لماذا اخترت امتلاك وحدتي؟

تحاصرنا الوحدة كظلٍّ ثقيلٍ يرافق أرواحنا في دروبها الطويلة والموحشة، فتحوم حولنا وتتسلّل إلى قلوبنا في لحظات التأمّل أو ربّما في خضمّ ضوضاء الحياة وصخبها، وتدفعنا إلى التآلف معها.
مساحة غامضة تتأرجح بين العزلة والسلام، بين الحضور والغياب وبين الألم والسكينة، هكذا كنت أتصوّر وحدتي التي رأيت فيها غربةً وخشيت من أن تكون هدوءًا مخادعًا. لذلك راقبتها بعينين متربّصتين يملؤهما الخوف والفراغ والبرود أحيانًا، وشاهدتها تسرق بريقهما وتُحوّل الأيّام إلى تكرارٍ باهت ومساحات ممتدّة من الصمت والمجهول.
وكنت أشعر بها كحجرٍ يُثقل صدري ويترك فجوةً في روحي، تعزلني عن العالم لأغرق في دوّامةٍ من الأفكار المظلمة، وأُصبح غير مرئيّة بين الجموع، وتستيقظ جميع مكامن أوجاعي.
ولطالما شكّلت قيدًا خفيًّا يغلّف يوميّاتي، وصمتًا يعلو حتّى يصبح ضجيجًا خانقًا يُحوّل هذا الشعور إلى جدران عالية تأسرني في هواجسها. هنا، يصبح الحديث مع النفس عادة وتتحوّل الذكريات إلى زائرٍ لا يغادر، وتتراكم الأسئلة من دون إجابات، فالوحدة حينما تمتد تغدو مرآة للخوف والتردّد والشكوك.
الوحدة بين الحرّيّة والعزلة القسريّة
في عالمٍ يتسارع فيه الزمن ويتكدّس ضجيجه في الأذهان، تغيّرت ديناميّات العلاقات الإنسانيّة وتآكلت تحت وطأة السرعة والاختزال، وأصبحنا متّصلين دائمًا، ولكن من دون تواصلٍ حقيقيّ، ووجدنا أنفسنا محاطين بالشاشات.
عزّزت هذه العوامل سلوك الفردانيّة الذي يحمل وعدًا بالتحرّر من قيود الآخرين وتوقّعاتهم، لكنّه في الوقت نفسه يفرض علينا عزلة إجباريّة؛ فالوحدة ليست دائمًا ما نختاره بل هي في كثير من الأحيان نتيجة لهذا التوجّه.
لذلك، هربت من وحدتي لسنواتٍ طويلة كمن يفرّ من هوّةٍ ستبتلعه في أيّ لحظة، ووجدت نفسي مضطرّة إلى التظاهر بأنّني شخصيّة أخرى خشية البقاء وحيدة. وشعرت بأنّني سأفقد جزءًا كبيرًا من ذاتي من خلال هذا التنازل عن حقيقتي الذي لن يؤدّي إلّا إلى تعميق شعوري بالوحدة، وعدم صدقي أمام نفسي وأمام الآخرين.
هذا الشعور بعدم الانتماء، وثقل العلاقات وخيبات الأمل والخذلان الناتجين عن تجارب سلبيّة في علاقاتي مع الآخرين وتحوّلت إلى مصدرٍ للألم بدلًا من الدعم، وعدم الانسجام مع المجتمع المحيط، فرضت عليّ الانسحاب الاجتماعيّ الذي يتخطّى كونه مجرّد لحظات عزلةٍ عابرة ليصبح حالًا نفسيّة وسلوكيّة تعكس موقفي من العالم الخارجيّ.
لم تكن وحدتي قيدًا يعزلني عن العالم أو فراغًا موحشًا، بل مساحة حريةٍ نادرة لإعادة اكتشاف الذات بعيدًا من الادّعاءات وزحام الوجوه والأحاديث العابرة
متى تصبح الوحدة اختيارًا؟
مع الوقت، ومع هدأة اللحظات الخالية من الآخرين بدأت أكتشف أنّ وحدتي لم تكن سجنًا، بل نافذتي نحو ذاتي، ذلك العالم الذي كنتُ أجهله. وسمعت نفسي بوضوح فتعرّفت إلى أفكاري ومخاوفي ونقاط ضعفي وقوّتي وكلّ ما كنت أهرب منه في زحمة الأيّام.
في وحدتي أدركت أنّني لا أحتاج إلى من يصغي إليّ بقدر ما أحتاج إلى أن أصغي إلى نفسي، فتَحوّلَت من هروبٍ إلى مواجهةٍ مع الذات تعلّمت منها أنّ أقوى العلاقات هي تلك التي نبنيها مع أنفسنا.
لم تكن وحدتي قيدًا يعزلني عن العالم أو فراغًا موحشًا، بل مساحة حريةٍ نادرة لإعادة اكتشاف الذات بعيدًا من الادّعاءات وزحام الوجوه والأحاديث العابرة، أعدت فيها ترتيب أفكاري فوجدت أنّ القلب يحتاج إلى فتراتٍ من الصمت لكي يستعيد عافيته.
حينها، لم تعد عزلتي حالةً مفروضة بل اختيار اتّخذته بوعي لإعادة الاتّصال بالعالم بطرق أعمق وأصدق، فشكّلت ملاذًا آمنًا لي ومساحة للتأمّل والبحث عن ملامح أحلامي التي كدت أنساها، وإعادة صياغة وجودي وفق ما أريده، ليس كما يفرضه العالم، وباتت حيّزًا صادقًا يمنحني القدرة على المواجهة والتصالح مع نفسي.
وتعلّمت أنّ أكثر الأصوات صدقًا هو صوتي الداخليّ، فلم تعد الوحدة حالةً أهرب منها ولا شيئًا أغرق فيه تمامًا، بل جزء من الحياة مثل الفرح والحزن وعليّ أن أُحوّلها إلى قوّة، فنحن كائنات تميل بطبعها للتوق إلى الشعور بأنّنا جزء من هذا العالم وننتمي إليه.
حين تصبح الوحدة صديقًا
هكذا، قرّرت اختيار وحدتي بعد أن أرهقتني العلاقات المتشابكة والمحادثات التي لا تترك أثرًا. ولم يعد الصمت قاتمًا كما ظننته، بل بات فسحةً لتصفية الروح بعيدًا من تداخل الأصوات والأفكار.
لم أختر العزلة كرفضٍ للعالم، بل كمساحة أعمق لفهمه ونافذة أطلّ منها على دواخلي أوّلًا ثمّ على كلّ ما حولي بوعيٍ جديد ورؤية أكثر نقاءً. فأرواحنا تحتاج إلى لحظات عزلةٍ صادقة تمنحها الاتّزان وسط الفوضى.
اليوم، أحتضن وحدتي كصديقٍ قديم لا يغيب ولا يخدع، بل يعيدني دومًا إلى حيث أنتمي: إلى ذاتي الحقيقيّة.