كرز عرسال يضيع بين نار الحرب وضريبة الألفي دولار في سوريا
ينتظر مزارعو الكرز في بلدة عرسال البقاعيّة موسمهم في كلّ سنة، إذ يعتمدون عليه في توفير مستلزمات الشتاء من تدفئة ومؤونة وأقساط مدارس، لكن يحلّ هذا العام على غير ما يتمنّاه المزارعون، فـ”قجتهم” (الحصّالة) السنويّة التي تساهم في إعانة البيت وستر حاله، تحوّلت إلى مشكلة بدل أن تكون حلًّا، بسبب الانخفاض المريع في الأسعار.
المشكلة ليست وليدة اللحظة، فبوادرها تلوح منذ أشهر عديدة، منها الحرب الدائرة جنوبًا ومنها ضمور السوق المحلّيّة، ومنها صعوبة التصدير بسبب الضرائب المستجدّة في سوريا، ومنها أيضا إقفال السوق الخليجيّة بوجه المنتوجات الزراعيّة اللبنانيّة لاستخدامها في تهريب المخدّرات والكبتاغون.
انهيار الأسعار والسوق
يوضح صاحب مشغل الكرز في عرسال حسن عز الدين لـ”مناطق نت” سبب انهيار الأسعار بهذا الشكل فيقول: “السوق اللبناني محدود نسبة لحجم الموسم في جرودنا، هذا في حال السلم فكيف في حال الحرب الدائرة اليوم؟ إنّ نصف السوق المحلّيّ خسرناه، والنصف الباقي همّه لقمة العيش الأساسيّة قبل الكماليّات والفاكهة”.
يتابع عز الدين: “أمّا خارجيًّا فثمّة عوامل عديدة مجتمعة شكلّت هذا العام عائقًا سلبيًّا بوجه تصدير المنتجات الزراعيّة اللبنانيّة بشكل عام، ومن ضمنها موسمنا نحن في عرسال، السبب الأوّل يعود إلى فرض سوريّا مبلغ ألفي دولار أميركيّ كضريبة على كلّ شاحنة برّاد تعبر من لبنان. وفي حين يقول كثيرون إنّ هذا الموضوع مخالف للاتفاقيّات بين البلدين، يبقى الجواب على ذلك منوطًا بالدولة اللبنانيّة ووزارة الزراعة تحديدًا، اللتين لم توضحا ذلك حتّى الآن”.
أمّا عن السبب الثاني فيقول عز الدين: “للأسف من تجارة الكبتاغون، إذ كلّنا نسمع ونرى ونقرأ عن كشف محاولات تهريب المخدّرات، داخل المنتجات الزراعيّة اللبنانيّة، من ملفوف ورمّان وبصل وبرتقال وبطّيخ وغيرها. كثير من المنتجات الزراعيّة استخدمها المهرّبون في توضيب المخدّرات، ممّا دفع بدول الخليج إلى مقاطعة منتجاتنا، واشترطت تلك الدول شهادة رقابة بعد تركيب معدّات الكترونيّة “سكانر” و”ليزر”، طبعًا الدولة اللبنانيّة لم تقم بتجهيزها، والنتيجة الفعليّة أنّ المواسم الزراعيّة باتت خسارة كبيرة على المزارع إنّه خربان بيوت”.
هذا وقد أكّد وزير الزراعة الدكتور عباس الحاج حسن، في لقاء مع مزارعي البقاع الشماليّ، في دارته في بلدة شعث، “أنّه بصدد التواصل مع السلطات السوريّة لإعادة الأمور إلى طبيعتها قريبًا جدًّا، وإلغاء العمل بقرار فرض هذه الضريبة المستجدّة، وغير المفهومة، لأنّ فرض أيّ ضرائب جديدة بحاجة للتوافق بين البلدين الشقيقين”.
أسعار متردّية
لكن، هل هذه المشكلة هي فقط بسبب الحرب جنوبًا وغياب التصدير؟ ما هي الخطوات والمبادرات التي قام بها المزارعون احتياطًا وتجنّبًا للكارثة؟
حسن عزالدين: السبب الأوّل يعود إلى فرض سوريّا مبلغ ألفي دولار أميركيّ كضريبة على كلّ شاحنة برّاد تعبر من لبنان.
يقول المزارع صالح الفليطي في حديث مع “مناطق نت”: “بات موسم الكرز والمشمش في عرسال هذا العام عبئًا ثقيلًا على كاهل المزارع، أسعار المحاصيل بالأرض، ميّتة، حيث يراوح سعر كيلوغرام الكرز بأنواعه السكّريّ والزهريّ وقلب الطير بين15 ألف ليرة و25 ألفًا، بينما نخب الكرز الطليانيّ والبنّيّ والفرعونيّ يصل إلى 80 ألف ليرة”.
يتابع الفليطي: ” ليس المشمش أفضل حالًا، وتراوح أسعاره ما بين 50 ألف ليرة للكيلوغرام الفرنساويّ البياضيّ وصولًا إلى 100 ألف ليرة لأفضل أنواع المشمش العجميّ”.
يقارن الفليطي بين أسعار المحاصيل المنخفضة والكلف المرتفعة فيقول: “إنّ أسعار المواد المتعلّقة بالزراعة كلّها مرتفعة، وهي لا تبدأ من المحروقات والأدوية الزراعيّة والسماد والمواد العضويّة، ولا تنتهي باليد العاملة، لكن المزارع ملزم بقطف موسمه، حتّى لو كان ذلك خاسرًا، إذ يعرّض عدم جني الثمار وتركه، إلى إصابة الشجر بالعجز واليباس”.
منتج أقلّ جودة؟
“لا نستطيع دائمًا إلقاء اللوم على الآخرين للهروب من مسؤوليّتنا، ومش دايمًا في مؤامرة والحقّ على الطليان”، بهذه الكلمات توجّه الفليطي للمزارعين، فيقول: “المزارع عليه ملام أيضًا لا يستطيع إنكاره، حتّى اليوم لا يزال معظم المزارعين يعتمدون الطرق البدائيّة في الرشّ والتقليم والتشحيل، على رغم كلّ جهود الجمعيّات محلّيًّا وخارجيًّا لتعليمنا أصول التعامل مع الشجرة وسُبُل تحسين الإنتاج، كيفيّة التوضيب، الوقت المناسب للقطاف، طريقة النقل”. لذلك “يجب علينا التواضع كمزارعين وقبول نصائح الخبراء والمهندسين الزراعيّين وأهل الخبرة والاختصاص، هذا الموسم غالبيته غير جيّدة، بسبب الطمع بالكمّيّة وعدم التخفيف عن الأشجار ممّا جعل المنتج أقلّ جودة”.
الفوضى مشكلة المشكلات
في إبّان فترة تواجد المجموعات المسلّحة في جرود البلدة، تعرّض كثير من البساتين للقطع والتلف، ما حدا بكثيرين من أصحاب البساتين للعودة بالزراعة إلى نقطة الصفر، بعضهم أراد التحوّل إلى الزراعة المرويّة بدل البعليّة، عبر حفر الآبار الارتوازيّة، لكنّه وقع مجدّدًا في أزمة المحروقات.
المزارع محمّد الحجيري (55 عامًا( وهو عسكريّ متقاعد، يقول لـ”مناطق نت”: “الظاهر أنّنا أدمنّا الأزمات في لبنان، فقبل أن نفرح بانفراج أزمة ندخل في أخرى، نواسي أنفسنا ونقول الحمدلله المهمّ الصحة (ضاحكًا)، لكن بعد عودتنا لأرضنا وبساتيننا لم يكن من خيار سوى النهوض والاستمرار، قمنا بتجهيز البئر الارتوازيّة وشبكة الريّ، ثمّ زراعة البستان من جديد، لكن “يا فرحة ما تمت” تخلّصنا من السلاح وإرهابه، لندخل في إرهاب الدولار والأزمة الاقتصاديّة والبنوك، تبخّرت ودائعنا وجنى أعمارنا”.
يتابع الحجيري: “إنّ الريّ عبر مولّدات الكهرباء شبه مستحيل، نظرًا لارتفاع الكلفة وانعدام المردود، فالشجر يبدأ بالإنتاج الفعليّ في السنة الخامسة، لذلك الحل باعتماد الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء، وهذا أيضًا كلفته مرتفعة”. ويتحدّث الحجيري عن الهيئات المانحة فيقول: “لقد بادرت بعض الجهات والمنظّمات التي تُعنى بدعم المجتمعات المضيفة للاجئين السوريّين، إلى دعم المزارعين بتجهيزات الطاقة الشمسيّة، لكن للأسف يتمّ ذلك وفق طريقة ارتجاليّة متسرّعة تسودها التنفيعات، ولم تكن بمعايير علميّة دقيقة، وبالطبع غياب البلديّة كان له الأثر السلبيّ الكبير، وبرامج وزارة الزراعة غير موجودة”.
يختم الحجيري قائلًا: “يجب علينا كمزارعين البحث عن بدائل لا يكفي نحطّ إيدنا ع خدّنا ونتفرّج” ربّنا سبحانه وتعالى أمرنا بالسعي دائمًا، لذلك علينا تأطير أنفسنا ضمن جمعيّات وتعاونيّات زراعيّة للتواصل مع المعنيّين والعمل على إيجاد الحلول”.
التجفيف والعصير والبرّاد
الحلول ليست فرضًا سماويًّا مقدّسًا، وليست قواعد ثابتةً لا تتبدّل أو تتغيّر ولا يمكن المسّ بها، لذلك تبرز أهمّيّة بدائل أخرى تحفظ تعب المزارع وتُنقذ منتجات موسمه، مثل صناعة المربّيات والعصير وتجفيف الفواكه.
“يشكّل البرّاد الزراعيّ أحد الحلول المتوافرة أيضًا، لكن في ظلّ انعدام التصدير يفقد جدواه”، كما يؤكّد رئيس جمعية “جسور النور” الأستاذ بسيم الأطرش الذي أضاف لـ”مناطق نت”: “نظرًا لارتفاع كلفة تشغيل البرّاد الزراعيّ، الماليّة والبشريّة، وغيرها من محروقات ويد عاملة، إضافة إلى قدرته الاستيعابيّة المحدودة قياسًا على حجم السوق، فإنّه بغياب التصدير، في ظلّ خمول السوق المحلّيّة نتيجة العدوان الإسرائيليّ في غزّة والجنوب، تصبح الخسارة مؤكّدة وكبيرة، بدل أن تشكّل رافعة لنا وللمزارع كما في الأحوال الطبيعيّة، وعلى رغم ذلك ما زلنا نجري اتّصالات مع عديد من التجّار، وربّما نتمكّن من تصدير بعض الكمّيّات”.
الركون دائمًا إلى أطلال المشكلة والبكاء عليها لم تُشبع جائعًا ولم تروِ ظمأ مزارع، وحدها المبادرات الفرديّة المحلّيّة في زمن المشاكل، تُشكّل جسر عبور نحو الحلول المستدامة، وتصبح حبل نجاة للمواطن، فهل من مستجيب مبادر؟