كفرحمام.. أهلها، بيوتها ومواسمها بانتظار العودة
في عامٍ ثقيل حمل إليهم الحرب والدمار، انقلبت حياة أبناء كفرحمام رأسًا على عقب، من النزوح القسريّ إلى مشاهدة كرومهم من تين وزيتون تحترق بالكامل، وصولًا إلى دمار منازلهم تحت وطأة القصف المدفعيّ والغارات الجوّيّة.
عاش أبناء كفرحمام أيّامًا قاسية، بعدما تحوّل قسم من بيوت البلدة إلى أطلال، جرّاء القصف المتكرّر خلال أكثر من سنة، قبل أن يعيشوا الحلقة الأعنف من الحرب جرّاء توسّع رقعتها في 23 أيلول (سبتمبر) الماضي والتي استمرّت لأكثر من شهرين.
يقول علي خليفة، وهو مزارع من البلدة لـ “مناطق نت”: “مع اندلاع حرب الإسناد التي أعلنها حزب الله تضامنًا مع أهل غزّة، حُوصرنا في البلدة، ولم نعد نخرج حتّى إلى حقولنا وبساتيننا. ومع نضوج موسم التين الذي ينتشر في مساحات واسعة في كفرحمام قرّرت الذهاب لأوّل مرّة إلى كرمنا، لكن تعرّضت للقصف المباشر، ونجوت بأعجوبة”. ويردف: “بعد عشرة أيّام عدت ثانية لكنّ القصف تكرّر، ومع ذلك بقينا نقطف ثمار الكرم مرّة في الأسبوع وبالكاد كنّا نؤمّن مصروفنا، وفي النهاية، استهدف العدوّ الكرم بالقصف واحترقت أشجاره بالكامل، وخسرنا كلّ شيء”.
من حيّ إلى حيّ
استمرّ القصف الإسرائيليّ على كفرحمام حتّى وصل إلى الحيّ الذي يقطنه خليفة مع عائلته، “تهشّم زجاج المنزل وأُصيب بعض أولادي، ومع ذلك قرّرت البقاء”، يقول علي ويتابع متذكّرًا: “أغلقت النوافذ بالنايلون الشفّاف وحاولت البقاء في البيت، لكنّ القصف المدفعيّ غير المنقطع أجبر عائلتي على الهرب”.
وبحزن شديد يشرح خليفة كيف أنّ شاحنته الصغيرة، مصدر رزقه، تعرّضت للقصف الذي أتى عليها “فاضطررنا إلى الهرب من المنزل خوفًا من الغارات الجوّيّة، وانتقلنا إلى منزل أخي في حيّ آخر داخل البلدة”.
قطعت الغارات المتكرّرة معظم الطرقات، ممّا دفع بمن بقي من أبناء البلدة إلى المغادرة والتوجّه إلى بلدة الهبّاريّة القريبة والقرى المجاورة. يشير علي خليفة إلى أنّ “أحد الأصدقاء استضافنا في الهبّاريّة، لكنّ الأمر لم ينتهِ عند حدّ النزوح من البلدة، فمن أين نصرف على حالنا؟ اضطررت إلى بيع ما أملك من مصدر رزق مستطاع، منها 10 عنزات كنت أضعها في المزرعة، لكن بسبب القصف وعدم قدرتي على الوصول إليها وإطعامها وخدمتها الدائمين، بعتها بـ 800 دولار فقط، على الرغم من أنّ ثمن العنزة الواحدة يتجاوز 300 دولار”.
من معاناة النزوح والعودة
يضيف خليفة شارحًا مدى المعاناة التي تعرّض لها وعائلته كسائر أبناء بلدته، من غياب العمل ومصادر الرزق طوال هذه الفترة، “كنّا نشتري مياه الشفة، فيما الكهرباء مقطوعة، والتدفئة على المازوت أضحت عبئًا ثقيلًا، لذلك وفي اليوم الأوّل من إعلان وقف إطلاق النار في الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عدت إلى منزلنا في كفرحمام عند الساعة السابعة والنصف صباحًا”.
لم تنتهِ معاناة خليفة بعودته إلى منزله في كفرحمام لأنّ أعصابه “غدت تالفة” يقول والدموع تملأ عينيه: “لديَّ ابن يخدم في الجيش اللبنانيّ في مرجعيون، وكلّما كان يغادر إلى الخدمة، كنت أراقبه من على سطح المنزل، وأتابع المعارك وحركة الطائرات المسيّرة، ويكاد قلبي يتوقف في كلّ لحظة خوفًا من أن يصيبه أدنى مكروه”.
قطعت الغارات المتكرّرة معظم الطرقات في كفرحمام، ممّا دفع بمن بقي من أبناء البلدة إلى المغادرة والتوجّه إلى بلدة الهبّاريّة القريبة والقرى المجاورة
يُحزن خليفة أنّه “وطوال فترة الحصار والقصف القاتل المُدمّر، لم يتّصل أحدٌ ليسأل عنّا، كأن لا دولة ننتمي إليها، ولا مؤسّسات يجب أن ترعانا. عشنا بمفردنا، وعانينا بصمت وما زلنا حتّى بعد عودتنا، حيث المياه كانت مقطوعة، لذلك بادرتُ إلى إصلاح أعطالها على نفقتي الخاصّة، على الرغم من أنّ شركة المياه رفضت تحمّل هذه المسؤوليّة تحت ذريعة الأسباب الأمنيّة واستمرار خروق العدوّ، فقلت لهم: ربّما أستشهد، لكن على الأقل لن نموت عطشانين”.
معاناة تاريخية
عانت بلدة كفرحمام مثل غيرها من قرى “العرقوب” من الاعتداءات الإسرائيليّة منذ العام 1967، تاريخ احتلال إسرائيل الجولان السوريّ ولاحقًا مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، فوقعت كفرحمام تحت ظلم متواصل، وتعرّضت مثل جاراتها للاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة التي دمّرت البلدة مرّات عدّة.
يؤكّد أبناء البلدة أنّهم يعيشون اليوم تجربة مريرة تشبه تلك التي عاشها آباؤهم وأجدادهم في هذه الأرض، وأنّهم من دون أدنى شك يدفعون ثمن وجود “الكيان الغاصب الذي يحتلّ فلسطين، ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا على مقربة من المنطقة، فالثمن الذي تدفعه هذه القرى الحدوديّة غالٍ يتمثّل بضريبة الدم ودمار البيوت واحتراق الأرزاق، وبكلّ ما يملكه أبناء الجنوب” يختم خليفة.
جنى العمر رمادًا
“نتيجة القصف المتواصل على البلدة، وبخاصّة في شهريّ تمّوز (يوليو) وآب (أغسطس)، تحوّلت أرضنا إلى جحيم، إذ إنّ القذائف الحارقة التي أطلقها العدوّ لم تترك لنا شيئًا من ثروتنا الزراعيّة، فكلّ أشجار الزيتون وجميع كروم التين تعرّضت للنيران” يقول المزارع محمّد من كفرحمام ويردف في حديث مع “مناطق نت”: “الأرض التي كانت مصدر رزقنا وحياتنا، أصبحت محروقة، كرم التين الذي ورثته عن أبي ويضمّ نحو 100 شجرة عمرها أكثر من 50 عامًا، وكروم الزيتون التي تحتوي على 120 شجرة تراوح أعمارها بين 10 و70 عامًا، تحوّلت كلّها إلى رماد”.
ويضيف محمّد “جنى العمر راح”، ثمّ يتابع بصوت متهدّج حزين “خسائرنا كانت جسيمة، ليس على المدى القصير فحسب، بل وعلى المدى الطويل أيضًا، فالموسم الذي كنّا نعتمد عليه لتغطية مصاريف الصيف، ضاع بالكامل، ونحن لا نعلم كم من السنوات سوف نحتاج لاستعادة ما فقدناه، ربّما سنضطرّ إلى الانتظار سنوات وسنوات حتّى يعود إنتاجنا إلى ما كان عليه قبل الحرب الأخيرة المدمّرة”.
لم يستطع محمّد إخفاء دموعه، عندما بدأ يتحدّث عن بساتين الزيتون “لقد كانت سندنا الوحيد، فموسم الزيتون كان يساعدنا على تأمين كلف دراسة أبنائنا، والموسم الأخير فقدناه بالكامل، بعدما خسرنا أكثر من 20 في المئة من محصول العام الماضي بسبب القصف، ثمّ جاءت الحرب الأخيرة كي تأتي على ما تبقّى، سواء الأشجار المتضرّرة أو الكروم التي سلمت، إذ إنّ تهديدات العدوّ التي لم تنقطع حتّى بعد وقف إطلاق النار منعتنا من إنقاذ ما يمكن إنقاذه.”
ويتابع محمّد “مُني أبناء كفرحمام وقرى العرقوب ومختلف المناطق التي كانت هدفًا للعدوان المستمرّ أشهرًا طويلة، لا سيّما في أشهر قطاف الزيتون وغيرها من المواسم، بخسائر كبيرة جدًّا في ظلّ ظروف اقتصاديّة متردّية، وآثارها ستستمر إلى سنوات عديدة، وبنظر جميع المزارعين لن يعود الزيتون إلى إنتاجه السابق إلّا إذا كانت جذوره سليمة، أمّا الأشجار التي تعرّضت للاشتعال جرّاء القذائف الحارقة والفوسفور الأبيض سيتمّ اقتلاعها بالكامل، وكذلك أشجار الصنوبر التي لا يمكنها التجدّد في مثل هذه الحالات.”
وعن منزله يختم محمّد: “تعرّض منزلي للتدمير جرّاء استهدافه من قبل العدوّ منذ عدّة أشهر، والحمدلله أنّنا أنا وعائلتي بخير، نحن نعيش الآن في منزل مستأجر، وما زلنا لم نتمكّن من العودة الكاملة إلى بلدتنا بسبب منعنا من ذلك.”
الحرب تدمّر المزروعات والبيوت
من جانبه، يؤكّد حسيب عبد الحميد (أمين صندوق بلديّة كفرحمام) وهو ناشط اجتماعيّ وأسير محرّر ونائب الأمين العام لـ “مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب” أنّ بلدة كفرحمام في قضاء حاصبيا، “تعرّضت لاعتداءات إسرائيليّة كبيرة منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أيّ منذ اليوم الأوّل لبداية العمليّات العسكريّة والعدوان الإسرائيليّ، حيث تعرّضت البلدة لمئات القذائف المدفعيّة ذات الأعيرة والأنواع المختلفة، إضافة إلى أكثر من 100 غارة جوّيّة من الطائرات الحربيّة والمسيّرة، ممّا ألحق أضرارًا كبيرة في المزروعات والأراضي الزراعيّة. وتسبّب القصف والغارات في إحراق مئات الدونمات من الأملاك العامّة والخاصّة والثروة الحرجيّة”.
عبدالحميد: تعرّضت البلدة لمئات القذائف المدفعيّة ذات الأعيرة والأنواع المختلفة، إضافة إلى أكثر من 100 غارة جوّيّة من الطائرات الحربيّة والمسيّرة، ممّا ألحق أضرارًا كبيرة في المزروعات والأراضي الزراعيّة.
ويتابع في حديث إلى “مناطق نت”: “أجبرت الاعتداءات المتكرّرة والمباشرة أبناء كفرحمام على الخروج القسريّ من بلدتهم، فرحل عنها القسم الأكبر من العائلات إلى صيدا ومناطق قريبة من بيروت. كما نزحت عائلات كانت صامدة على رغم الظروف الصعبة، والبالغ عديد أفرادها حوالي 160 نسمة في نهاية شهر أيلول، وأفرغت البلدة بالكامل بعد كثافة القصف الجويّ على المنازل والتهديد المباشر من العدوّ”.
ويفيد عبد الحميد أنّ أكثر من 300 وحدة سكنيّة ومرآب ومزرعة أصيبت بأضرار بالغة وتدمير، منها 46 وحدة سكنيّة دمّرت بشكل كامل، بالإضافة إلى 10 محلّات ومزرعتين للدواجن. كذلك تضرّرت أكثر من 100 وحدة سكنيّة أخرى، فيما أصبحت 10 وحدات غير صالحة للسكن. أمّا بقيّة الوحدات السكنيّة فقد لحقت بها أضرار كبيرة تشمل تصدّعات في الجدران وأضرارًا في الزجاج والنوافذ والأبواب، وكذلك في أسطح القرميد والطاقة الشمسيّة”.
الخسائر بالأرقام
“شتتت الحرب عائلات كفرحمام”، يضيف عبد الحميد، وأنّ “عددًا من أبناء البلدة استقرّوا في مدارس حاصبيّا وبعض المناطق المجاورة، بينما استأجر آخرون منازل في أكثر من منطقة، وحتّى الآن، لم يتمكّن أبناء كفرحمام جميعهم من العودة إلى بلدتهم بسبب استمرار التهديدات العسكريّة من قبل العدوّ، وفي ما يتعلّق بالمساعدات الإنسانيّة، فإنّها كانت محدودة جدًّا، خصوصًا بالنسبة إلى الأشخاص الذين نزحوا إلى منازل أقاربهم في مناطق مختلفة”.
أمّا في ما يتعلّق بالآثار في القطاع الزراعيّ، فيشير عبد الحميد إلى “تعرّض أكثر من 200 دونم من أحراج الصنوبر والسنديان العائدة للبلديّة أو الدولة للضرر بسبب الحرائق، وتمّ تدمير مساحات خاصّة تصل إلى أكثر من 300 دونم، وأتت الحرائق على أعداد كبيرة من أشجار التين والزيتون والصنوبر والعنب والسمّاق، بالإضافة إلى تدمير عديد من المناحل والدواجن”.
وبالنسبة إلى مواسم الزراعة، “فقد بلغت خسائر موسم الزيتون للعام 2023 نحو 20 في المئة بسبب عدم قطف المحصول، بينما لم يتمّ استثمار موسم الصنوبر في الأراضي العامّة والخاصّة. وفي العام 2024، بلغ حجم خسارة موسم التين أكثر من 85 في المئة، بينما تعرّض موسم الزيتون للخسارة بنسبة 100 في المئة، ولا يزال موسم الصنوبر قائمًا دون معرفة ما إذا كان سيتمّ جمعه”.
المنشآت العامّة
وكان للمنشآت العامّة في كفرحمام نصيب من الأضرار، بما في ذلك المبنى البلديّ والآليّات التابعة لها، الحديقة العامّة والملعب وغيرها من المنشآت. كذلك تعرّضت البنى التحتيّة لأضرار في شبكات الكهرباء والأعمدة وشبكة المياه ومحطّة تكرير مياه الشرب، والطرق العامّة والفرعيّة. ولحقت أضرار بالمسجدين القديم والجديد، فضلًا عن قاعة المدفن والقاعة العامّة.
على رغم هذه المآسي، ينتظر أبناء كفرحمام بفارغ الصبر العودة إلى بلدتهم بأقرب وقت وإعادة بناء ما دمّره العدوان. وقلقهم الأكبر يكمن في قضيّة التعويضات وقدرة المزارعين على استعادة خسائرهم. وحتّى اليوم، لا يوجد مسح رسميّ ميدانيّ للأضرار بسبب الظروف العسكريّة المستمرّة.