لاجئون سوريّون جنوب لبنان نزوح متكرّر دون خيارات
أصابت الحرب المستمرّة منذ تسعة أشهر وأسبوع جميع قاطني أكثر من ثلاثين مدينة وبلدة وقرية جنوبيّة تعتبر في خطّ المواجهة الأوّل للاعتداءات الإسرائيليّة التي أمعنت فيها قصفًا وهدمًا وتدميرًا تجاوز في بعضها ما يفوق 50 بالمئة من المنازل والأبنية والمؤسّسات التجاريّة والصناعيّة، إلى خسائر فادحة في مزارع الماشية والدواجن ومساحات واسعة من المزروعات الموسميّة والدائمة المتنوّعة، وكانت ترتكز في معظمها على اليد العاملة السوريّة التي تنتشر جماعات وعائلات بين هذه المناطق، وتقيم إمّا في بيوت سكنيّة أو في تجمّعات ومخيّمات.
لقد أصاب العائلات السوريّة ما أصاب العائلات اللبنانيّة التي نزحت بالآلاف (أكثر من مئة ألف) عن معظم بلدات المواجهة الأماميّة إلى مناطق خلفيّة وأكثر أمنًا، ولجأت إلى بعض مراكز الإيواء أو إلى منازل الأقارب أو إلى بيوت مستأجرة، ساعدتهم في تحمّل بعض أعبائها الهيئات الخدماتيّة التابعة لـ”حزب الله” بمبالغ وصلت إلى حد 500 دولار لكلّ عائلة نازحة مستأجرة، وتلقوا مساعدات غذائيّة وفرشًا وحرامات من الدولة اللبنانيّة أو من جمعيّات مختلفة.
أبواب موصدة
لكنّ العائلات السوريّة وجلّها من النازحين عن بلادهم جرّاء المعارك والأحداث الدامية في سوريا، أصيبوا بنكسة أخرى، إذ لا حول لهم ولا قوّة وأربابها يعملون باليوميّة لتأمين معيشة عائلاتهم، إلى جانب ما كانوا يتلقّونه من مساعدات ماليّة من الأمم المتّحدة وقد انقطع جلّها وتوقّفت منذ بداية الحرب في الثامن من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023.
أضحت العائلات السوريّة التي تقطن في بلدات ومناطق المواجهة الأولى أمام خيارين أحدهما أمرّ من الآخر: إمّا البقاء في مناطق المواجهة تحت الخطر والقصف وتحمّل دوي القنابل والصواريخ الذي ينبعث من كلّ مكان، أو النزوح إلى أماكن نائية كما فعلت العائلات اللبنانيّة، لكنّ هذا الأمر يحتاج إلى مصاريف إضافيّة ومبالغ طائلة وقد باتوا عاطلين عن العمل، في مقابل تمنّع المخيّمات السوريّة المنتشرة في البقاع عن استقبالهم كونها مكتظّة أصلًا، فيما اعتبر القيّمون عليها دخول عائلات جديدة وكثيرة وبهذا الأمر المستجدّ والطارئ سيحدث بلبلة وخللًا، فسدّوا المداخل وأوصدوا الأبواب.
انعدام الفرص
قبل نزوح العائلات السوريّة إلى لبنان منذ 14 عامًا بسبب الحرب، كانت عائلات قد سبقتها إلى مختلف المناطق اللبنانيّة، ومنها الجنوبيّة التي كانت قد تحرّرت للتوّ، للعمل في قطاعيّ الزراعة والبناء وأسّست للبقاء والعمل تجمّعات لها في أكثر من منطقة جنوبيّة، منها التجمّع الكبير في “مخيّم إبل السقي” الذي تقطنه حوالي 200 عائلة سوريّة، أيّ أكثر من ألفي نسمة يقيمون في نحو 140 خيمة مبنيّة من الصفيح والتنك والنايلون وبقايا الأخشاب. وبسبب الحرب في جنوب لبنان نزحت عن هذا المخيّم عائلات كثيرة ثمّ عاد بعضهم بعدما اصطدموا بالإيجارات المرتفعة للبيوت والشقق السكنيّة المستأجرة في أماكن النزوح الجديدة، وانعدام فرص العمل.
يؤكّد وليد خلف من إدلب ويبلغ 40 سنة ولديه خمسة أبناء، أنه من مؤسّسي مخيّم إبل السقي فيقول: “نحن هنا منذ 2001، أتينا مجموعة صغيرة من المزارعين وأقمنا في المنطقة، نحن من مؤسّسي هذا المخيّم أنا وشقيقي الراحل حياة، وعائلاتنا التي تبلغ 12 عائلة وقد زرعناه بما تيسّر، ونحن لم نخرج من هنا إلّا في عدوان 2006 وكانت سوريا آنذاك في أفضل أحوالها، فإلى أين سنذهب اليوم؟ إن ذهبنا إلى النبطية لن نجد بيتًا بأقلّ من 250 دولارًا إلى 300 دولار؛ وفي البقاع هناك زحمة غير طبيعيّة، ومن يقصد مخيّمات المنطقة هناك يُمنع من الدخول إليها ومن وجهة القيّمين عليها أنّهم لا يريدون إدخال غرباء إلى المخيّمات”.
“نحن الطائفة الـ19”
ويشير خلف في حديثه إلى “مناطق نت” إلى أنّ بعض النازحين السوريّين إلى البقاع استأجروا بيوتًا “ومن لديه معارف لجأ إلى بعض الخيم أو المخيّمات الصغيرة، بعدما جرت اتّصالات مع مخابرات الجيش اللبنانيّ وأمن الدولة لتأكيد معرفتهم بهم وضمان إقامتهم المؤقّتة. عندنا هنا أكثر من 135 خيمة لكن منذ الحرب وحتّى اليوم لم نجرِ إحصاءً لمن ترك ومن بقي، لكن جميع من كانوا هنا قبل الحرب كانوا يعملون بالزراعة والبناء في مرجعيون والخيام والجوار، وتربطنا بسكّان المنطقة علاقات وثيقة واحترام متبادل، ولم نلمس أيّ عنصريّة تجاهنا على نحو ما يحصل في مناطق أخرى من لبنان”.
في عدوان وحرب تمّوز/ يوليو وآب/ أغسطس سنة 2006 نزح عديد من أبناء المنطقة إلى سوريا وحلّوا ضيوفًا على بيوت خلف وأشقائه وعائلات أخرى من إدلب “فأبناء هذه المنطقة جرّبوا مرارة الاحتلال والنزوح أكثر من مرّة ويدركون معنى الغربة وأن يكون أحد خارج بيته رغمًا عنه. نبقى اليوم على اتّصال متبادل مع أصدقائنا ممّن نزحوا إلى بيروت أو البقاع أو بعلبك أو إلى أيّ منطقة لبنانيّة، ونطمئنّ إلى أحوال بعضنا البعض، فلبنان فيه 18 طائفة ونحن أصبحنا الطائفة الـ19، وكلّ ما نتمنّاه أن يعود الجميع إلى بيوتهم وتنتهي هذه الحرب المؤلمة” يقول خلف.
أضحت العائلات السوريّة التي تقطن في بلدات ومناطق المواجهة الأولى أمام خيارين أحدهما أمرّ من الآخر: إمّا البقاء في مناطق المواجهة تحت الخطر والقصف وتحمّل دوي القنابل والصواريخ الذي ينبعث من كلّ مكان، أو النزوح إلى أماكن نائية
عندما تعرّض جوار المخيّم في عريض بلاط ودبّين للقصف منذ نحو أسبوعين تأثّر المقيمون في المخيّم “إذ حصلت الغارة على مسافة لا تبعد أكثر من 200 متر عن المخيّم فخاف الكبار والصغار، وتضرّرت عندنا خزّانات المياه وشبكات الطاقة الشمسيّة وتحطّم زجاج بعض السيّارات، لكن حمدنا الله ألّا إصابات في صفوفنا أو في صفوف جيراننا” بحسب خلف.
إلى العمل تحت الخطر
لا ينقطع أبناء المخيّم، نساءً ورجالّا سعيهم للبحث عن أيّ عمل يدرّ عليهم بعض قوتهم اليوميّ، وهم يغامرون في كثير من الأحيان بالذهاب إلى مناطق وحقول زراعيّة ليست بعيدة كثيرًا عن خطوط المواجهة والقصف.
يقول خلف: “ذهبت البنات والنساء منذ أسبوعين إلى العمل بالزراعة في سهل الوزّاني وحصل عليهنّ إطلاق نار من مواقع العدوّ المشرفة على المنطقة، فأسرعنا إلى إعادتهنّ كي لا يقعن ضحيّة هذه الاعتداءات. وعندنا أكثر من عائلة يقصدون اليوم منطقة الخردلي بين النبطية ومرجعيون للعمل في زراعة التبغ مع طانيوس نهرا من القليعة، وهي قريبة من مركز الجيش اللبنانيّ، ولا خيار أمامنا إلّا أن نغتنم أيّ فرصة للارتزاق كي نعيش، إذ لا مصدر آخر يمكن أن يعيننا في هذه الأزمة المستمرة منذ تسعة أشهر وتدخل في شهرها العاشر”.
يدرك العمّال السوريّون والنازحون من بلادهم أنّ ظروف لبنان صعبة جدًّا “إن كان على المستوى الاقتصاديّ الماليّ وانهيار الليرة ولعبة الدولار والأزمات الخارجيّة التي تنعكس على البلاد إذ إنّ كلّ الدول تريد أن تضع يدها في لبنان وتضغط على أهله وسكّانه، ناهيك بأزمة النازحين السوريّين، ثم أتت هذه الحرب الأخيرة ودمّرت عديدًا من المناطق الجنوبيّة، وبتنا نحن وهم مطوّقين بالوجع من كلّ ناحية ولا حيلة لنا إلّا الصبر” والكلام لخلف.
“مخنوقون بحركتنا وعملنا”
نزحت عائلات كثيرة عن مخيّم إبل السقي إلى مناطق بعيدة من القصف والخطر، وعاد إليه كثيرون ممّن نزحوا بسبب الأحوال المادّيّة، فهم يجدون بعض الأمان في مخيّمهم، وبحسب خلف “كون المخيّم قريبًا من مركز قوّات الطوارئ الدوليّة “اليونفيل” وبين مرجعيون وإبل السقي البعيدتين نوعًا ما عن الاستهداف المباشر، لكنّنا مع ذلك مخنوقون بحركتنا وعندما نخرج إلى بعض أعمالنا نحسب ألف حساب لخروجنا، خصوصًا بعدما فقدنا سوقنا في الشراء والتبضّع، وأقصد بلدة الخيام المجاورة والتي نزح جميع أهلها وطالها كثير من الدمار والخراب”.
أصيب أحد أطفال المخيّم ممّن لجأ مع ذويه إلى مزرعة دواجن قريبة بحروق من الدرجة الثانية، بتاريخ الثامن من تمّوز 2024، هو الطفل وسيم محمود شبلي البالغ 11 عامًا بعدما لمس بالونًا حراريًّا ألقته إحدى الطائرات الإسرائيليّة، ونقل إلى مستشفى مرجعيون الحكوميّ حيث عولج وخرج على مسؤوليّة والده. ويؤكّد خلف “أنّنا أوصينا أطفالنا ألّا يلمسوا أيّ جسم غريب حفاظًا على سلامتهم وأرواحهم خصوصًا أنّنا نجاور حرجًا من الصنوبر، وطلبنا إليهم إبلاغنا عن أيّ جسم غريب فور مشاهدته، فالإسرائيليّون لا يخافون الله، والمثل يقول: من لا يخف الله خَفْ منه”.
يقيم عمّار الحمدو في سهل بلاط مع عائلته و10 عائلات سوريّة أخرى، جميعهم من أدلب بعدما نزحوا عنها سنة 2011. يقول لـ”مناطق نت”: “نزحت أنا وعائلتي مدّة شهر و”عفنا التنكة” رحنا إلى البقاع ودفعنا أجرة بيت أكثر من 200 دولار ونحن بلا عمل هناك، تبهدلنا آخر بهدلة، وتحمّلت بعض الديون التي لا أستطيع سدادها إن بقيت بلا عمل، إذ لا عمل متوافر في كلّ يوم”.
ويضيف: “قد نخرج يومًا أو يومين إلى عمل سريع ونتحرّك في مسافات قريبة من مكان إقامتنا بين بلاط ومرجعيون وحاصبيّا ليس أكثر ونعود فورًا، لأنّ التنقّل على الطرقات محفوف بكثير من المخاطر. وقد اشتغلنا بحصاد القمح وكان لفترة محدودة؛ أمّا العمل في مجال البناء فهو متوقف تمامًا منذ تسعة أشهر”.
السوريّون سكّان شبعا
تعتبر بلدة شبعا التجمّع الأكبر للسوريّين في منطقة حاصبيّا، ساهم في تجمعّهم هناك نزوح أبناء شبعا ليس منذ الحرب الأخيرة فحسب، بل منذ سنوات سبقتها إذ كانت البلدة الأعلى في قضاء حاصبيّا تتعرّض للقصف والاعتداءات المستمرّة ولم تتحقّق فيها عودة كاملة لأبنائها بعد التحرير في سنة 2000. فقبل الحرب الأخيرة كانت تقطن بين 500 إلى 600 عائلة سوريّة في شبعا وجلّهم نزحوا عن بلداتهم وقراهم في درعا وحماه وإدلب وبيت جنّ (وهي مزرعة تقع في محافظة ريف دمشق).
يشير العامل محمّد أبو عسّاف والمقيم في شبعا (حاصبيّا) إلى أنّ “أكثر من نصف العائلات السوريّة المقيمة وتعمل في قطاعي الزراعة والبناء في شبعا نزحت إلى شويّا وعين قنيا وميمس وبلدات قريبة من حاصبيّا أو إلى البقاع أو غادرت إلى سوريا، خصوصًا بعدما تعرّضت أعالي البلدة للغارات والقصف المدفعيّ وتراجعت مجالات العمل والارتزاق.
ويضيف: “ما يشجّع العائلات السوريّة على البقاء في شبعا هو البيئة القرويّة السائدة فيها، وتشبه إلى حدّ بعيد مناطقهم التي نزحوا عنها من سوريا، فالإقامة هنا أسهل من أيّ مدينة أو بلدة مفتوحة. ويخيّم على الجميع جوّ من الألفة، لكن الناس بعد تسعة أشهر من الحرب أضحت أوضاعها بالويل وبعض العائلات تحت الصفر”.
مساعدات لا تُذكر
ويلفت أبو عسّاف في حديثه إلى “مناطق نت” إلى أنّ “الصليب الأحمر الدوليّ قدّم منذ شهرين أو أكثر مساعدة غذائيّة لجميع السوريّين المقيمين في منطقة حاصبيّا وبعدها لم يتلقّوا منه أيّ مساعدة. أمّا الأمم المتّحدة فلا تدفع إلّا للعائلات الكبيرة مبالغ زهيدة لا تسدّ جوعًا. وتقدّم الجماعة الإسلاميّة بعض المساعدات العينيّة وكذلك البلديّة التي أجرت إحصاءً للعائلات التي بقيت في البلدة بعد نزوح أكثر من نصف المقيمين هنا”.
ويؤكّد صديق “أبو عسّاف” وهو سوريّ مقيم في شبعا وآثر عدم ذكر اسمه أنّه يتّصل عدّة مرّات بمكتب الأمم المتّحدة “بغية الحصول على استمارة إقامة يجب أن أقدّمها إلى الأمن العام اللبنانيّ كي أجدّد إقامتي السنويّة في لبنان، ولا يردّون عليّ، بعدما تلقّيت منهم الوعود تلو الوعود حتّى انكسرت إقامتي وبات عليّ أن أدفع أكثر من خمسة ملايين ليرة كي أحصل على إقامة جديدة، إذ إنّ استمارة الأمم المتّحدة كانت تعفيني من دفع رسوم الإقامة”. ويشير في حديث إلى “مناطق نت” إلى أنّ مكتبهم يقع في مدينة صور “وليس بإمكاننا الذهاب إلى هناك على تلك الطرقات التي باتت صعبة وخطرة، وهم لا يأتون إلى هنا كما كانوا يفعلون سابقًا”.
صمود بلا أشغال
تشتغل “أمّ معاد” ممرّضة وتتابع أحوال السوريّين في شبعا مع لجنة تنسيق المخيّمات السوريّة. وتؤكّد أنّ “قسمًا لا بأس به من السوريّين المقيمين في منطقة حاصبيّا عادوا إلى سوريا عبر المنافذ غير الشرعيّة، ومنهم 15 عائلة عادت عبر معبر المصنع الحدوديّ، وبقيت النسبة الأكبر هنا في شبعا، وقد أحصينا عدد العائلات المتواجدة في المنطقة وجاءت على النحو الآتي: 260 عائلة في شبعا، ستّ عائلات في كفرحمام، 20 عائلة في ميمس مع أفراد من الشباب، ونزحت 17 عائلة عن كفرشوبا إلى الهبّاريّة، وعائلة من كفركلا إلى الهبارية كذلك، وتقيم اليوم في الهبّاريّة 143 عائلة سوريّة”.
تعتبر بلدة شبعا التجمّع الأكبر للسوريّين في منطقة حاصبيّا، ساهم في تجمعّهم هناك نزوح أبناء شبعا ليس منذ الحرب الأخيرة فحسب، بل منذ سنوات سبقتها إذ كانت البلدة الأعلى في قضاء حاصبيّا تتعرّض للقصف والاعتداءات
وتشير “أمّ معاد” في حديثها لـ”مناطق نت” إلى أنّ “من استطاع ترك المنطقة لم يتأخّر، ومن لا قدرة له على الذهاب والتنقّل لم يكن أمامه إلّا خيار البقاء هنا. ومن كانوا يقطنون عند أطراف البلدة نزلوا إلى وسطها بسبب الخطر الشديد الذي تتعرّض له مرتفعات شبعا من غارات وقصف مدفعيّ. وعندما تحصل غارات يتجمّع الناس في أماكن أكثر أمنًا. في المقابل يمكن الجزم ألّا فرص عمل متوافرة للجميع أو بشكل جدّيّ، فالناس محاصرة ولا تجرؤ على الخروج إلى أماكن بعيدة من سكنها ويخافون التنقّل على الطرقات”.
الأمم المتّحدة: 75 دولارًا لخمسة أطفال
وتلفت إلى أنّ مستوصفين اثنين في شبعا يقدّمان خدمات طبّيّة متواضعة وبعض الأدوية المجّانيّة للمقيمين السوريّين مقابل مبالغ رمزيّة، وتضيف: “من يضطرّ إلى العلاج أكثر فيقصد خارج شبعا ولا حول له ولا قوّة. فقد مرّت تسعة أشهر على الحرب وهذه الأزمة ولم يوزّع الصليب الأحمر الدوليّ إلّا مرة واحدة سلّة غذائيّة لجميع السوريّين المقيمين في منطقة حاصبيّا من دون استثناء، ومن يحمل بطاقة غذائيّة من مفوّضيّة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين يتلقّى 15 دولارًا على الولد الواحد شرط ألّا يتعدّى عدد الأولاد الخمسة كحدّ أقصى”.
يبلغ عدد التلامذة السوريّين المسجّلين في مدرسة شبعا الرسميّة، في فترة ما بعد الظهر 340 تلميذًا، ومع ذلك لا يتلقّون جميعهم مبلغ الـ15 دولارًا في الشهر الواحد، أيّ ما مجموعه لو حصل الجميع على هذا المبلغ 5100 دولار “وهو مبلغ زهيد جدًّا. ولا يكفي مجموع العائلة الكبيرة الذي يبلغ 75 دولارًا إلّا لمؤونة محدودة من سكّر ورزّ وبعض الزيت، لن تكفي الشهر كلّه ولكنّها تسدّ حاجة وهي أفضل من لا شيء”.
أوضاع نفسيّة مزرية للأطفال
وتجزم “أمّ معاد” أنّ ظروف العمل باتت ضيّقة جدًّا ومحدودة، “ليست في مناطق المواجهة فحسب، بل في منطقتي حاصبيّا ومرجعيون بأكملهما، وهذا لا ينعكس على السوريّين فقط بل كذلك على اللبنانيّين الذين فقد معظمهم أعمالهم ومصالحهم، ومن الطبيعيّ أن يتأثّر السوريون في ذلك وهم كانوا يعملون في هذه المصالح والزراعة وغيرها، لكن تبقى حركة اللبنانيّ متاحة أكثر نظرًا إلى العلاقات وصلات القرابة والروابط العائليّة وامتلاكه وسائل النقل والتحرّك”.
وفي الأوضاع النفسيّة للأطفال السوريّين تؤكّد “أمّ معاد” أنّ “الحرب تركت آثارها البالغة على الأطفال، خصوصًا من ولد منهم هنا ولا يعرف معنى الحرب، فإنّ أصوات القذائف والانفجارات وجدار الصوت تصيبهم بالهلع والرعب وباتوا بحاجة إلى متابعة متخصّصين نفسيّين. قبل الأزمة كانت منظّمة “أنترسوس” تقيم لها في شبعا عيادة طبّ نفسيّ قريبة من المدرسة الرسميّة، لكنّ القيّمين عليها غادروا منذ بدء الحرب ولم يبقَ منهم غير موظّف واحد ولا يتواجد في العيادة. كلّ الأطفال هنا، بل جميع الناس باتوا بحاجة إلى علاج نفسي ومتابعة جرّاء ما يتعرّضون له”.
تحت كاهل الديون
يتحدّث سليم محفوظ من التابعيّة السوريّة ومقيم في شبعا إلى “مناطق نت” عن فقدان السيولة المادّيّة بين أيدي الناس. يقول: “قبل الحرب كانت خير الأمور أوسطها، نستطيع أن ندفع أجرة البيت، وفواتير المياه والكهرباء والإنترنت ونأكل ونشرب ليس أكثر، ولم نكن نريد أكثر من ذلك، وكانت يوميّة العامل السوريّ قبل الأزمة الاقتصاديّة 20 دولارًا، لكن اليوم نقبل بـ10 دولارات إنّما من أين نأتي بالعمل والعائلة تحتاج يوميًّا إلى ما لا يقلّ عن 20 دولارًا؟ لذلك نحن أضحينا أسرى الديون المتراكمة”.
يتمنّى محفوظ لو أنّه يستطيع أن يسافر إلى بلد أوروبّيّ أو أن يرسل شقيقه إلى هناك، “فعلى الأقلّ يصبح لنا بعض الدخل بالعملة الصعبة ونستطيع أن نقف على أقدامنا. هنا ندفع 100 دولار أجرة البيت لكن من أين لنا 200 و300 دولار كي نخرج بعيالنا من هذا الجحيم المستعر منذ تسعة أشهر؟ ومن كان يتلقّى من الأمم المتّحدة مبلغ 150 دولارًا بات اليوم يتلقّى ربع هذا المبلغ، أيّ ما بين 45 و75 دولارًا، وكيف ستكفي عائلة مثل عائلتي مكوّنة من ستّة أولاد، وأنا أعمل يومًا وأتوقّف 10 أيام؟”.
ويشير محفوظ إلى أنّ “المساعدات التي تُقدَّم إلى السوريّين في مناطق الجنوب لا تُذكر ولا تطال الجميع. قبل الحرب كنّا نتلقّى مساعدات لا بأس بها، لكن اليوم باتت قليلة وضئيلة لا تفي بالغرض. أمّا مساعدات الجماعة الإسلاميّة فليست شهريّة، هي توزّع كلّ ثلاثة أشهر أو أربعة. أمّا طبّيًّا وعلى المستوى المحلّيّ فنقصد مستوصف الحريري وندفع مبلغ 150 ألف ليرة معاينة، ويقدّمون الأدوية إذا كانت متوافرة، وإلّا فيجب أن نقصد الصيدليّات في حاصبيّا، إلى مسافة بين 10 أو 12 كيلومترًا”.
ويؤكّد محفوظ ختامًا أنّ نسبة الولادات تراجعت عند السوريّين المقيمين في الجنوب “منذ سنة تقريبًا مع تخلّي الأمم المتّحدة عن تحمّل كامل نفقات الولادة في المستشفيات، إذ تدنّت التغطيات الاستشفائيّة إلى الربع، وهي لا تشمل إلّا من كان مسجّلًا قبل العام 2012”.