لوحات تجسّد نكبة التهجير الفلسطينيّ.. والسؤال: إلى أين؟
لا تغيب عن بالي صورتان – لوحتان، عادتا لترتسما أمامي في هذه الأيام، التي عادت فيها فلسطين إلى واجهة الحدث. إحدى اللوحتين تصدّرت غلافاً لمجلّة كنت رأيتها في طفولتي، من ضمن المنشورات التي كان يقتنيها والدي. ظننت اللوحة صورة فوتوغرافيّة، علماً أنّها تختلف من حيث التقنيّة والمردود الشكليّ عن الفوتوغرافيا.
لكن انعدام خبرتي في هذا المجال، حينذاك، حوّرت استيعابي للعمل، ولم يسمح لي مستوى التلقّي الذي كان في درجاته الدنيا، أن أدرك الفرق بين الصورة الفوتوغرافيّة والعمل الفنّيّ التشكيليّ. بيد أنّ الصورة لم تكن وحدها ما ترسّخ في ذهني، بل العبارة المكتوبة تحتها التي تقول: “سؤال تجمّد على لسان كلّ عربيّ: إلى أين؟”..
اللوحة الأولى المذكورة، التي تعود إلى العام 1953، تحمل عنوان: “إلى أين”. وهي تمثّل رجلاً منهكاً، كما تدلّ قسمات وجهه والعصا في يده، التي يستند إليها، وهو يسير مع أولاده، حاملاً على ظهره طفلاً هزيلاً شبه نائم، أو تعب، لدرجة عدم القدرة على رفع رأسه المستند إلى رأس أبيه، وطفله الآخر ينظر إليه نظرة محمّلة بالتساؤل.
أمّا صاحب العمل، فكان الفنّان الفلسطينيّ الأشهر إسماعيل شمّوط (1930- 2006)، الذي لم ينفصل نتاجه يوماً عن المسالة الفلسطينيّة، ملتزماً بها، ومكرّساً لها كلّ ما استطاع من جهد فنّيّ. ولقد كان شمّوط فناناً ملتزماً بأسلوب واقعيّ تعبيريّ مع بعض الرمزيّة، وقد قال: إنّه لم يختر أسلوبه هذا بشكل عقلانيّ، ولكنّ موضوع القضيّة الفلسطينيّة الذي طغى على رسوماته هو الذي فرض هذا الأسلوب.
أمّا اللوحة الأخرى، وعنوانها “سنعود”، فربّما كانت من أولى الأعمال الفنّيّة الفلسطينيّة التي عالجت مسألة النكبة. ولطالما اعتُبر شمّوط من أبرز روّاد الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ، ويعتبره البعض مؤسّس هذا الفنّ. اللوحة التي تعود بدورها إلى مطلع خمسينيّات القرن الماضي، في صدرها شيخ كبير تبدو عليه سيماء من يحوقل، ولا يعترض على قضاء الله، يمسك بعصا يستند اليها.
يحيط بالشيخ طفل في يده آنية ماء، و خلفه طفل آخر يحمل إناءً من الخوص، ربّما كحاوية طعام. يتجلّى ألم الشيخ كإنسان مطرود من وطنه مع مئات الآلاف من الفلسطينيّين. ملابس الشيخ متناسقة الألوان على نحو غير متوقّع لشخص مهجّر ومطرود مع شعب بأكمله من أرضه.
اللوحة التي تحمل هذا العنوان، كما التي سبقتها، ليستا سوى مجرد عملين من عشرات الأعمال الأخرى التي تمثّل حلم الفنّان شمّوط ويقظته. الحلم هنا، وفي هذا العمل بالذات، ينفصل عن معناه المتعلّق بما يصبو إليه الإنسان، ليشكّل ما يشبه الكابوس الثقيل، الذي ترسّخ في ذاكرة الإنسان الفلسطينيّ، كمحطّة من محطّات الألم الأساس، التي يؤلم وقعها، كما يؤلم ذكرها أيضاً: لحظة التهجير من الأرض الأم إلى أرض الشتات، في جهات عدّة من الدول المجاورة.
اليد ترى والقلب يرسم: سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شموط
وللمناسبة، فقد صدر الكتاب، هو كناية عن مذكّرات الفنّانة التشكيليّة الفلسطينيّة تمام الأكحل، ورحلتها الشخصيّة والفنّيّة مع زوجها الفنّان الراحل إسماعيل شمّوط. أدّى الفنّانان دوراً تأسيسيّاً في الفنّ الفلسطينيّ الحديث، وصنعا أيقونة النكبة الفلسطينيّة.
كما قامت تمام الأكحل وزوجها بدور كسفراء للفنّ الفلسطينيّ في دول العالم، حيث عرضا لوحات تمثّل الجرح الفلسطينيّ والألم الفلسطينيّ والتاريخ الفلسطينيّ. مذكّرات تمام الأكحل تقدّم شهادة نادرة عن زمن الخروج من النكبة وتأسيس رؤية فلسطينيّة. وتسجّل تاريخ الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ منذ بداياته وحتى اكتمال شبابه، وتشهد بالريشة واللون على عذابات الفلسطينيّين النازحين ونضالات الشعب الفلسطينيّ.
في كتاب “اليد ترى والقلب يرسم” يمكن تلّمس التداخل الحاصل للكاتبة تمام الأكحل بين سيرتها الذاتيّة والتاريخ الفلسطينيّ الجمعيّ من خمسينيّات القرن الماضي، وصولاً إلى العام 2006، تاريخ وفاة شريكها الزوجيّ والفنّيّ إسماعيل شمّوط. تتجاور سيرة الثنائيّ العاشق مع سيرة صعود الفنّ والثقافة في إنتاجات الشعب الفلسطينيّ.
في المقدّمة يكتب الروائيّ اللبنانيّ إلياس خوري: “لا تروي الفنّانة الفلسطينيّة تمام الأكحل حكايتها وبعضاً من حكاية زوجها إسماعيل شمّوط في هذا الكتاب، إلّا لتروي حكاية جيل النكبة الذي وجد نفسه في عراء التاريخ، فحاول أن يعيد صوغ هويّته بالألوان والكلمات”.
ويتابع خوري:”كانا من أبناء تلك المرحلة التي لم تترك للفردانيّة متّسعاً، لكنّ مساحة الفنّ كانت لهما أرضاً شاسعة وبلا حدود، فصعنا اللوحة الفلسطينيّة الطالعة من النكبة، ليعبّدا للأجيال اللاحقة حرّية التحرّر من الهويّة التي صارت إنجازاً راسخاً. في هذه المذكّرات نتعرّف إلى بعض من ملامح امرأة، وكثير من تجربة فنانّين بحثاً عن فلسطين في كلّ مكان، ليجدا أنّ الوطن مرسوم على أرواح الفلسطينيّين، وأنّ الحكاية حين تُروى تستدرج حكايات أخرى لا نهاية لها”.
إلى أين؟.. السؤال الأساس
ويبقى السؤال المتعدّد الأوجه، أكان في المجال الإنسانيّ والإجتماعيّ، أم في حيّز النهج والسياسة، منذ تلك اللحظة التي مضى عليها 75 عاماً: إلى أين؟ سؤال كان قد ورد غير مرّة لدى الشاعر محمود درويش: “إلى أين تأخذني يا أبي؟.. إلى جهة الريح يا ولدي.. وهما يخرجان من السهل.. حيث أقام جنود بونابّرت تلّاً لرصد الظلال على سور عكّا القديم”.
سؤال “إلى أين؟” كان قد ورد غير مرّة لدى الشاعر محمود درويش: “إلى أين تأخذني يا أبي؟.. إلى جهة الريح يا ولدي.. وهما يخرجان من السهل.. حيث أقام جنود بونابّرت تلّاً لرصد الظلال على سور عكّا القديم”.
وثمّة ما يبدو ملتصقاً بالعمل الفنّيّ المذكور أيضاً: “تحسّس مفتاحه مثلما يتحسّس أعضاءه، واطمئنّ.. وقال له وهما يعبران سياجاً من الشوك: يا بنيّ هنا صلب الإنجليز أباك على شوك صبّارة ليلتين، ولم يعترف أبداً”. ثمّ، في مكان آخر: “وأين تذهب؟ أينما حطّت طيور البحر الكبير” (مديح الظلّ العالي).
”جمل المحامل”
عمل فنّي آخر للفنّان الفلسطينيّ سليمان منصور، صار أشبه بأيقونة في تاريخ الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ. “جمل المحامل” هي لوحة شهيرة للفنّان، نتعرّف أيضاً باسم «العتّال الفلسطينيّ». رسم النسخة الأولى منها في العام 1973، وهي تمثّل عجوزاً فلسطينيّاً يحمل القدس على ظهره مربوطة بحبل الشقاء، على ما يقول عزّ الدين المناصرة.
يُرجّح أنّ اللوحة كانت تدمّرت في غارة أمريكيّة على ليبيا العام 1986، لكنّ منصور أعاد رسمها مرّة أخرى في العام 2014. لاقت «جمل المحامل» ترحيباً محلّيّاً كبيراً، قبل انتشارها على الصعيد العالميّ، حيث طبعت على شكل ملصقات سنة 1975، وعُلّقت في المنازل والأماكن العامّة في أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة كافّة.
إستلهم منصور موضوع لوحته عند رسْمها الأوّل من مشهد الشيخ الكبير “العتّال”، الذي يعمل في أسواق القدس، ويحمل على ظهره بضائع تفوق حجمه وقدرته، ومثّل الرجل المنهك في اللوحة الشعب الفلسطينيّ الذي يحمل قضيّة القدس على أكتافه. أعاد الفنّان رسم اللوحة، وأضاف عليها بعض التعديلات مثل إضافة “كنيسة القيامة” ،وسميّت اللوحة بـ”جمل المحامل 2″.
حافظت “جمل المحامل 2” على كثير من معالم النسخة الأصليّة من اللوحة، مثل رمز وقوف العتّال في مكان مهجور، إلى شتات الفلسطينيّين حول العالم. وترمز المدينة التي يحملها على ظهره إلى أنّ الفلسطينيّين يحملون وطنهم معهم أينما ذهبوا. هذا، وقد تضمّنت اللوحة التغييرات التي رآها الرسّام ضروريّة، لكنّها حافظت على السمات الأساسيّة للّوحة الأصليّة.
تقول الشاعرة الفلسطينيّة أسماء عزايزة (مواليد 1985): “إنّ الخطوط والألوان الأولى الّتي وقعَت عليها عيناي الجاهلتان في سريري وأنا رضيعة، كانت خطوط لوحة “جمل المحامل”، والألوان الحامية الداكنة لملصق يوم الأرض الأوّل”.
حافظت “جمل المحامل 2” على كثير من معالم النسخة الأصليّة، مثل رمز وقوف العتّال في مكان مهجور، إلى شتات الفلسطينيّين حول العالم. وترمز المدينة التي يحملها على ظهره إلى أنّ الفلسطينيّين يحملون وطنهم معهم أينما ذهبوا.
وتتابع عزايزة: “كيف تُصنع الأيقونة؟ أتسجن صاحبها أم تفتح له الدنيا على وسعها؟ فنّانون وشعراء من جيل سليمان منصور مرّت حياتهم الفنّيّة على خطّ موازٍ وشبه متطابق مع حياة الفلسطينيّين السياسيّة، كيوم الأرض والانتفاضة الأولى والنكسة. أهو حظّ ورافعة أم قفص؟”.
يقول سليمان منصور: “جمل المحامل” هو حالة خاصّة، وهو يختلف عن بقيّة أعمالي؛ ليس لأنّها أثيرة أكثر من غيرها، أو لأنّي أراها أفضل عمل على أعمال أخرى، إنّما المسألة تقف عند الشهرة والاهتمام اللذين حظيت بهما. أشعر بأنّها سُرقت منّي ولم تَعُد جزءًا منّي، وأنا قبلت بالأمر الواقع. على العكس، ثمّة أوجه إيجابيّة في هذا الأمر الواقع. في المقابل، ثمّة لوحات بيعت أو وُضعت في متاحف، يلازمني حيالها الشعور بأنّها لي. من المستحيل أن أشعر بعكس ذلك، فأنا أعرف كلّ تفصيل صغير وكبير، وكلّ خدعة فيها”.
يشار إلى أنّ لوحتي التشكيليّ الفلسطينيّ شمّوط “إلى أين” و”سنعود”، ولوحة التشكيليّ الفلسطينيّ سليمان منصور “جمل المحامل” صدرت هذا العام، وفي الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة فلسطين، ثلاثة طوابع بريديّة عن وزارة الاتصالات الفلسطينيّة والبريد الفلسطينيّ من ضمن مجموعة طوابع بريديّة (بلوك من 6 طوابع، إثنان منهما لإسماعيل شمّوط، واثنان لسليمان منصور، واثنان للفنان الفلسطيني الموهوب رائد القطناني). وهذه الطوابع من تصميم الإعلاميّ اللبنانيّ الزميل كامل جابر.