كابوس ارتفاع الإيجارات يلاحق النازحين العائدين

من الضاحية الجنوبيّة إلى محافظتي الجنوب والنبطية وبينهما قضاء صور ومناطق أخرى طالها الدمار، ثمّة معاناة مزدوجة يرزح تحتها أصحاب المنازل المدمّرة، الأولى فقدان المسكن والثانية البحث عن سقف ومأوى، يترافق ذلك مع شعور باليأس من أن يجد هؤلاء أنفسهم على قارعة الإهمال وفي حاضرة الفوضى، بعدما كانت لهم بيوت بنوها بتعب السنين. وما يزيد من المعاناة ويفاقمها أنّ قطاع الإيجارات بات استثمارًا مربحًا في وجع الناس، وعلى الرغم من أنّ ذلك كان قائمًا قبل الحرب لكنّه تضاعف بعدها.

صحيح أنّ الطلب يفوق العرض بأشواط عديدة، لكنّ ما يزيد الفوضى هو ألّا ضوابط واضحة ومحدّدة تنظّم سوق الإيجارات، الأمر الذي يُبقي الناس أسرى أهواء المالكين، خصوصًا أنّ هناك أكثر من 100 ألف نازح من الجنوب وحده، فضلًا عن الذين وجدوا أنفسهم بلا بيوت بعد أن دمّرت إسرائيل بيوتهم إثر توسّع رقعة الحرب في كلّ من البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت وأجزاء أخرى من الجنوب تضاعف فيها الدمار بشكل غير مسبوق، حيث إنّ النبطية وما حلّ بها من دمار خير مثال على ذلك.

يواجه النازحون بعدما تفاقم عددهم جرّاء توسّع رقعتي الحرب والدمار، معاناة جديدة، فبعد أن اختبروا نار ارتفاع بدل الإيجارات، وواجهوا استغلالًا لا نظير له في رحلة نزوحهم إبّان الحرب، ها هم اليوم يواجهون استغلالًا آخر، فإحدى الشقق المفروشة في منطقة الكفاءات في الضاحية الجنوبيّة، مكوّنة من غرفتين تمّ تأجيرها ببدل شهريّ بلغ ألف دولار، شريطة تسديد ثلاثة أشهر سلفًا، بينما الشقق ببعض أحياء الضاحية تراوح إيجاراتها بين 1200 و1500 دولار في الشهر الواحد، وفقًا لأحد السماسرة، إذ قال لـ “مناطق نت” إنّ إحدى الشقق المفروشة في مدينة صور وصل بدل إيجارها الشهريّ إلى 3000 دولار.

أجرت “مناطق نت” جولة في أقضية الجنوب لرصد واقع الإيجارات، وذلك من خلال عيّنات كانت لها تجارب في هذا الإطار.

بين النبطية وصيدا

تقول رنا غنوي من بلدة حولا الحدوديّة (مرجعيون) وتسكن في كفررمان (النبطية)، لـ “مناطق نت”: “كنت أبحث عن منزل في صيدا أو قريبًا منها، بعد أن تبلّغت من إدارة عملي في تشرين الثاني (نوفمبر) عن موعد استئناف العمل، إذ كنت قلقة من أن أخسر وظيفتي أو ألّا أتمكّن من متابعة العمل عن بعد، لذلك كنت مضطرّة أن أبحث وزوجي عن بيت قريب، ليتبيّن لي أنّ الإيجارات تراوح بين 700 دولار للشقّة الفارغة و1100 دولار للشقّة المفروشة، مع دفع ثلاثة أشهر أو ستّة أشهر مسبقًا”.

ما كتبته الناشطة رنا غنوي في صفحتها على وسائل التواصل الاجتماعي

بعد وقف إطلاق النار خلت البيوت المستأجرة في مدينة صيدا بنسبة 70 في المئة من شاغليها، وهذا ما أدّى إلى انخفاض مؤشّر الطلب، وأدّى بدوره إلى هبوط أسعار الإيجارات بشكل ملحوظ. وفي هذا الإطار تشير غنوي إلى أنّه “مع إعلان وقف إطلاق النار قرّرت العودة إلى بيتي في كفررمان والعيش فيه مهما كانت الظروف، وإذ بالسمسار عينه يتّصل بي ويبلغني أن صاحب البيت الذي كان يريد 700 دولار في الشهر سيؤجّرني إيّاه بـ 300 دولار، فأجبته لو بـ 100 دولار لم أعد أريده”.

وأضافت: “اليوم، بالصدفة وأنا في مكتبي بشارع (دلّاعة) في صيدا سمعت أنّ هناك بيتًا كان مؤجّرًا بـ 500 دولار واليوم يطلبون 250 دولارًا، وتحديدًا في (شارع محفوظ) خلف (شارع دلّاعة) في صيدا، وأنا ما زلت أساعد الناس في مجال المبادرات، والناس الذين تهدّمت بيوتهم يطلبون منّي مساعدتهم في إيجاد بيوت، ونقوم بنشر إعلانات”.

في كفررمان

عن كلفة الإيجارات في النبطية وكفررمان اليوم تقول غنوي إّنها “تراوح بين 400 دولار و450 دولارًا، علمًا أنّها كانت في الظروف العاديّة لا تتعدّى الـ 200 دولار”. واستغربت غنوي كيف أنّ “النبطية المنكوبة وصلت قيمة الإيجارات فيها إلى 1000 دولار”، وأسفت لأّن “شعبنا لا يتعلّم من أخطائه”.

قضاء صور

من النبطية إلى صور المشهد لم يتبدّل، تقول سارة عليّان من البيّاضة في قضاء صور لـ “مناطق نت”: “تعلمون أنّ بلدتنا شهدت معارك كبيرة، فتهدّمت معظم بيوتها، والبقيّة لا تتجاوز العشرة وهي شبه صالحة للسكن. أمّا بيتنا فقد احترق وتعرّض للقصف ولم يعد صالحًا للسكن، وهو بحاجة إلى الهدم وإعادة بنائه من جديد”. تتابع عليّان: “كنّا نازحين إلى منطقة صيدا، وقد عدنا وبدأنا البحث عن بيت في مدينة صور أو في قضائها، لكي نكون قريبين قدر الإمكان من البلدة، لمتابعة عمليّة إعادة البناء”.

عليّان: تعلمون أنّ بلدتنا شهدت معارك كبيرة، فتهدّمت معظم بيوتها، والبقيّة لا تتجاوز العشرة وهي شبه صالحة للسكن. أمّا بيتنا فقد احترق وتعرّض للقصف ولم يعد صالحًا للسكن، وهو بحاجة إلى الهدم وإعادة بنائه من جديد

وأردفت قائلة: “بدأنا البحث عن منزل من خلال التواصل مع سماسرة وأيضًا من خلال وسائل التواصل الاجتماعيّ، فتبيّن أنّه من الصعوبة بمكان العثور على بيت للإيجار في نطاق مدينة صور، إذ إنّ الأسعار تبدأ كحدّ أدنى للشقة غير المفروشة بـ 550 دولارًا وما فوق، أمّا أقلّ من ذلك فهي بحاجة إلى طلاء وتصليحات وأدوات صحّيّة”.

تضيف عليّان: “بعض السماسرة أفادوا بأنّ بدل الإيجارات في منطقة الحوش بلغت 1000 دولار مع دفع ثلاثة أشهر مسبقًا، وفي جلّ البحر أيضًا البيوت بـ 1000 دولار، وهي عبارة عن غرفة صغيرة وغرفة نوم واحدة (ستوديو) ضمن فنادق، وتلك التي تضم شقّتين بـ 1500 دولار”.

وأشارت إلى أنّه “تمكّنا من إيجاد شقّة في بلدة طيردبّا بـ 300 دولار غير مفروشة ونحن نتحضّر للانتقال إليها”، لافتة إلى أنّ “هناك 150 دولارًا تذهب إلى السمسار”.

السخرية والقهر

بمزيج من السخرية والقهر عرض ابن صور صلاح حلاوي صورة لبيته المدمّر في أحد المباني عند مفرق العباسيّة، وكتب عبر منصّة “فيسبوك” (بيتي للإيجار طابق سابع فيو كاشف المنطقة كلّها حاليًّا، درج ما في واسانسير ما في والمطلوب ألف دولار وثلاثة أشهر سلف)، وقد تفاعل كثير من اصدقائه مع المنشور بالسخرية والقهر عينهما. وقال أحدهم: “(الله يعينك عم تضحّكنا وتبكّينا)”، وقال آخر: “(بهمّني الأمر لو سمحت وين المنطقة؟)”، وأضاف آخر: “(ناسي العمولة للمكتب والسمسار!)” و(لو في موقف هيليكوبتر كنت استأجرته)”، جميع التعليقات، أشارت إلى واقع حال الإيجارات والمعاناة التي يتكبّدها كلّ من خسر بيته.

ما كتبه صلاح حلاوي في صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي

يقول حلاوي لـ “مناطق نت”: “أقيم منذ أن تركت صور خلال الحرب في صيدا، وأبحث منذ وقف إطلاق النار عن منزل ولم أجد شيئًا بسعر مقبول في مدينتي، فالاستديو الصغير الذي لا يتّسع لعائلتي مطلوب فيه 1500 دولار شهريًّا والاستغلال حدّث ولا حرج”.

بيروت والضاحية الجنوبيّة

من جهته رأى المحامي حسن عادل بزّي أنّ “الحقارة ما إلها دين ولا مذهب ولا منطقة”، وكتب على صفحته على “فيسبوك”: “أفتّش عن شقق للإيجار، فأجد شققًا من خمس غرف بالضاحية إيجارها 750 دولارًا بلا أثاث”، متسائلًا: “هيدا شو إسمه؟ استغلال أو لا؟”، ويضيف: غرفة واحدة مفروشة على طريق المطار طالبين فيها 400 دولار بالشهر، وشقة خمس غرف بحارة حريك بلا أثاث 750 دولارًا، وشقة خمس غرف خلف مستشفى سان جورج 700 دولار”.

ليس بعيدًا من بزّي، حسين حريري الذي تهدّم بيته في حيّ الاميركان بنايات أبراج الشيّاح بعد استهدافه خلال الحرب قال لـ “مناطق نت”: “وجدنا شقّة مفروشة من أربع غرف بجانب المستشفى العسكريّ في منطقة بدارو، وقد اشترط المالك أن ندفع سنة سلفًا بمبلغ 1500 دولار شهريًّا، وفعلًا (أكلنا الضرب)، لم يكن أمامنا خيار آخر بعد أن خسرنا بيتنا وهذا ما حدث”.

الطلب فاق العرض بأشواط

نشطت أخيرًا عبر منصّات التواصل الاجتماعيّ الصفحات المتخصّصة بعرض العقارات بيعًا وإيجارًا، إذ تعرض أحيانًا الأسعار بشكل خياليّ بحجّة الطلب الذي فاق العرض بأشواط، وإذا ما توافر منزل بإيجار مقبول سرعان ما يتمّ تأجيره، فحجم الكارثة السكنيّة كبير والناس تترصّد الفرصة لتؤمّن مسكنًا.

وفقا للقانون اللبنانيّ لا سقف محدّدًا للإيجارات، ما يمكّن المالك من تحديد قيمة بدل الإيجار بحرّيّة، إلّا أنّ القانون نفسه منعه من رفع البدل خلال فترة الإيجار إلّا إذا تمّ الاتّفاق مسبقًا على هذه الزيادات، إذ يمكن أن يكون هذا الأمر مقبولًا في الظروف العاديّة على أساس أنّ قيمة الإيجارات يحدّدها قانون العرض والطلب، ولكن في الأزمات والكوارث يصبح القانون إيّاه مادّة للكسب غير المشروع والمتاجرة بمعاناة الناس.

ويبقى ثمّة سؤال: هل من إمكانيّة أن يقترح النوّاب تعديل قانون الإيجارات بما يمنع الاستغلال، ويضع شروطا أو تحديد سقوف للإيجارات بعيدًا من الاستنساب والفوضى؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى