“كولاج” باتيل باليان متاهة الحياة ولغز الموت والحقيقة

لا أخالُ أنّني حينَ قررتُ الكتابة عن باتيل باليان، ألّا أذهب بعيدًا، وأن أترصّد جميع التفاصيل التي تحيطُ بلوحاتها. ولستُ هنا بصدد التحدّث عن “فنّ الكولّاج”، كالمتخصّصين في التقنيّات والأدوات والمدارس. جلّ ما أريدُ الغوص فيه هو الانطباع الذي شعرتُ بهِ، إذ إنّني أخشى عادةً من أن ينسلّ من بين أصابعي.

وأعتذرُ من أنّ هذه المقالة ستكون أشبهُ بسيرةٍ ذاتيّةٍ، عليّ أن أسجلّ فيها بكثافة وبأكبر تفصيل ممكن وبكثيرٍ من المقاطع الكلاميّة، الضوضاء التي تزدحم في رأسي والتي تثيرُ فيّ قلق أن أرى ورقًا خاليًا من الكتابة! ومن الجيّد ربما أن أبدأ من هنا، فالمرء يستطيع أن يبدأ بالقصّة من الوسط، ثمَّ يسيرُ متقدّمًا على حدّ تعبير غونتر غراس، الكاتب الألمانيّ الرائع.

وأقدّم بالتالي إليكم، لوحات الفنّانة اللبنانيّة “باتيل باليان”، ولتقع عيونكم تحتَ رحمة هذه الغرابة، فكما يقول أحد الكتّاب الذي لم أعدْ أذكر أسمه، بسبب ذاكرتي المُثقلة: “يجب ألّا نضع الغرابة حيثُ لا يوجد شيء” وإليكم بالتالي كلّ شيء..

الهلعُ العتيق

أوّل ما كنتُ أقوم بهِ في طفولتي، في كلّ مرّةٍ أخلّف فيه العالم ورائي، الاتّجاه مسرعة إلى غرفتي ورسم الدوائر، وقد أصابني ذلك بهوس رصد جميع الدوائر حولي: المطر، سقوطه ولحظة ارتطامه بالأرض، الأشجار المشذّبة، أغصانها الدائريّة، رحم أمّي وتردّد أصوات الذين يسيرون خلفَ الجنازات إلى حيثُ لا أدري، ربّما إلى دوائر أخرى! لماذا الحديث عن الدوائر الآن؟ لأنّه إذا ما تأمّلنا قليلًا في اللوحة التي حملت عنوان: The Thanatonaut، سنرى حلزونًا يعتلي الهيكل العظميّ، داخل جسد امرأة، ربّما هي “باتيل” نفسها، أو ربّما نحنُ جميعًا، لا يهمّ. اختارت لهُ الحياة، والنموّ والامتداد إلى الأسفل.

الفنانة باتيل باليان

وعلى الرغم من أنَّ المعتاد في القوانين الطبيعيّة أن تنمو جميع المخلوقات كالأطفال، الأشجار، الأغصان، والورود، إلى الأعلى، إلّا أنَّ باليان جعلته ينمو نحو الأسفل. ربّما لهذا السبب اختارت عنوان: The Thanatonaut للوحاتها والذي يعني “ملّاح الموت”.

بالمناسبة، في العام 1994 صدرت رواية الخيال العلمي للكاتب الفرنسي Bernard Werber بعنوان: The Thanatonaut، وقد تناول فيها رحلة البحث عن الآخرة، و”لغز الموت”، وبالتالي فالحلزون في لوحة باليان يمكن القول عنه إنّه يمثلّ: المتاهة. فـجلجامش (الملك التاريخي الأسطوري لدولة الوركاء السومريّة، وبطل مهمّ في أساطير بلاد ما بين النهرين القديمة والشَخصيّة الرئيسة في ملحمة جلجامش) على سبيل المثال في “هلعه القديم” كان دائمًا خائفًا على مصيره، ويقول أحد الكتّاب في هذا السياق: “ذلك التفجّع الذي انتهى بجلجامش إلى أنَّ الجدوى في الدائرة نفسها هي نهاية الملحمة، ليكون ذلك هو تمامًا ما نصرّ على رفضه بالركون إلى فكرة الدائرة الأبدية”.

ونحنُ عادةً ككائنات واعية لآلامها نعتقد أنّنا نسيطر جيّدًا على مصيرنا، وندّعي أنّنا دائمًا نصنع البدايات ونحنُ من ينهيها، لكنّنا في قرارة أنفسنا نعلم تمامًا أنّنا في الدائرة ذاتها، في المصير نفسه، نسيرُ نحو الموت، لكنّنا لا نعي الإجابة عن الموت عينه.

‌The thanatonaut

وإذا ما عدنا إلى عديد من الثقافات القديمة، لا سيما إلى حضارة “الأزتيك” (حضارة في أمريكا الوسطى ازدهرت في وسط المكسيك في فترة ما بعد الكلاسيكيّة بين عامي 1300 و1521) فإنّنا سنُلاحظ أنَّ الحلزون بشكله اللولبيّ، الدائريّ كانَ رمزًا للزمن، وكان يمثّل أيضًا دورة الحياة، ورمزًا للقمر ومراحله، فيُقال إنَّ الآلهة سمحت لقوّتين مختلفتين بالتنافس بعضهما ضدّ بعض في الوقت عينه الذي خُلقَ فيه القمر والشمس.

لوحة للفنانة اللبنانية باتيل باليان

وأعطت هذه الآلهة كلتا القوّتين مهمّة التضحية بالنار والقفز فوق جمرة النار الملتهبة. وبعدَ تردّد إله القواقع والديدان، كان الإله الآخر Nanahuatzin أوّل من رمى نفسه للنار. فظهرت الشمس في السماء، وبسبب تردّد إله القواقع Tēcciztēcatl غضبت الآلهة وألقت في وجهه أرنبًا للتقليل من لمعانه، وأصبحَ إلهًا للقمر فقط، ولذلك نرى أنّه كما ينسحب القمر إلى أعماق المحيط، فإنَّ الحلزون ينسحبُ إلى صدفته ويعود إلى الظهور في دورته التالية.. وهكذا حتّى الأبد كالحياة والموت!

ماذا لو اجتمعَ ثاناتوس بإيروس؟

في لوحة أخرى بعنوان: Lapis philosophorum or rather rock paper scissors تتّبع باتيل نمط الـAssemblage المشابه لفنّ الـCollage، وتقول: “لقد صنعتُ مقصّي الأوّل الذي رششته بالذهب، والصخرة التي وجدتها تشبه القلب”. صنعت باتيل إذًا مقصًّا ذهبيًّا ووضعته قرب الحجر، الذي شبّهته بالقلب، ربّما قلبها.

تعود بنا هنا باتيل مرّة أخرى إلى فكرة المتاهة، فكما نعلم إنَّ حجر الفلاسفة هو مادّة أسطوريّة يستطيع تحويل جميع المعادن الرئيسة إلى الذهب، وارتأت باتيل أن تصنع بقلبها مقصًّا ذهبيًّا.. وكثير من العلماء، الكيميائيّين السابقين اعتقدوا أنّه يمكن استخدام الحجر لصنع “إكسير الحياة”، والقضاء على المجهول واللغز الأبديّ: الموت. وهنا أرادت باتيل أن تقضي على قلبها أيضًا بالمقصّ! فباتيل ربّما، ربطت فكرة الموت، ذاك اللغز الأبديّ، بالحبّ.

في كتابه عن الحبّ والموت، يقول الكاتب الألمانيّ باتريك زوسكيند: “إنّ ثمّة غموضًا يلازم الحبّ، شيئًا لا يتمكّن الإنسان من معرفته بدقّة”. وأعتقد أنَّ ذلك مشابهًا تمامًا لفكرة الموت. وثمّة تواتر أيضًا يلازم الحبّ والموت، فكما يذكر زوسكيند أيضًا أنَّ “نوفاليس” ليست إلّا قصائد حبّ مرحة موجّهةٍ للموت. وأنَّه في اللغة الفرنسيّة مثلًا نسمّي الرعشة الجنسيّة: الموتات الصغار، كذلك في اللغة العربيّة حين نحبّ نتغزّل بشريكنا ونقول لهُ: بموت فيك.. تقبرني.. إلخ.

تعود بنا هنا باتيل مرّة أخرى إلى فكرة المتاهة، فكما نعلم إنَّ حجر الفلاسفة هو مادّة أسطوريّة يستطيع تحويل جميع المعادن الرئيسة إلى الذهب، وارتأت باتيل أن تصنع بقلبها مقصًّا ذهبيًّا

Lapis philosophorum or rather rock paper scissors

لا تني باتيل أن تضع فراشة على رأس هذه المرأة، إذ إنَّ الفراشة أيضًا تعشق الضوء حتّى تسقط ميتة! يقول غوته (الشاعر الألماني) في هذا السياق: في قشعريرة ليالي الحبّ/ التي أنجبتكَ وستُنجب أنت فيها/ يغمرك شعور غريب/ عندما تضيء الشمعة الهادئة. / لن تبقى عندها محاطًا/ بظلال الظلام/ وستقضّ مضجعك شهوة جديدة/ إلى جماعٍ أسمى. لن يعيقكَ بُعد المسافة/ ستأتي طائرًا ومفتونًا/ ونهمكَ إلى الضوء أخيرًا/ سيحرقُكَ كالفراشة!.

“ملّاح الموت” يتقصّى الحقيقة

تستدعي باليان في حفلة المتاهة هذه، الكاتب الألمانيّ هيرمان هسّه في كتابه “تجوّل: ملاحظات ورسوم”، وتقتبس الآتي: “الأشجار هي ملذّات. من يعرف كيف يتحدثّ إليها، ومن يعرف كيفَ يستمع إليها، يمكنه أن يتعلّم الحقيقة. إنّهم لا يبشّرون بالتّعلّم والمبادئ، بل يبشّرون بقانون الحياة القديم، دونَ أن تردعهم التفاصيل”.

إذًا، تعود بنا باليان للسؤال مجدّدًا عن الحياة، ولغز الموت والحقيقة، والتي تُشبه حلقات جذوع الأشجار التي تشمل تاريخها القديم: ندوبها، جروحها، حزنها، وفرحها، عدد أزهارها، وأوراقها النابتة، وتلك المنهمرة على الرمال، والعواصف التي مرقت فيها. وتكمن لذّة الدوائر هنا، في الأسئلة نفسها! ذلك أنّها دوائر لانهائيّة ولا جواب عليها أيضًا!

 

يذكّرني ذلك بالفيلم الذي شاهدتهُ سابقًا بعنوان: The tree of life. إذ يربط المخرج دائمًا جميع أجزاء الفيلم التي تتكلّم عن الحياة بتفاصيلها العادية، أو التي نعتادها، لذلك ننسى السؤال عمّا تحتويها من ألغاز، وعن الولادة، الآلام والموت، بالشجر.. الشجر فقط! لماذا إذًا الشجر؟

A forest within

في الميثولوجيا القديمة، يُعتقد أنَّ الشجرة تسكنها ثلاثة عوالم، العالم السفليّ، الذي يمثّل الجذور الضاربة بالأرض، والعالم العلويّ المتّجه نحو السماء، واتّحادهما، فهي ككلّ، تمثّل الموت والحياة والمعنى وكذلك تحملُ الحقيقة في دورتها السنوية. لذلك نرى سقوط الأوراق، انبعاثها وتجدّدها. لكن أيّ حقيقة؟ فقط حقيقة وجود الأسئلة الدائمة التي شغلت فكر الإنسان والتي لم يكن لها أجوبة قطّ!

باتيل باليان، فنّانة كولاج لبنانيّة أرمنيّة، من مواليد 1982، درست العلوم الاجتماعيّة وعلم النفس، وفي أثناء دراستها للأخير اكتشفت “المدرسة السرياليّة” التي تأثرَّ فنانوها بالتحليل النفسيّ، ومنهم التقطت تقنيّة الكولاج، التي مارسها فنّانون مثل: Hannah Hoch، Marx Ernst ،Sergei Parajanov.

تستعمل باتيل باليان في عملها “الرمزيّة” المتأثّرة بالأساطير والأديان العالميّة لتصوير الطبيعة الداخليّة للنفسيّة البشريّة وانعكاساتها. كذلك تعتمد على تجربة التركيب وتقنيّات الوسائط المختلطة (mixed media techniques).

وشاركت باليان في عديد من المعارض كالذي أقيم في العام 2019 مع Carre d’artistes وفي العام 2021 حتّى الوقت الحاضر مع Mojo art Gallery.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى