لا تدفئة ولا غاز وتطبخ على الحطب ولديها إبن معوّق.. مأساة سهام البزال!
بالتأكيد ليست سهام البزال (أم علي) الوحيدة التي تعيش ظروفاً مأساوية شاءت الصدفة أن تكشف عنها. فهناك كثر يتفوقون على أم علي في المأساة وحالهم أصعب منها، لكن لم تحالفهم الصدفة لكي يتحولوا إلى ضحايا تحت الضوء لا في قلب العتمة، مع أن خروجهم إلى حيز الضوء لن يغير شيئاً في معاناتهم. أم علي البزال هي عيّنة صغيرة من المأساة التي تتوسع شمالاً وجنوباً بقاعاً وساحلاً وتطاول فئات واسعة من الشعب اللبناني الذي يتعمق انحداره يوماً بعد يوم إلى عمق الفقر والعوز والافتقاد إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة ومن خدماتها واحتياجاتها.
على نار الحطب “تسلق” سهام البزال في فناء منزلها في بلدة البزالية البقاعية البطاطا لإبنها المريض البالغ من العمر ١٩ عاماً ويعاني التوحد وكهرباء في الرأس. تستعين أم علي لإيقاد النار بأغصان الشجر الأخضر وأكياس النايلون وبقايا الكرتون والورق وغيرها. يساعدها في ذلك بقايا نفايات منزلية مجمعة قرب موقدة الحطب وكل ما تطاله يديها من أغصان وورق شجر لإبقاء النار مشتعلة لكي تستوي البطاطا الأكلة الوحيدة التي تقول البزال إنها تستطيع تقديمها لأبنها المريض علي، حيث اشترت الكيس منها بمبلغ 75 ألف ليرة، بقي ديناً بذمتها لدى البائع وعدته بتسديده قريباً.
لا وسائل تدفئة لدى أم علي بأنواعها كافة.. لا غاز للطبخ ولا اشتراك للكهرباء الغائبة معظم الوقت، شأنها شأن معظم المواد والخدمات الأخرى في ظل البرد والصقيع الذي يلف المنطقة. ليس هذا فقط ما تفتقده البزال، الدواء أيضاً صار خارج متناول يدها وهي التي تعاني أمراضاً عدة منها السكري والضغط وتلفاً في شبكة العين نتيجة الضرب المتواصل الذي تتعرض له من إبنها حين تنتابه نوبات عصبية، فضلاً عن أدوية إبنها المريض أيضاً.
في منزل سهام البزال
“مناطق نت” زارت سهام البزال في بلدتها البزالية وجالت في منزلها واستطلعت مأساتها التي يبقى وصفها قاصراً أمام ما شاهدته العين. عاينت موقدة النار حيث تطبخ في العراء، وأيضاً أثاث المنزل المحطم من كراسي وأواني وأدوات، جرّاء نوبات إبنها العصبية حيث يحطم كل ما تطاله يداه. عاينت مأساة من الصعب على أي إنسان تحملها، لكن أم علي تتعايش معها وتقاوم بأدوات بسيطة وبدائية للصمود أمام ما تعيشه من معاناة.
بالرغم من أن زوج أم علي حي يرزق ويعمل بكل جهد وكد، إلا أن ذلك لا يقدّم أو يؤخر في وضع مأساتها، فراتبه كما تقول لا يتعدى الـ 900 ألف ليرة أصبحت لا تكفي بدل نقل إلى عمله في بيروت حيث يعمل في مصنع إسفنج، ومن ثم العودة إلى البزالية نهاية كل أسبوع.
للبزال التي لم تدخل المدرسة ولا تجيد القراءة والكتابة ابنتان متزوجتان لكن حالهما ليست أفضل من حال والدتهما. لكن تبقى مأساة البزال هي إبنها المعوق التي قالت إنه مريض منذ الولادة، عمره الآن تسعة عشر عاماً يعاني من تأخر في النمو العقلي والبدني بسبب نقص الأوكسجين في الرأس مما يسبب له نوبات كهرباء لا تستطيع معها تهدئته. فيضربها من دون وعي ويلطم رأسه في الجدران مما تسبب له في أكثر من مرة بجروح بليغة استدعت إحداها نقله للمستشفى حيث خضع لعملية تقطيب في الرأس ١١ قطبة.
لا قدرة على دخول المستشفى
ثمان سنوات لم تزر سهام البزال بيروت، حينها أدخلت إبنها علي المستشفى ومكث فيها مدة طويلة نتيجة دخوله غيبوبة استمرت ١١ يوماً. يحتاج علي أسبوعياً لدواء ثمنه 250 ألف ليرة، إضافة إلى حاجته الدائمة للحفضات وسعرها غالي الثمن أيضاً. والآن هو بحاجة للدخول إلى مستشفى في زحلة من إجل إجراء تخطيط للرأس، وهذا ما لا قدرة للبزال عليه حيث يستدعي ذلك أيضاً فحصية حكيم الذي من الممكن أن يغير له الدواء الذي يتناوله بشكل مستمر ويبلغ ثمنه الآن 400 ألف ليرة وهذا ليس بالمستطاع.
تمتنع أم علي التي لديها أمراض عدة من تناول أدويتها بسبب فقدانها وبسبب عدم القدرة لشرائها، وتقول إن الأولوية لأدوية علي التي يجب عليه تناولها باستمرار.
على وقع التكسير والصراخ وتطاير الأغراض التي يرميها علي علينا وعلى والدته أثناء المقابلة. تقول البزال إنه “قبل الأزمة الاقتصادية كنا نؤمن الأدوية لي ولابني، أما الآن فنصف الادوية مقطوع، والنصف الآخر لا نستطيع شراءه لغلائه الفاحش”.
الجمعيات وما أكثرها لا تجد طريقاً إلى منزل البزال التي تقول إن أحداً من تلك الجمعيات طرق بابها أو سأل عنها. باستثناء شخص من آل مرتضى ساعدها بمبلغ مليون ليرة لشراء برميل من المازوت، لكن البزال لم تستطع شراءه بسبب ارتفاع ثمنه الذي فاق الأربعة ملايين.
“هني شو عبالهن”
“باقٍ من الدواء أربع حبات فقط” تقول البزال وتبتهل إلى الله أن “ينزل الدولار”. تتابع بلهجتها البعلبكية “هني شو عبالهن عايشين ومش ناقصهن شي، أما نحن فكنا عالأرض، وأصبحنا اليوم تحت الارض”. بحرقة قلب تقول أم علي “وقفنا في الطابور احترامًا للقانون والانضباط، ولم نتأخر يوماً عن دفع الضريبة التي تفرضها الدولة والأنظمة”. وبالرغم من أن لديها بطاقة معوق، تقول البزال أنه ليس هناك أي دعم لها ولولدها وهم متروكون في العراء.
الخروج من منزل أم علي البزال لا يشبه الدخول إليه، فالندوب التي ستصاب بها جرّاء معايشتك لحالها وحال ولدها المعوّق ستبقى محفورة في وجدانك لوقت طويل، وتستدعي العديد من الأسئلة عن حال الكثير من الناس الذين يشبهون أم علي وتمثل نموذجاً لهم. وتخلص مجدداً لنتيجة واحدة هي أن منظومة مجرمة أوصلت البلاد والعباد إلى ما وصلت إليه. وما أم علي وولدها المعوّق سوى ضحايا على قيد الحياة لإجرام تلك المنظومة.