لاجئو عرسال يفكفكون خيمهم تمهيدًا للعودة إلى سوريا
دائمًا يكون للأحداث السياسيَّة داخل سوريّا، تأثير مباشر على أوضاع لبنان الداخليَّة، سلبًا أم إيجابًا، في السلم والحرب، واقع فرضته الجغرافيا والتاريخ، لكنّ المؤسف أنَّ لبنان هو المتأثّر دائمًا وليس المؤثّر.
التغيِير الجذري الذي حصل في سوريّا أخيرًا، إذ سقط النظام بسرعة لم يتخيّلها أحد، ومع استتباب الوضع الأمنيّ إلى حدٍّ كبير، عاد ملف اللجوء السوريّ إلى الطرح على الطاولة سريعًا، أخويًّا أكان طرحه أم عنصريًّا كما هو خطاب البعض، بين من يريد التخلّص من السوريّين بأيّ وسيلة كانت، وبين من يريد لهم العودة الهادئة الآمنة وبناء أفضل علاقات الجوار والأخوّة معهم.
أعداد ضئيلة ولكن!
في الشكل سقطت أسباب اللجوء مع سقوط النظام، وزالت الذرائع الأمنيّة المانعة للعودة، لكن الواقع ليس كذلك، ولا يشبه العودة المليونيّة على الحدود السوريّة التركيّة، علمًا أنّ عدد اللاجئين السوريّين ممّن غادروا إلى بلدهم جرّاء الحرب الإسرائيليّة على لبنان قارَب الـ 400 ألف لاجئ، فيما شهد العدد تراجعًا كبيرًا بعد إسقاط النظام (قرابة 12 ألفًا بحسب بعض التقديرات الأمنيّة)، مع ملاحظة حدوث موجة لجوء جديدة إلى لبنان بعد إسقاط النظام ناهزت الـ 50 ألفًا بين لبنانيّين وسوريّين.
سنعود لنبني بلدنا
“متلهف للعودة إلى بلدي وبلدتي رأس المعرّة في القلمون، على رغم أنّني لا أعرفها، فقد حضرت إلى هنا طفلًا لا يتجاوز عمري الثلاث سنوات. سنعود كي نبني بلدنا بعدما دمره النظام المجرم”، هذا ما قاله يوسف بدير (19 سنة) لـ “مناطق نت”.
بدير الذي يسكن في مخيّم “طلال حيدر” للّاجئين السوريّين في بلدة عرسال، أجابنا بحُرْقَة عند سؤاله عمّا يعرفه عن بلدته، فقال: “لا أعرف شيئًا ولا أذكر أحدًا، لكن عند وصولنا غدًا سأبدأ بالتعرُّف على بيتنا وأقربائنا وجيراننا”.
وحول ما تعنيه هذه الخيمة التي يفكّكها رفقة عائلته أجاب: “لن أنسى هذه الخيمة طوال حياتي، هي كانت الوطن والبيت والأمان والغربة، كبرت وترعرت في داخلها، صحيح أنَّها خيمة لكن عشنا داخلها بكرامتنا، لم نؤذِ أحدًا ولم نزعج أيّ مخلوق، لن أنسى هذا المكان وسأعود إلى زيارته كلّما سنحت الفرصة”.
بدوره يؤكد ابن مدينة يبرود أبو مصطفى عزّو البالغ 65 عامًا في دردشة مع “مناطق نت”: “بدأنا بتوضيب أغراضنا، سننطلق الثلاثاء صباحًا، الدار تنادي أهلها والوطن ينادي أبناءه، سأعود مع أبنائي الثلاثة لنكون جزءًا من إعادة بناء وإعمار سوريّا”.
لم أصدّق ما سمعت
فرحة الصغار والشباب في العودة قد يكون سببها الفضول لاكتشاف الوطن الذي عرفوه من أحاديث الأهل وشاشات التلفزة، أمَّا الكبار والمسنون ففرحتهم ممزوجة بعذابات الغربة وقساوة التهجير إلى ما عانوه على يدي النظام السابق.
بلغ أبو محمد حمرا84 عامًا، هو من بلدة “حوش العرب” القلمونيّة. يصف لنا كيفيّة تلقّيه نبأ سقوط النظام في أثناء حديثه مع “مناطق نت” فيقول: “عندما وصلني خبر سقوط النظام صباح الأحد الثامن من كانون الأوّل (ديسمبر) الجاري، لم أُصَدّق ما سمعت، قلت لهم. أنتم تكذبون. وعندما رأيت المشاهد على شاشة التلفزيون أصابني ذهول عدة ساعات وأنا غير مُصَدّق، بعدها صَلّيت صلاة الشكر لله تعالى، فما حصل هو من شغل الله وليس البشر، الحمد لله أنّنا تخلّصنا من الظالمين”.
عن شعوره مع بدء تفكيك المُخَيَّم وترك هذه البلدة بعد 13 عامًا من الغربة، خانته رباطة الجأش وسالت على وجنتيه ولحيته البيضاء دموعٌ باردة مسحها وقال: “والله يا عمّ بلدة عرسال وأهلها لهم دينٌ في رقابنا حتّى قيام الساعة، عاملونا كأهل وأخوة، فراقهم صعب، لكنّني أتهيّب الموقف حين وصولنا إلى بلدتنا حوش عرب، فمن بقي من الأهل والأقرباء ورفاق العمر، كيف سيكون اللقاء معهم؟ يأتي الناس إلى هنا لوداعنا بحسرة وعاطفة أخويَّة، بعد يومين لن يبقى هنا مخيّم، 45 خيمة سنعود بها لأنّ غالبيّة بيوتنا مدمّرة وستكون الخيم مساكننا حتّى يقضي الله أمره”.
حمرا: يأتي الناس هنا لوداعنا بحسرة وعاطفة أخويَّة، بعد يومين لن يبقى هنا مخيم، 45 خيمة سنعود بها لأن أغلب بيوتنا مدمرة ستكون الخيم مساكننا حتى يقضي الله أمره
حول ضرورة عودة السوريّين يقول الحاج أبو محمد: “نعم العودة ضروريّة، علينا العودة إلى بلدنا وبنائه من جديد بدل التشرّد في بلاد الله، كلّ سوريّ عليه العودة لحظة استطاعته من دون تأخير”.
سألتقي أخي لأوّل مرّة
غربة الشعب السوريّ تحمل في طيّاتها قصصَ أهوالٍ ومآس يعجز الإنسان عن سماع معظمها، منها ما سيصبح مستقبلًا روايات أو سيناريوهات مسلسلات وبرامج.
يخبرنا الطفل مصعب حمرا (12 سنة)، أنّه ينتظر الوصول إلى بلدته حوش عرب بفارغ الصبر، حتّى يتعرف إلى أخيه صالح الذي يكبره بستِّ سنوات، لا يعرفه ولم يره سابقًا أو يلتقي به، فقط يكلّمه ويرى صورته على الهاتف “الجَوَّال” يقول: “أخيرًا سأرى أخي صالح، دائما يخبرني أنّه يحبّني ومشتاق إلى لقائي ومعرفتي”. أمَّا إذا كان ثّمة شيء يحزنه، يجيبنا مصعب: “فراق صديقي خالد يحزّ في قلبي، نحن في سنٍّ واحدة، ترعرعنا هنا سويًّا والآن ستفترق، هو ذاهب إلى الشام ونحن إلى بلدتنا، بالتأكيد سنلتقي حين نكبر فأنا لن أنساه”.
أشجعهن على التعافي
المشاهد الآتية من السجون تصعق عقلنا، لا نصدّق أنّ كلّ هذه الشرور موجودة في نفوس البشر، وأن يمارسها إنسان على إنسان أخر، فكيف على أبناء بلده وبخاصّة النساء وما تعرّضن له من ظلم وتعسّف.
ريم عزوز (21 عامًا)، طالبة جامعيّة من مدينة يبرود تحدّثت لـ “مناطق نت” حول عودتها مع أهلها إلى بلدهم، تقول: “الآن سننطلق بحياة جديدة من كلّ النواحي، الدراسة، الأصحاب، السكن، الجيران، المدَّرسين، زملاء الدراسة. كلّ شيء سيكون جديدًا، لكن هذه الحياة وهذا الواقع، مجبرون على تقبّلهما دون أيّ حقّ أو حريّة اختيار”.
أمّا أكثر ما هالها وأثَّر بها خلال الأيام الأخيرة تقول عزوز: “فرحة سقوط الطاغية لا يعادلها فرحة، لكنّنا اكتشفنا آلامها لاحقًا، ما يزيد على 10 آلاف امرأة سوريّة تعرّضن لأبشع أنواع الإذلال والاغتصاب والإهانة، سمعنا جميعًا عن سجينات دخلن عازبات وخرجن مع أطفال”. وتتمنّى أن “يلقى المغتصبون أقسى عذابات الكون من دون رحمة؛ أمَّا عن حياتهنّ بعد المعاناة فعليهنّ النهوض مع سوريّا، بلدنا يعاني العذاب وسيتعافى، هنَّ أيضًا عليهنّ سلوك دروب التعافي، وأيِّ شاب سوريّ يقدم على الزواج من سجينة سابقة سيكون فخرًا لكلّ السوريّين”.
العودة ستكتمل
“في النهاية سيعود كّل السوريّين إلى بلدهم” وفق ما يؤكّد منسّق مخيّمات اللاجئين السوريّين في عرسال سامر عامر الذي قال لـ “مناطق نت”: “أتوقّع عودة أكثر من ستّين ألف لاجئ من مخيّمات عرسال بحلول رأس السنة (من أصل 75 ألف لاجئ)، بعض الناس لا يملكون أجرة النقل، بعضهم الآخر بيته مُدَمَّر لا يعلم ماذا سيحصل، وكيف ستكون إقامته، لكن ما هو مُؤكّد أنَّ الجميع سيعود، لكن البعض يتريّث قليلًا بانتظار جلاء الصورة وإنهاء الأعمال المرتبط بها”.
ستكون قصّة اللجوء السوريّ إلى لبنان، بما لها وعليها، في صلب علاقات البلدين مستقبلًا، إنّها علاقات تأثير وتَأثُّر الجغرافيّا بالسياسة وبالناس، لا يمكن الفكاك منها، عسى أن تصبح بأرقى حال ولِمَا فيه مصالح الجميع.