لسان الشيعة.. عن توغّل الخطاب العقائدي في الكلام اليومي
“قلّدناك الدعاء”، “الفاتحة لأمّ البنين”، “آجرك الله”، “بأمانة موسى بن جعفر”، “إني أريد أمانًا يابن فاطمة مستمسكًا بيدي من طارق الزمن”، “المستضعفين”، “الشيطان الأكبر”… كلّها نماذج عن الكلمات والجمل المستحدثة ضمن القاموس اللغوي للشيعة في لبنان، الذي أخذ بالتشكّل منذ مطلع الثمانينيات، وهو فعل حركيّ، متغيّر، يستلهم تراكيبه من التراث الديني في أغلب الحالات، وبعضها الآخر مبتَكر من طبيعة الحدث والموقف، لتتشكّل خاصيّة لسانية، لها أُطرها الصوتية، والدلالية، والتعبوية.
علم اللسانيات
إن كل كلمة، ما إن تصبح مادة منطوقة حتى تدخل حيّز الدراسة والتصنيف، وكل الإشارات الواردة في هذه المقالة، هي بمثابة أثر يؤشّر على حالة، عاكسًا لمتغيّر ما، وبطبيعة الحال، يساهم فهم تلك اللغة في تحليل الواقع، بالتضافر مع مؤشرات ثانية، بصرية، وحيويّة، وطقوسية.
ما مِن معنى للغة إن لم تكن وسيلة تعبير وتلقّي، وهذا الشرط لا يتحقّق إلّا في الحيّز العام، لذلك كانت اللغة طريقة تواصل اخترعها الانسان لتشبيك مصالحه مع مصالح الآخرين، ضمن المجتمع الذي يتشابه أيضًا بأنماط ثقافية أخرى مثل القناعات، واللباس، والطعام، والعادات.
الألسنية هي دراسة علمية للغة، وقد عرفها أهم منظّريها دي سوسير على الشكل التالي: “موضوع علم اللغة الوحيد والصحيح هو اللغة المعتبرة في ذاتها ومن أجل ذاتها”. برزت الألسنية في القرن الثامن عشر، في بلدان أوروبية عديدة، ثم تطورت البحوث حولها، واتسع “بيكارها” في القرن التاسع عشر. لتتكرّس في القرن العشرين ضمن المناهج الأكاديمية، متقاطعة مع مجالات كثيرة مثل السيمياء، وعلوم الاجتماع، والإناسة، والنفس، والأدب، والنطق..
عرف هذا العلم بتطور الزمن أنواعًا أخرى مثل علم اللغة المقارن، علم اللغة التركيبي وعلم اللغة الجغرافي. ولمزيد من الدقة العلمية، حدد الألسنيون المستويات التي يجب أن تُدرَّس اللغة بموجبها، وهي المستوى الصوتي، المستوى النحوي، المستوى الدلالي، والمستوى المعجمي.
“قلّدناك الدعاء”، “الفاتحة لأمّ البنين”، “آجرك الله”، “بأمانة موسى بن جعفر”، “إني أريد أمانًا يابن فاطمة مستمسكًا بيدي من طارق الزمن”، “المستضعفين”، “الشيطان الأكبر”… كلّها نماذج عن الكلمات والجمل المستحدثة ضمن القاموس اللغوي للشيعة في لبنان، الذي أخذ بالتشكّل منذ مطلع الثمانينيات
يبحث علم اللغة إضافة إلى هذه المستويات الأربعة في ماهية اللغة، ووظيفتها، وبيئتها، وطريقة جمع مادتها.
يرى الألسنيون، بإزاء ما يسمى “السليقة اللغوية”، أن الطفل لا يكتسب اللغة وراثة، وفي تصورهم اكتسابها يبدأ بالتقليد ثم تتثبت بالتمرين، لأن اللغة في نهاية المطاف ملك من تعلّمها.
يُعدّ اليوم نعوم تشومسكي، أهم ألسني على قيد الحياة (95 سنة)، وله آراء في اللغة مخالفة للتعريفات الكلاسيكية. لهذا حين ندرس المتغيرات اللسانية في البيئة الشيعية في لبنان، تحديداً الجنوب والبقاع، فإننا بذلك نسعى لتوظيف النتيجة، في السياقات اللسانية العلمية، مترصّدين المؤثرات، والمتغيرات، والانعكاسات التي صبَّت وسوف تصبّ بطبيعة الحال في نسج اليوميات، والقناعات، والخيارات. فاللغة قد تحدد نمط العيش، وهي بذاتها إطار كافٍ لفهم الجماعات، وإن كان هناك من خصوصية للشريحة المستهدفة، فهي فعل التغيير اللساني، وافتعاله، في مرحلة زمنية واضحة، مكشوفة الأحداث، والتواريخ، والدوافع والغايات. هنا نحن أمام نموذج مثالي للدرس، واستخلاص النتائج.
لسان الحرس الثوري
يقول هيغل بأن “أخطر الانقلابات، هي تلك التي تحصل ببطء”، إذ يحدث التغيير على مسافة زمنية طويلة، لا يمكن رصد بداياتها، ولا التحكُّم بسياقاتها، لكنّك بعد عشر سنوات، أو عشرين سنة، سوف تلاحظ المظهر الجديد الذي تولّد بهدوء، دون معرفة المغيّرين كأفراد، انما كحالة تشبه تأثير الريح على البحر لتوليد الموجة.
كان الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982، سبباً مباشراً للحضور الإيراني في لبنان، تحت عنوان تدريب الشباب لمواجهة “اسرائيل”. تم التمهيد بحضور وفد إيراني عسكري-سياسي، إلى سوريا للتنسيق مع الرئيس حافظ الأسد، فكان الاجتماع بينه وبين رئيس الوفد الإيراني وزير الدفاع، العقيد سليمي ومحسن رضائي الذي كان يتولى رئاسة الحرس الثوري، فكان القرار بتسهيل دخول الحرس من سوريا نحو البقاع، بـ “فرقة محمد رسول الله” التي يتولّى قيادتها أحمد متوسليان. انتشروا في نقاط عدّة، بعضهم على ضفاف نهر العاصي، وبعضهم عند أطراف البلدات، واستقرّوا في الهرمل وحيّ الدورة، ليتخذوا في النّهاية، الحسينية المؤلفة من طابقين، مقرّاً لهم.
في وقت ليس ببعيد بدأ التوغّل الطبيعي بالمجتمع المحيط، ميادين تدريب، ومساجد، وأسواق. ثم حصلت زيجات بين شباب الحرس، وبنات القرى. كان اللسان الأعجمي ينطق ببعض العربية المكسّرة، والمفخّمة، لتتولّد لغة هجينة، تعامل معها الناس بإجلال، وتأثّروا بها، مفترضين أنها لغة اسلامية، فكان التماهي مع المنقذ الكاسر لرتابة الريف بحضوره ولسانه. آنذاك شاع هتاف: “الله أكبر، خميني رهبر”، وأناشيد فارسية مثل: “خدایا خدایا تا انقلاب مهدی خمینی را نگهدار”.
الأخ الذي كان رفيقاً لم يعد كذلك إذ أنّه لم يدم ذلك اللّقب إلّا لسنوات قليلة، بينما لم يتوقّف اللسان “الملتزم” عن ابتداع تعابيره، ليصير الآخر “أخ” أو”أخت”، بعد الرفيق والرفيقة، واتّسع القاموس الجديد لتعابير خاصة بالمباركة، والعزاء، والولادات، والأعياد، وعقد القران، وهتافات عاشوراء، والتظاهرات، وتمنيات الوداع قبل السفر إلى “الزيارة”. وعندما كثر “الحجّاج” في البيئة الشيعيّة، خفت تعبير أخ، وأخت، ليشاع: حاج وحاجّة، وهي تقال لأي آخر، صغيراً كان أم كبيراً.
في وقت ليس ببعيد بدأ التوغّل الطبيعي بالمجتمع المحيط، ميادين تدريب، ومساجد، وأسواق. ثم حصلت زيجات بين شباب الحرس، وبنات القرى
وللشهادة معجمها الخاص، حيث يتم منح الألقاب للشهداء القادة، ليصبح الشيخ راغب حرب “شيخ شهداء المقاومة”، والسيد عباس الموسوي “سيد شهداء المقاومة”، والحاج عماد مغنية “قائد الانتصارين”. بالنسبة لمقاتلي حزب الله في الحرب السورية، فلهم تصنيف خاص في حال الإستشهاد، ليكون التعريف “شهيد الدفاع المقدس”. كأن الموت على الفراش، أو في حادث سير، أمر مخجل للمقاتل، لذلك تم اعتماد هذا التوصيف “فقيد الجهاد” ليتم وضعه على أوراق النعي، أو الملصق، أو رخامة القبر.
“برمجة لغوية” في الحسينية
في الحسينيات، ومع كل ذكرى شهيد أو أي فقيد من البلدات الشيعية في الجنوب والبقاع، ثمة برمجة منهجية لخطباء المنبر، تبدأ بـ “عرّيف الاحتفال”، ثم قارئ القرآن، بآيات بيّنات، يليها مجلس عزاء حسيني، ثم كلمة إمام البلدة، ومن بعده كلمة أهل الفقيد. هنا يقول عرّيف الاحتفال: “مع كلمة سماحة الشيخ، فليتفضل إلى المنبر، مصحوباً ببرَكة الصلاة على محمد وآل محمد”. وما أن يصل الشيخ، وينشغل بترتيب جلسته، يقترب من الميكروفون قائلاً: “أفلح من أعاد الصلاة”. في البداية كان يُقال: “اللهم صلِّ على محمد وآل محمد”، ثم أضيف عليها “وعجّل فرجه”، لتصبح في صيغتها النهائية: “اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وعجّل فرجه الشريف”.
في الغالب، اختيار الآيات لا يكون عفوياً، بل من وحي الحدث أو استنباطًا من شخصية الفقيد، كما يقوم قارئ العزاء بتمرير بعض الاسقاطات السياسية، ضمن السياق الملحمي لموقعة الطفّ. كذلك هو حال رجل الدين الذي يحكي جملاً قليلة عن حياة ومآثر الفقيد، ثم تتوسّع كلمته لتمزج العظة الدينية بتلك السياسية. لهذه الدائرة المتكرّرة خاصياتها اللسانية، من بدايات السلام حتى الختام وعلى مدار ساعات عديدة في كل أسبوع، ما يعطي الحسينية دورها ومفهومها ضمن التوصيف الشيعي لها، ألا وهو المركز التعبوي، التثويري، التثقيفي، وليست مجرّد دار عزاء بأبعاد طقوسية روحية.
في “الموالد” أيضًا هناك سياسات و”برمجة لغوية” متكررة، حيث يقوم المنشد، بتضمين الاناشيد والمدائح بعض التحيات لـ “سيد المقاومة” و”الرئيس بري”، وما يدور في فضاءات الحركة والحزب، وغالباً ما يقدمها المنشد في قالب طريف، حيث ينقسم ولاء “المعازيم” بين اللونين الاصفر والاخضر. ضمن الفضاء اللغوي العام، لا يمكننا تجاوز وسائل الإعلام الحزبية، التي لم تساهم في بناء جمل لغوية خاصة، بل استطاعت بلورة هويّتها من خلال تنغيم الصوت، وطريقة الأداء، حتى تكاد تعرف القناة من أسلوب مذيعها في الإلقاء.
الميكروفون
في قرى البقاع والجنوب، لا يزال المسجد وسيلة إعلام عن وفاة فرد من البلدة، أو ذكرى أسبوع، أو أربعين، أو للدعوة إلى التجمع لسبب ما. مهما تنوّعت الأصوات بين مذيعي النداءات من ميكروفون مساجد البلدات، إلّا ان الجميع يتشابه بطريقة تلاوة تلك الأخبار، والبسملة في البداية، ثم ذكر إسم الحزب، أو الجهة الداعية عند آخر النصّ. ثم يعود ويتلوا الكلام للمرّة الثانية، حرصًا على وصول الخبر لمن لم يركّز في المرّة الأولى، أو إذا ما كان الهواء معاكسًا للناحية التي يقع فيها المركز السكاني.
في “الموالد” أيضًا هناك سياسات و”برمجة لغوية” متكررة، حيث يقوم المنشد، بتضمين الاناشيد والمدائح بعض التحيات لـ “سيد المقاومة” و”الرئيس بري”، وما يدور في فضاءات الحركة والحزب
حتى يومنا هذا، في الضاحية الجنوبية، كما في الجنوب والبقاع، يعتمد الثنائي أمل وحزب الله، السيارات المزودة بميكروفونات كوسيلة إعلام متنقلة، يقوم خلاله السائق أو الجالس بقربه بقراءة البيان ثم يستتبعه النشيد بأعلى الصوت. غالباً ما تكون السيارة مغطاة بالبوسترات، بينما ترفرف الأعلام من النّوافذ. بالطبع هي ليست طريقة إخباريّة فقط، بل من خلال مكبرات الصوت أنت تغلّف المكان وتستملكه وتسيطر على الفضاء العام المؤلّف من مؤيّدين ومعارضين وهو الدور نفسه الذي تؤديه اليافطات والأعلام الحزبية في الشوارع والساحات.