كيف يهدّد” البوتوكس “و”الفيلر ” الفاسد صحّة النساء في لبنان؟

في بلدٍ صارت فيه المرايا شاهدًا يوميًّا على آثار المعارك في الوجوه، تُقبِل نساء كثيرات على إبرة خلاصٍ تُباع في عيادات مظلمة ربّما تكون “وهميّة”، نتائجها تنتهي بكارثة. إبرة صغيرة، بداخلها يختبئ خرابٌ كبير، سموم تتخفّى خلف اللهاث وراء بريق الجمال، ووجوه تدفع الثمن من الصحّة و”الجيب”.

على رغم ذلك، يستمرّ هذا الخطر في التمدّد. بين عيادات بلا تراخيص، وأسماء تطلّ على تطبيق “إنستغرام” كخبراء تجميل، يتكوّن سوقٌ رماديّ يتحرّك بعيدًا من أيّ رقابة. هنا يبدأ السؤال الحقيقيّ: كيف تحوّلت إبرة يُفترض أن تُجمِّل الوجوه، إلى بابٍ خلفيّ للمرض، ولِمَ تُترك الضحايا يواجهن مصيرهنّ وحدهنّ؟

كابوس التجميل

هو كابوسٌ راودَ وفاء. م. من بلدة بدنايل البقاعيّة على مدى عامين. إذ وقعت وفاء ضحيّة إبرة مغشوشة ظنّت أنّها ستعيد لها إشراق الشباب. كلّ ما كانت تطمح إليه تلك السيّدة الأربعينيّة، هو إبرة صغيرة تُنعش ملامح وجهها، وتخفّف الخطوط التي حفرها الزمن على جبينها. قصدت مركزًا تجميليًّا يتلقّى أسعارًا “معقولة”، من دون أن تلتفت إلى نوعيّة الإبرة أو تركيبتها، لكنّ النتيجة انقلبت وبالًا عليها.

تقول وفاء حول تداعيات ذلك عليها إنّه “ظهر تورّم واضح في جبيني، تلاه ظهور دوائر حمراء بارزة استقرّت في وجهي. عامان كاملان قضيتهما وأنا أحاول التأقلم مع “التشوّه” الذي طرأ، وتحوّل بسرعة إلى نظرات مستغرِبة وتعليقات صامتة، وهو ما جرح مشاعري وأثّر في حضوري وثقتي بنفسي”. تتابع وفاء لـ “مناطق نت”: “ذهبت إلى مركز تجميل قريب من منزلي في البلدة، أتحفّظ عن ذكر اسمه، لإجراء عمليّة تجميل بسيطة. اليوم أعاني من انسداد شرياني جرّاء تلك الحقنة، ما سبّب لي تشوّهًا جزئيًّا دائمًا في الوجه”.

إنذ قصّة وفاء ليست يتيمة، بل واحدة من حالات كثيرة ترتفع أعدادها باستمرار، والمسبّب فيها سعي نساء كثيرات وراء الجمال في سوقٍ مفتوحة على الاستهتار والموادّ الفاسدة، فيجدن أنفسهنّ ضحايا وهمٍ خطير.

تهميش القانون واستهتارٌ بالبشر

ما يجري في هذه السوق “التجميليّة” من ارتكابات خطيرة، لا تُعدّ مسألة عابرة وحسب، بل تتصّل بموضوع الاتجار في البشر بشكل مقنّع. فهنا الأعضاء لا تُنتزع من أجساد الضحايا، بل تُترك ليُستثمر فيها بلا حدود، حيث يُسوَّق الخداع عبر إبرة مجهولة المصدر، تُقدّم على أنّها قادرة على تحقيق كلّ أحلام تجميل الوجوه والوصول إلى الأجسام المثاليّة، فيتحوّل الجسد إلى مساحة استثمار خبيث، يغذّي أرباح مراكز تجميل غير قانونيّة. فمن المسؤول الأوّل عن هذا الجرم الصامت والخطير؟

هذه الفوضى الهادئة لم تلامس وجه وفاء وحدها، بل امتدّت إلى نساء أخريات، من بينهنّ ليلى، الثلاثينيّة التي انتقلت من حال الجمال الطبيعيّ، إلى ثلاثين يومًا من علاجٍ مكثّف دفعت ثمنه من صحّتها، وليس من رغبتها في التجميل فقط.

ثمن التجميل سرير مستشفى

عاشت ليلى معاناة طويلة على سرير المستشفى بعد عمليّة جراحيّة استمرّت ساعات، لنزع التجمّعات الملتهبة التي ظهرت إثر حقن إبرة “فيلر” فاسدة.

تقول ليلى في حديث إلى “مناطق نت”: “لم أكن أبحث عن تغيير جذريّ. كلّ ما أردته هو لمسة بسيطة تضيف بعض الامتلاء إلى شفتيّ. لم يخطر ببالي أنّ إبرة صغيرة قد تتحوّل إلى مأساة صحّيّة، فبعد دقائق من الحقن بدأت الأمور تخرج عن السيطرة، إذ أصابني في البداية تورّم حادّ في الشفتين ثمّ في الوجه بالكامل”.

بعد مرور ساعات، كان التورّم يتمدّد ويتمدّد، إلى أن وجدت ليلى نفسها في المستشفى بعد معاينة طبيب متخصّص، رأى أنّ حالتها لا تحتمل التأخير.

تتابع ليلى: “الالتهابات كانت على وشك التهام شفتيّ، ولم يكن هناك خيار سوى التدخّل الجراحيّ الفوريّ، فخضعت لعمليّة قاسية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه”.

الضرر الذي أصاب ليلى لم يقف عند حدود الألم الجسديّ، بل تبعه انهيار نفسيّ كان جزءًا من الكارثة، إذ أمضت ليلى أسابيع في المستشفى بين المضادّات الحيويّة والفحوص اللازمة، تحت وطأة خوف مستمرّ من أن تتغيّر ملامحها.

عاشت ليلى معاناة طويلة على سرير المستشفى بعد عمليّة جراحيّة استمرّت ساعات، لنزع التجمّعات الملتهبة التي ظهرت إثر حقن إبرة “فيلر” فاسدة.

ما أصاب وفاء وليلى لا يحتاج إلى كثير من الجهد لإثباته. يكفي الوقوف في الشارع ومراقبة وجوه المارّة ليتبيّن حجم التغييرات التي أصابت وجوه الناس وأجسادها، وهي وإن لم يطلها التشوّه جميعها، إلّا أنّها تثبت حجم الإقبال على عمليّات التجميل التي على ما يبدو أصبحت لازمة، وتدلّ أيضًا على هامش الخطأ الذي من الممكن أن يحصل في ظلّ ضعف الرقابة الصحّيّة على هذا القطاع. وهذا ما أكدته إحدى الممرّضات التي تعمل في قسم طوارئ في مستشفى خاصّ، إذ قالت لـ “مناطق نت”: “إنّ المستشفيات تستقبل يوميًّا عشرات الحالات المماثلة لحالة ليلى”.

فوضى قانونيّة وسوق مفتوحة الاحتمالات

من ناحيته يقول مستشار وزير الصحّة الدكتور جوزيف حلو، إنّ تفتيش مراكز التجميل يتمّ بشكل دوريّ ومنتظم، الأمر الذي أسفر عن إقفال عدد من المراكز المخالِفة في مختلف المحافظات. وكشف حلو لـ “مناطق نت” عن “تفاقم استخدام مواد تجميل مهرّبة داخل السوق اللبناني”، مشيرًا إلى أنّ “هذه المشكلة لا تقع على عاتق وزارة الصحّة وحدها، بل على جهات رسميّة عدّة”.

يضيف حلو: “القانون الصادر في آب (أغسطس) العام 2017 يحصر حقّ حقن “البوتوكس” و”الفيلر” بأربعة اختصاصات طبّيّة فقط، وهي: طبّ الجلد، الأنف والأذن والحنجرة، جراحة التجميل وجراحة الوجه والفكّين، وأيّ ممارسة خارج هذه الفئات تُعدّ مخالفة صريحة للقانون”.

وشدّد الدكتور حلو على أنّ أيّ مركز تجميليّ يعمل خارج الإطار القانونيّ يُقفل فورًا ومن دون أي تهاون. وأشار إلى أنّ “الممرّضين أو العاملين ممّن يقومون بالحقن من دون صفة قانونية هم “منتحلو صفة”. الوزارة تتعامل بجدّيّة مطلقة مع ملفّ المواد المهرّبة والمغشوشة، وقد أشرفت شخصيًّا على تنظيم ورش عمل بالتعاون مع نقابتيّ الأطبّاء وجمعيّات طبّيّة متخصّصة بهدف رفع الوعي وتحديث المعايير”.

ودعا حلو السيّدات إلى “التحقّق من مؤهّلات الطبيب قبل الخضوع لأيّ إجراء تجميليّ، سواء لجهة شهاداته أو اختصاصه أو نوعيّة المواد التي يستخدمها”.

شكاوى للخط ّالساخن 1214

أمّا في ما يتعلّق بآليّة التبليغ عن المراكز أو المنتجات المشتبه بها، فأكد الدكتور حلو أنّ “وزارة الصحّة العامّة خصّصت الخطّ الساخن الرقم 1214 لتلقّي الشكاوى مباشرة، إلى جانب إمكانيّة التوجّه شخصيًّا إلى الوزارة حيث تُسجَّل الشكوى رسميًّا وتُتابَع وفق الأصول”.

وفي سياق الحدّ من هذه التجاوزات، شدّد حلو على “ضرورة إقرار قانون جديد يفرض غرامات ماليّة مرتفعة على المراكز المخالِفة وعلى كلّ من ينتحل صفة طبّيّة، فـ “اللبناني ما بخاف إلّا بس تقرّب على جيبته”، معتبرًا أن “التشدّد الماليّ ربّما يكون الحلّ الأكثر فعاليّة في هذه المرحلة”.

وعلى رغم جهود الوزارة في رصد المواد المغشوشة وإقفال المراكز المخالفة، يبقى الخطر قائمًا. فجزء كبير من المسؤوليّة يقع على المريض نفسه، عندما يختار الطريق الأسهل والأرخص على حساب سلامته، من دون أن يسأل أو يستفسر أو يبلّغ. فالصحّة لا تُحمى بالصدفة، بل بالوعي والمعرفة والقانون.

ومع ذلك، لم تكن المثاليّة في التجميل أولويّة في الثقافة العامّة إلّا في حالات قليلة، لكنّ هوس “الكمال” واندفاع وسائل التواصل الاجتماعيّ ورخص الإبر والعمليّات لعبت دورًا حاسمًا في فرض معايير جديدة يتسابق كثيرون عليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى