكوني لا يتقبل المثقف النقدي داخل صفوفه كون مثقفه مطواع تلامس أيديولوجيته رتبة المقدس بمعنى أنه يتماهى والجمود حتى داخل جمهوره المؤدلج”.
د. خليل: الإسلام السياسي يستعصي على التغيير كون فكره سكوني لا يتقبل المثقف النقدي داخل صفوفه كون مثقفه مطواع تلامس أيديولوجيته رتبة المقدس بمعنى أنه يتماهى والجمود حتى داخل جمهوره المؤدلج
بالأرقام…
في انتخابات عام 2018 كان التنافس الجدي قي بعلبك الهرمل يقع بين كل من لائحة الثنائي الشيعي (الأمل والوفاء)، ولائحة تحالف القوات، المستقبل والمرشح الشيعي يحيى شمص (الكرامة والإنماء).
حصلت لائحة الأمل والوفاء في تلك الدورة على 140,747 صوتاً، أما لائحة الكرامة والإنماء فحصلت في تلك الدورة على 35,607، فيما بلغ الحاصل الانتخابي 17,705.5 صوتاً.
وعليه فازت لائحة الثنائي بثماني مقاعد فيما اخترق الاعتراض بمقعدين واحد سني وآخر ماروني. وفي هذا الإطار، يرى الخبير الانتخابي عمار عبود أنه استناداً إلى لغة الأرقام يتبين أن الخاصرة الرخوة لـ “حزب الله” هي في المقعدين الماروني والسني بينما شيعياً يبقى الحزب هو الأقوى إذ يستطيع تجيير الأصوات الشيعية بمن يشاء من مرشحيه ضمن الطائفة. موضحاً أن النائب جميل السيد (الشيعي)، عندما أراد الحزب تعويمه حصل على أعلى نسبة أصوات 33,223 مقابل 6,658 صوت للمنافس الشيعي الأول يحيى شمص. أما مارونياً، فقد حصل إميل رحمة المدعوم من الثنائي فقط على 3,861 صوتاً مقابل حصول مرشح القوات انطوان حبشي على 14,858 صوتاً.
من هنا يعتبر عبود أن الصوت الشيعي المعترض في بعلبك- الهرمل هو رافعة تدعم المرشحين غير الشيعة، فيما تبقى الكتلة الطائفية الأقوى اعتراضاً هي المارونية.
ويشدد عبود أنه في حال أراد الاعتراض أن يخرق الثنائي فالأجدى له تكثيف الأصوات التفضيلية نحو غير الشيعي الذين يتصدرهم بالقوة الماروني ويخلفه السني ثم الكاثوليكي.
البعد الأجتماعي لتمدد “حزب الله” في بعلبك الهرمل
يعي حزب الله جيداً مدى الترابط بين السياسة والاقتصاد، فعلى قاعدة أن المسيطر اقتصاديًا، يسيطر سياسيًا، تمدد حزب الله في قرى بقاع الفقر الشمالي. إذ يشير المرشح المعارص د. أسامة شمص إلى بدايات انتشار حزب الله في القطاع الاستشفائي والخدماتي، من خلال تأسيس مستشفى البتول في الهرمل وتولي إدارة المستشفى الحكومي إضافة إلى بروز مؤسساتهم الخدماتية كجهاد البناء والتسليفية كالقرض الحسن إلى أن وصلوا ببيئتهم إلى حدود الاكتفاء الذاتي فأصبح لديهم بنية مؤسسية تعطي الرواتب لأبناء المنطقة.
قوة الحزب في ضعف الخصوم
لا ينكر شمص أن المناخ البعلبكي ناقم على أداء الثنائي لكن الخلل يكمن في غياب البديل القوي ما يشي بأن المقاطعة ستزيد عن الأربعين في المئة في دورة أيار. ويأسف شمص الذي يترشح ممثلاً مجموعات من الأطباء والصيادلة والعاملين في المجال الصحي أن “تشرذم الحالة الاعتراضية ستمنع الاختراق”.
د. شمص: حزب الله سيحصل على أصوات البعلبكيين “بالعاطفة” من خلال الحصول على أصوات أبناء القرى المتاخمة للجرود التي تحررت من القوى التكفيرية مثل اللبوة والهرمل
وفي التحليل السياسي لقوة حزب الله، يلفت شمص إلى أن الحزب سيحصل على أصوات البعلبكيين “بالعاطفة” من خلال الحصول على أصوات أبناء القرى المتاخمة للجرود التي تحررت من القوى التكفيرية مثل اللبوة والهرمل.
وعلى مقلب آخر، يرى شمص أن من مساوئ القانون النسبي منع وجود مرشحين منفردين لأن الترشح ضمن لائحة سبب بنيوي يمنع المستقلين الذين لا يتوافقون مع اللوائح الموجودة من إبداء تطلعاتهم المستقلة إضافة إلى الطابع الطائفي للصوت التفضيلي.
تشتت قوى الأعتراض
المعلوم حتى الآن وجود نواة ثلاث لوائح معارضة لحزب الله (لائحة مدعومة من شربل نحاس، إئتلاف قوى التغيير، ولائحة تحالف القوات اللبنانية مع الشيخ عباس الجوهري)، فضلاً عن حديث جدي يتمحور حول إمكانية تشكيل لائحة من شخصيات عشائرية.
وتثير كثرة اللوائح الاعتراضية، سخط شمص الذي ينتقد ذوي القربى من الحالات الاعتراضية، معتبرًا غياب الإطار الثوري الذي يواجه حزب الله في بعلبك الهرمل جزءًا من قوة الشيعية السياسية. علماً أن ادعاء الثورية في ظل غياب حركة تحمل نظرية ثورية وبرنامج جامع يعني أن الاعتراض سيبقى فرديًا، وفق شمص، الّذي يشدد على ضرورة العمل مستقبلاً على توحيد الاعتراض ضمن مشروع فكري تنظيمي جبهوي موحد يؤسس لاختراق البنى الطائفية بشكل جدي.
في الشق الأكاديمي
بدورها ترد أستاذة العلوم السياسية د. فاديا كيوان، سيطرة الثنائي الشيعي على التمثيل البعلبكي في المجلس النيابي إلى تعدد المواقع الاعتراضية في هذه الدائرة وعدم قدرتهم على تجميع قواهم بوجه ثنائية حزب الله وحركة أمل. فالثنائي الذي نجح في خلق تلاحم فيما بينه وحّد مشروعه السياسي واستطاع خلق حالة قوية فاعلة أمام معارضيه بعكس قوى الاعتراض المتشرذمة في مجموعات، كلاً منها يطرح نفسه بديلاً سياسياً.
وترى كيوان أن أولوية مجموعات الاعتراض في هذه الدائرة يجب أن تكون خرق لائحة الثنائي وهذا يتم من خلال تغليب التحالفات الانتخابية التي تجلب حواصل انتخابية وأشخاص أقوياء يحصلون على أصوات تفضيلية.
وهذا الأمر بحسب كيوان يجب تفعيله من خلال توحيد الجهود الاعتراضية أولاً ووضع معايير علمية وتحكيمية لتحديد الأشخاص الذين يحققون أعلى نسبة أصوات للمعارضة وذلك بتحالف متين مع الأصوات العشائرية المعترضة ذات القوة في وسطها.
وتؤكد كيوان أن تعدد اللوائح وتشتت قوى الاعتراض بالشكل التي هي عليه يجعل من الاختراق أمرًا متعذرًا جدًا.
البعد الاقتصادي
بحسب الخبير الاقتصادي جان طويلة فإن “حزب الله بكل مكوناته هو خارج تركيبة الدولة اللبنانية، حيث يملك مؤسساته الاقتصادية والاجتماعية والصحية الخاصة به من مؤسسات تعاونية، مستشفيات، محطات محروقات وسواها”. ويعتبر طويلة أن اقتصاد الحزب يشكل ركيزة الاقتصاد الموازي الخارج عن المؤسسات الدستورية المالية اللبنانية.
واستناداً إلى أرقام صندوق النقد الدولي، يلفت طويلة أنه قبيل العام 2019 كانت نسبة الاقتصاد الموازي تشكل 35 %، أما بعد عام 2019 تحول الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي بشكل شبه كامل ما يسمح لتنظيم “حزب الله” ببسط سيطرته على حركة الاقتصاد بشكل عام والتحكم ببيئته بشكل خاص كون هذا الحزب يتمتع بقدرات كبيرة على مستوى الأموال النقدية.
وإذ يشدد طويلة على أن الاقتصاد اللبناني اليوم صار مشابهاً لـ”حزب الله”، يلفت إلى أنه على الرغم من تأثير ذلك على عزل لبنان عن الاقتصاد العالمي، إلا أن حزب الله يستفيد من ذلك ببسط يده على لبنان وفرض سيطرته على بيئته من خلال السيطرة الاقتصادية التي تتحول حكمًا إلى سيطرة سياسية على بيته بشكل عام ومنطقة بعلبك-الهرمل بشكل خاص التي يعتاش غالبية أهلها من دورة الحزب الاقتصادية نتيجة تغليب الدويلة على مفهوم الدولة”.
وفي هذا السياق، يشير طويلة أنه منذ أن أصبح اقتصاد لبنان يشبه اقتصاد الحزب الموازي أصبح الأخير ممسكاً بمقومات حياة الناس، حتى أنه تعدى في ذلك الأمور المعيشية بل فرض طرائق تعليمية حتى في المدارس الرسمية وبالتالي أصبح كل محيطه مؤدلج بما يصب في خانة التوظيف الانتخابي.
طويلة: أصبح اقتصاد لبنان يشبه اقتصاد الحزب الموازي أصبح الأخير ممسكاً بمقومات حياة الناس، حتى أنه تعدى في ذلك الأمور المعيشية بل فرض طرائق تعليمية حتى في المدارس الرسمية وبالتالي أصبح كل محيطه مؤدلج بما يصب في خانة التوظيف الانتخابي
وفي ظل الانهيار المعيشي والاقتصادي الذي يضرب معظم اللبنانيين “استنفر” حزب الله معيشيًا لتحصين بيئته الحاضنة تحت شعار “لن نجوع” الذي سبق ورفعه أمينه العام حسن نصرالله، فنشر في مناطقه تعاونيات كمراكز تسوّق خاصة لمن يحملون بطاقات “السجّاد”، التموينية بحيث يحصل حاملوا هذه البطاقة عى السلع الغذائية بسعر مدعوم لحدود 30 %.
ولا يقتصر تأثير الحزب الاقتصادي على بطاقة السجاد، بل يحظى حاملو بطاقة “نور” المُخصصة للعناصر العسكرية وموظفي “حزب الله” بدعم على السلع، الطبابة، الأدوية والمتاجر. كل ذلك معطوفًا على رواتب المتفرغين والمتعاقدين والعاملين في مؤسسات لمقربين من حزب الله في قرى بعلبك يؤكد أن سيطرة الحزب الاقتصادية على المنطقة توظف حكمًا بالسياسة والانتخابات.
مهزوماً لكنك تقاوم
وعلى الرغم من تشتيت أصوات المعارضة الشيعية في بعلبك والإجماع أن “حزب الله” لن يخرق في هذه الدورة، مثلما حافظ على محدلته الانتخابية منذ أول انتخابات بعد إتفاق الطائف، إلا أن إحباط قوى الاعتراض يعزيها بعضًا من الأرقام الرافضة شكلاً. ففي حال حصول اللوائح المعترضة على 35 % من أصوات المقترعين فهذه دلالة أن هذه النسبة من أبناء المنطقة لا يتوافقون مع سياسة الثنائي الشيعي لكن هذه النسبة لا تصرف في التقريش السياسي طالما أن المعارضة متماهية مع هزيمتها السياسية النابعة عن تشتتها.