لا صيد في بحر الناقورة والحرب تهجّر 150 صيّادًا وتقطع أرزاقهم
منذ أكثر من ثلاثة أشهر، تكاد تكون حركة صيّادي الأسماك في بحر الناقورة المجاور لفلسطين المحتلة شبه معدومة، أيّ منذ بدء الحرب في غزّة وفي جنوب لبنان. قبلها، كان البحر يعجّ بالصيّادين يوميًّا، لكنّه أضحى اليوم فارغًا، حيث منع القصف الإسرائيليّ المتواصل غالبيّة الصيّادين من الخروج وخوض غمار البحر لكسب رزقهم من السمك، وتأمين قوت عيالهم.
جزءٌ من الصيّادين اختار النزوح خوفًا من تعرّض حياته للخطر أثناء الصيد، لكن جزءًا آخر منهم صمد برغم الخطر، ويغامر بنفسه ولو لساعة واحدة يوميًّا، عسى أن يحصل على القليل ممّا يحتاجه لإطعام عائلته، لكن في كلا الحالتين أكثر من 150 عائلة تعاني اليوم من أزمة معيشيّة صعبة وحقيقية.
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، دفعت الاعتداءات والقصف الإسرائيليّ المستمرّ أهالي عشرات البلدات الجنوبيّة الواقعة على خطّ المواجهة، ومنهم أبناء الناقورة التي سقط فيها ضحايا منهم مختار البلدة نتيجة إغارة الطائرات الحربيّة الإسرائيليّة على منزله، إلى النزوح نحو صور وبيروت وباقي المناطق الساحليّة، حيث تجاوز عدد النازحين ثمانين ألفًا، وفق تقرير المنظّمة الدوليّة للهجرة “آي أو إم” (IOM).
المخاطرة لتأمين لقمة العيش
يواظب الصيّاد عصام على اصطياد الأسماك في بحر الناقورة، وأثناء الهدنة التي لم تدم طويلًا، اختار العودة إلى بلدته في أعقاب نزوح مؤقّت، بعدما سُدّت في وجهه السبل، إذ بات واضحًا بالنسبة إليه أنْ لا مؤشّرات على انتهاء الحرب في الوقت الراهن.
في الأيّام الأولى من الحرب رافق عصام عائلته وأمّه تاركين البلدة خوفًا من القصف، “لكن سرعان ما قرّرت العودة لتأمين قوت عائلتي التي لا معيل لها سوى عملي”، يضيف عصام في حديث لـ “مناطق نت”، ويتابع: “عدت مع ابني إلى الناقورة وتركت ابني الآخر مع والدته وجدّته، عسى أن يزيد انفصال العائلة من احتماليّة نجاة أيّ منّا في حال وقعت الكارثة”.
يتحدّث عصام عن الحرب بحسرة بعد أن قلبت حياته وحياة عائلته رأسًا على عقب، فلعصام ولدان أحدهما كان يذهب إلى الجامعة “لكن بسبب الحرب توقّف، لعدم قدرتي على تسديد الأقساط، والآخر ينتظر انتهاء الحرب لكي يعود إلى مدرسته”.
يواظب الصيّاد عصام على اصطياد الأسماك في بحر الناقورة، وأثناء الهدنة التي لم تدم طويلًا، اختار العودة إلى بلدته في أعقاب نزوح مؤقّت، بعدما سُدّت في وجهه السبل، إذ بات واضحًا بالنسبة إليه أنْ لا مؤشّرات على انتهاء الحرب في الوقت الراهن.
يخرج عصام يوميًّا إلى الصيد لمدة ساعة فقط، يرمي صنّارته وينتظر رزقه “فيما تحلّق فوقنا “المسيّرات” وطائرات التجسّس الإسرائيليّة، وأشاهد بأمّ العين عرضًا حيًّا للغارات الإسرائيليّة على الناقورة والبلدات المجاورة”. ويردف: “نخرج إلى البحر، لكن لا نجرؤ على الابتعاد كثيرًا، خوفًا من أن يتمّ استهدافنا وهذا الأمر يقلّل من فرص اصطيادنا كمّيّة كافية من الأسماك لبيعها وتأمين قوت عيالنا”.
يصف الصيّاد “المغامر” الحال التي يعيشها بـ “الحرب النفسيّة”، ويقول: “في العام 2006 كنّا نعرف أنّنا في حرب شاملة والبلد مشلول، اليوم نتنقّل ونخاف من أنّ يتم استهدافنا في أيّ لحظة، هذه حرب نفسية قاتلة ومدمّرة، هذا هو وضعنا”.
150 عائلة بلا صيد وبلا رزق
في الأيّام الطبيعيّة، تمخر نحو 45 مركبًا عباب بحر الناقورة، عشرون منها لهواة الصيد، بينما يسعى أصحاب المراكب الباقية وهم من الصيّادين، يوميّا في سبيل تأمين لقمة العيش من خلال الصيد. يحمل كلّ قارب عادةً ما بين ثلاثة إلى خمسة صيّادين، يتوزّعون بين أصحاب العمل والمساعدين، ما يعني أنّ عدد العائلات التي تعتمد على الصيد لتأمين رزقها في الناقورة قد يصل إلى أكثر من 150 عائلة (بحسب مصادر الصيّادين)، جميعهم يعانون اليوم من ظروف معيشيّة خانقة.
في هذا السياق، يشدّد رئيس تعاونيّة الصيّادين في بلدة الناقورة رياض عطايا لـ “مناطق نت”، على “أهمّيّة دعم الصيّادين ممّن يواجهون أوضاعًا صعبة تمتدّ إلى ما قبل بداية الحرب جنوبًا، إذ إنّ قطاع الصيد بات مُرهَقًا بالفعل، والثروة السمكيّة كانت في تراجع بالأساس”.
ويشير عطايا في كلامه لـ “مناطق نت” إلى “أنّه بعد مرور ثلاثة أشهر على الحرب، باتت ظروف الصيادين من سيّء إلى أسوأ. هنا في الناقورة ثمّة أربع “مسامك” تشكّل سوقًا للسمك، لقد أغلقت أبوابها بسبب الاعتداءات الإسرائيليّة اليوميّة، ولم يعد هناك من زبائن يأتون لشراء صيد بحر الناقورة. وهنا تبرز مشكلة أخرى أمام الصيّادين المغامرين بأرواحهم للصيد وتأمين قوتهم اليوميّ، وهم إذا ما نجحوا في الصيد في الناقورة، فمن أين يأتون بالسوق لبيع صيدهم؟”.
كان بحرًا لصيّادي الناقورة وصور
كان في بحر الناقورة متّسع ليس لصيّادي الناقورة فحسب بل كذلك لصيّاديّ مدينة صور وجوارها “فقبل الحرب، كان صيّادو صور يمتدّون بقواربهم إلى الناقورة، لكن اليوم يقتصر وصولهم إلى البيّاضة بسبب الظروف الصعبة والتحدّيات الأمنيّة. كذلك كان صيادو الناقورة يبحرون سابقًا بقواربهم إلى الحدود الفلسطينيّة، أمّا اليوم فهناك رقعة لا يمكن تخطّيها” يوضح عطايا.
وبحسب عطايا “هناك حوالي عشرة قوارب تمّ سحبها من قبل أصحابها خوفًا من أن يعمد العدوّ إلى قصفها فتتضاعف خسارتهم، بينما ترك آخرون مراكبهم بسبب نزوحهم المفاجئ وابتعادهم عن المنطقة، وهناك مراكب غمرتها مياه الأمطار، فإذا لم يتمّ تفريغها قد تغرق”.
يروي الصيّاد أحمد سليم، ابن بلدة الصرفند الجنوبيّة، الذي أمضى أكثر من 35 عامًا يجوب البحر ويغوص فيه، تأثير الحرب على حياته البحريّة فيقول: “بتنزل عالمينا بتشوفها واحة أشباح، القذائف والغارات من فوقك”.
سليم الذي كان يعتاد الإبحار يوميًّا لصيد الأسماك في بحر الناقورة يشير: “بعد اندلاع الحرب جنوبًا، أصبحت أغوص مرّتين في الشهر فقط، وذلك لمدّة ساعة كحدّ أقصى”. يتابع: “في البداية، استأجرت مع بعض الصيّادين منزلًا في الناقورة للتقليل من مخاطر التجوال، بيد أنّه تعرّض للقصف في أثناء تواجدنا خارجه”.
إجراءات احترازيّة “تقتل” الرزق
من أجل الحفاظ على حياتهم من خطر القصف الإسرائيليّ، يتحدث أحمد بحسرة: “لم يبقَ لنا سوى التوقّف عن الصيد أو الخروج مرّتين في الشهر، فالظروف الحياتيّة للصيّادين صعبة، والصيّاد تحديدًا اعتماده الوحيد على البحر فقط، فمن أين سنوّفر احتياجاتنا وكيف سنطعم أولادنا إن لم نمارس عملنا؟”.
ينبّه أحمد من زورق إسرائيليّ “يتمركز بالمغارة القريبة، فإذا ما اقترب مركبٌ أو صيّاد يطلقون النار عليه”. ويخاف أحمد ورفاقه “من أن يتمّ استهدافنا في الماء أو حتّى في أثناء ذهابنا من صور نحو الناقورة، إذ منذ بداية الحرب استهدفت إسرائيل عددًا كبيرًا من اللبنانيّين على الطرقات”.
لم يقتصر بحر الناقورة على عمل الصيّادين فقط، بل كان مقصدًا لهواة الغطس أيضًا، لكن بحسب سليم فإنَّ “للخوف والتوتّر تأثيرًا كبيرًا على الهواية ما يربك وظائف الجسم ويسبّب توتّر العضلات والتنفّس، وهذا بدوره يمكن أن يؤثّر على الجهاز القلبيّ والعضليّ، ما يعرّض الغوّاص لمخاطر إضافيّة في أثناء وجوده تحت الماء”.
يعبّر صيادو الناقورة عن قلقهم إزاء عدم وجود بديل اقتصاديّ يعينهم على تأمين لقمة عيشهم. لذلك يعتبرون الحرب من التحدّيات الحقيقيّة التي تهدّد حياتهم وحياة عائلاتهم التي تعلّق آمالها على أمواج البحار، لذلك يجترحون الصبر والآمال بفرج قريب، ويناشدون الدولة “دعم الصيّادين الذين لا يملكون بديلًا يعيلهم في هذه الفترة الصعبة”.