كُتب هذا النص في ليلة ماطرة ولكن ليس كمطر الجنوب

تُمطر هُنا، ولكن ليس كمطر الجنوب، فالهواء غير الهواء ورائحة التُراب ليست كرائحة تُراب الجنوب، حتى البردُ لا تُسكِنه أغطيّة، أقمعُ أيّ شعور داخلي للتأقلم، لا أريد أن أكون سوى هناك..

أن تنزح..

أن تترُك بيتَك يعني أن تفارق روحك. للبيوت أرواح مثلنا، تتنفّس تُضيء وتُظلم مثلما أظلم بيتنا عندما غادر أخي، وغادر كثير من شهداء هذه البلاد. أن يغدو الرجوع إليها أملًا وألمًا في آن، أن لا تطيق المكوث بعيدًا وتُقاطعك مشاهد الدمار والدماء.

تغنّي فيروز “رجعت على بيتي ما لقيته لبيتي/ دخّان وزوايا لا ورد ولا سور/ عم بيروحوا متل رفوف سنونو..”، كم نخاف أن نرجع إلى بيوتنا ولا نجدها! صدق من قال “الجنة بلا ناس لا تُداس”. تكتئب البيوت في غيابنا، تُسلّم نفسها للموت، يأكلها الغبار والصدأ، ويبدو مشهد تدميرها إعلانًا بأنّها قاومت كثيرًا حتّى الجدار الأخير.

في انتظار أيّام عودتنا تخجلُ منّا البيوت المهدّمة، تعاتبنا لأنّنا تركناها إلى مصيرها، ويبدو حُطامها امتدادًا لحُطام أيّامنا التي نسينا وتناسينا عدّها لتشابُهها عندنا.. نرى البيوت من بعيد، من خلف الشاشات تنادينا بصمت، أن نعود ألّا نتركها وحيدة..

لا أحبُّ النزوح، يسألني حسين: ولِما؟ أترك سؤاله معلّقًا وأذهب.. وعند العصر يكرّر عليّ سؤاله، فأخبره بأنّني مرتاحة هنا. وأردّ له السؤال بمثله، فيضحك وهو يلّف سيجارته، ويضع يده على قلبه.

في انتظار أيّام عودتنا تخجلُ منّا البيوت المهدّمة، تعاتبنا لأنّنا تركناها إلى مصيرها، ويبدو حُطامها امتدادًا لحُطام أيّامنا التي نسينا وتناسينا عدّها لتشابُهها عندنا

بيت الضيعة

أُراقب وجوه المارّة من منطقة نزوحنا، أُتفحّصُ البيوت، أنظر من أبوابها المواربة، هل مدّوا السجاد؟ ماذا لو كنتُ هناك في بيتنا أفرش سجّاداتنا، (بيت العائلة نبقى نسمّيه بيتنا حتّى لو صارت لنا بيوت)، ويخرج الأطفال إلى الطريق ليعانقوا بضحكاتهم الشتوَة المصحوبة بحبيبات البرَد التي تتكوّم على بعضها ثلجًا موقّتًا.. تلاحقهم الأمّهات، تنده عليهم كي يدخلوا حتّى لا يصابوا بالزُكام..

يُحضر أبي الحطب من “حاكورتنا”، حيث جمّع رُزمًا كثيرة خلال فصل الصيف. تنظّف أُمّي الصوبيا، تدهنها بالزيت كي يذهب عنها الصدأ، يساعدها أخوتي في تركيب “قساطلها”.

يطلب إليها أبي أن تقتصد في إيقاد الحطب خلال النهار. أبي يمضي معظم نهاره في الحقل قرب البقرات، يسرحُ بها في أمان الله، حين كانت الحقول أمانًا! حتّى عندما يكون الطقس عاصفًا، يضع الزوّادة في كيس، وزوادته رغيف خبز ونوع من طعام، ومصحف صغير وكتاب يقرؤه، وعند العصر يذهب إليه أخي حسين بـ “التوك توك” الأصفر خاصّته، يساعده في حلب البقرات، يكنّس روثها ويرميها في مكان مخصّص لتجميع الروث الذي يغدو بعد يباسه سمادًا للزرع.

يوميّات أضحت ذكريات

يحمل أخي حسين عن والدي جرّة الحليب وما جمعه من حطب، ويحضران إلى البيت. يُخبر أبي أمّي ما حصل معه طوال النهار، عن البقرة رُمّانة التي عذّبته اليوم فضربها، تصرخ أمّي بوجهه وتقول له: “يا ويلك من الله”، يحني أبي رأسه متمتمًا، وعندما يجد الموقد مطفأً، يصرخ بنا: لماذا لم تسارعوا إلى إضافة الحطب فوق الجمر قبل أن تهمد النار؟ تعود الجمرات وتتوهّج من جديد وتشتعل النيران ويعمّ وهجها الغرفة، ونبدأ بالابتعاد عن الصوبيا بعدما التصقنا بها عندما خفتت نارها. يُحضر حسين صحن اللبنة وكاسة الزيتون وما قطفه من بقولات “حاكورته” المتواضعة (فرفحين وبصل أخضر وحبق، وزعتر أخضر..)  ويدعونا لنشاركه العشاء.

أُراقب وجوه المارّة من منطقة نزوحنا، أُتفحّصُ البيوت، أنظر من أبوابها المواربة، هل مدّوا السجاد؟ ماذا لو كنتُ هناك في بيتنا أفرش سجّاداتنا، ويخرج الأطفال إلى الطريق ليعانقوا بضحكاتهم الشتوَة المصحوبة بحبيبات البرَد

أستيقظ من غفوة الذكريات على صوت الجارة تدعوني إلى الدخول من حيث سرحت. أعتذر منها وأعدها بزيارة يومًا ما.

أكمل طريقي إلى حيث تنتظرني أُختي في سيّارتها كي نذهب لشراء بعض الحاجات، أنظر إلى الناس باستغراب وكأنّني كنت في حبس انفراديّ، رائحة جميلة لصبيّة تمرّ بقربي، نسيت فاكهة العطور منذ أن نزحنا، أو عندما بدأت الحربُ تنهشُ أرواحنا، صرتُ في حال إنكارٍ لجسدي ولنفسي.

حتّى العتمة الأخيرة

في اليوم الأوّل من الحرب، عندما بدأ الناس يغادرون منازلهم ويحملون ما تيسّر من متاعهم هربًا إلى بيروت ومناطق الجبل والشمال، بقيتُ في بيتي بحال من ذهول، يومها انقطع التيّار الكهربائيّ وبقينا حتّى العتمة الأخيرة. وافقت زوجي على أن نذهب إلى بيت أهلي في الضيعة المجاورة، إذ لم يكونوا قد قرروا النزوح بعد.

تقع عيني على نسوة جالسات على شرفة مطلّة على الشارع في الطابق الرابع، حيث مبنى يصلح لمكاتب ومحال تجاريّة في الأسفل، أفكّر كيف استغنى الناس عن رفاهيّتهم. أفكّر بأنّ ما أعتقده استغناء هو واقع عايشه كثيرون زمنًا، بل هو شيء من تاريخ سكنهم.

ألّا تعود النبطية نبطية..

تُغنّي فيروز: “أنا خوفي يا حُبّي لتكون بعدك حُبّي ومتهيّألي نسيتك وإنت مخبّى بقلبي..”. يا خوفنا ألّا تعود النبطية نبطيّة، أُردّد معها!  أشعر بالألم، ألم أن أُجبر على التخلّي عن هناك، كنت وما زلت في حال إنكار للواقع الذي لم أستطع استيعابه، ألّا تعود النبطية هي المكان الذي نقصده للتسوّق و”للتفتُل” على المتاجر، هاربين من ضيعنا الصغيرة “المتحوكمة” حولها.

النبطية ركام بعد ركام

أن يأتي الإثنين بلا سوقها، وبلا متاجرها وبلا طرقاتها وعجقاتها، أن يخمد صوتها ولا يطربنا “الشَعَّار” بما يبثّه من أغان وأناشيد حماسيّة تتوافق وتبدّل الأحوال والمناسبات، ألّا نجد محل الأرناؤوط حيث سندويش الفلافل الساخنة، ولا سلطان الحلويات “اللّي أسعاره غالية بس الحلو عنده حلو”! ولا دكاكين الألعاب، ولا مكتبة حجازي، ولا “فوبّيجو” حسان الذي كان يعجّ بروّاده، ولا، ولا، أن تختفي المعالم إحساس كاللعنة!

ماذا لو تنتهي الحرب؟

أجلس في غرفة المدخل، الفارغة إلّا من كراكيبنا، هنا كراتين مكدّسة وضعنا ثيابنا فيها، وهنا حقيبة، وفي الزاوية لوح أبيض فرشنا فوقه أحذيتنا، وفي الزاوية الأخرى فرشات النوم، على كومة أغطية تكدّست فوق كرسيّ ممزّق قماشه، أسرح في فراغ الفوضى.

في الغرفة الثانية، ثلاث كنبات صغيرة، وفرشتان وطاولة، وغطاء وضعته على الأرض كي يقينا قليلًا من برد تشرين المطلّ على كانون الأوّل. وفي الغرفة الأخرى يبني الأطفال خيَمهم من الأغطية والفرش، ثم يهدمونها في خلاف على حقّ الملكيّة؛ أجلس وحدي من دونهم جميعًا، اشتقت إلى وحدتي في بيتي، اشتقت إلى حرّيتي في التنقّل هناك، اشتقت إلى وجهي في المرآة الذي شتمته ألف مرّة ومرّة وأنا أحصي فيه البقع الداكنة، أو أشذّب حاجبي، وتذكّرت أغنية فيروز “إتهرّب من نسيانك ما إطّلع بمراية”.

اشتقتُ إلى تصفّح هاتفي بعيدًا من مجموعات الأخبار، دون أن يخترق مزاجي مشهد صور الشهداء، البيوت المهدّمه، أو تلك الفيديوات التي يستعرض فيها عدوّنا الجبان تدميره لقرانا، أوقف المشهد قبل اكماله كي لا يزيد انهياري.

لو يعلنون اليوم انتهاء الحرب

أفكّر ماذا لو يعلنون اليوم انتهاء الحرب؟ نستطيع أن نصبر للغد أو لبعده أو…  فقط أن ينتهي الخوف، أن تنكسر شوكة العدوّ وأن يعود حماة الديار إلى بيوت أهليهم، وأن يستطيع الفاقدون إقامة مراسم العزاء كما يليق بشهدائهم.. وأن يبدأ الناس بالعودة من فوق الجسور الآيلة إلى السقوط، وفوق الطرقات المدمّرة، أن يعودوا كي يعانقوا الأرض التي فدَوها بدمائهم ونزوحهم وقهرهم…

أفكّر ماذا لو يعلنون اليوم انتهاء الحرب؟ نستطيع أن نصبر للغد أو لبعده أو…  فقط أن ينتهي الخوف، أن تنكسر شوكة العدوّ وأن يعود حماة الديار إلى بيوت أهليهم، وأن يستطيع الفاقدون إقامة مراسم العزاء

يقول مدوّن في مجموعة إخباريّة “النصر يحتاج إلى تضحية ودفع أثمان”. ألم يُدفع الثمن بعد يا الله؟! إلامَ نبقى كبش محرقة في سياسات لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟ هل الحياة بمنتهى هذه البساطة والتأفُف؟ من قال إنّنا اخترنا الحرب؟ من قال إنّ عدوّنا مسالم ولا يبتغي سوى لجمنا عن مساندة جيراننا؟ من قال؟ قصص أطفالهم تقول كثيرًا، كثيرًا ممّا لا يريد البعض، أو نسبة لا بأس بها سماعه.

تخبرني أختي أنّ صاحب المنزل حيث استأجر أهل خطيبها في إحدى الأماكن التي تصنّف أنّها آمنة، طردهم منه بعدما دفعوا إيجاره لمدة ثلاثة أشهر سلفًا، والسبب هو احتجاج الأهالي هناك: لا نريدكم هنا.  لا نريد محجّبات في منطقتنا. “استحت فرنسا، والله استحت”. تقول أختي

لا مثيل له هذا العام

في صباح يوم الفاجعة، يعدّ حسين قهوته ونجلس على “البرندا” المطلّة على سفح جبل، نتابع الأخبار سويًّا.

مرتديًا كنزة جديدة سماويّة اللون، وشورتًا قصيرًا كعادته، يسألني إذا كنت أريد شيئًا من الدكّان إذ سيفتح صديقه متجره لمدّة وجيزة، أذكره بحفاضات ابنتي الصغيرة ماسة؛ يسألني إذا كنت أريد شيئًا آخر؟ “لا تنسَ الشوكولا”، يبتسم لي ويرحل.

ينعق غراب بصوت يثير القلق في نفسي. فكثيرًا ما تنعقُ الغربان في الحقول المجاورة لبيوتنا، يصلنا الخبر عصرًا: “حسين استشهد”. الصور في رأسي تشبه الوداع، ضحكته، شعره الذي أحبّه طويلًا ولم يهتمّ إلى انتقادات أحد، قمصانه المورّدة، و”توك توكه” الأصفر الذي كان جاهزًا ليقلَّنا متى نشاء إلى أيّ مكان سنقصده.

وداع بلا مراسم

في برّاد الموتى ممدّدًا كما النوم، عين مطفأة وأخرى مغمّضة، دم متكوّمٌ حول فمه، تنهار أمّي بكاءً، نخرجها بصعوبة، تنكش التراب بيدها وتذره على وجهها، ذهب مدلّلها!

في اليوم التالي لأحزاننا يحضرون حسين ورفاقه إلى المغسل، ينتظر دوره مثلما كان ينتظر دوره كي يستحمّ في البيت، يطول غسله، فهو كان يحب البقاء طويلًا تحت الماء، مبلّلا بالماء.

يُصلّى على الشهداء، وعلى عجل يوارون بلا مراسم تعزية وبلا خطابات وداع، ويغيب حسين ورفاقه هناك إلى الأبد. هذه الحرب أخذت كثيرًا من الأحبّة، غيّبت كثيرًا من الوجوه التي لم نتوقّع يومًا غيابها، هذه الحرب اللعينة أبعدتنا عن بيوتنا وأرضنا وجنوبنا وعن أحبابنا وفلذات أكبادنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى