لوحات ناصر عجمي و4 آب… الضحايا ما زالت على الأرض!
كأن 4 آب لم يعد لأهله، حدث تم اختطافه. أزاحوا منه الدم والجروح والأنين والهلع، كل هذه الأهوال شطبوها، وانتقوا منه السياسة ومناكفات أهل السلطة والأحزاب وبازارات إقليمية.
ماذا بقي من 4 آب؟ هذا السؤال الذي انشغل به ناصر عجمي. قد بقي خلاف قضائي على من يحاكم الوزراء والنواب!! أو من يمثل ذوي الشهداء، هذه اللجنة أو تلك؟ الاستفاقة على سطوة صلاحيات المحقق العدلي وضرورة تقييدها!! متابعة أخبار دعاوى التنحي والرد!! الاستنحاد بفتاوى الرجل الأبيض الدستورية لمنع محاكمة وزير!!
على الأرض أو على الواقع، لم يبق من 4 آب سوى السؤال عن جنسية الشركة التي ستعيد إعمار المرفأ. نجحت مناورات أحزاب السلطة في التلاعب بإطفاء ذاك الحدث الرهيب في ذاكرة اللبنانيين. عبر إزالة الركام وإشغال الشعب بمصائب جديدة، لجهة تكليف هذا الشخص أو ذاك بتشكيل الحكومة، ثم خلافات التشكيل، بالترافق مع فقدان الحاجات الأساسية من وقود ودواء وخبز وارتفاع الأسعار وتآكل الدخل والرواتب.
مسخرة كبرى تجري وتنكّل بالحدث المأساوي. في 11 تشرين من الشهر الحالي وبمسافة أقل من 3 أشهر على 4 آب، عزم ناصر العجمي أن يسترد الضحية، أن يلملمها ويعيد انتقاءها وحدها، ويزيح عنها هذه الزوائد المغرضة والمشوهة.
ب 11 لوحة افتتح ناصر عجمي معرضه تحت عنوان “لنبقى – بيروت|” في مشغله بالأشرفية. وبلوحاته هذه، يدفع التاريخ إلى الوراء، إلى حيث الضحية ملقاة على الأرض، إلى ذاك السواد الذي غمر المدينة، إلى الابنية المتهالكة، إلى الناس الذين كانوا يجرون في الشوارع على غير هدى في ذاك اليوم المشؤوم.
“ما أريده أن تبقى الضحية منتصبة في وجه الجلاد”، هكذا يقول العجمي عن لوحاته التي يعرضها يوميا من الساعة السادسة مساء حتى العاشرة. ما يجري هو “لعبة لتغييب الضحية”، يضيف ناصر، مخيلات الرسامين لا تشحن الردميات ولا تجرف أنقاضا، هي ثلاجة تحفظ الحدث من التعفن والتآكل وتبقيه طازجا على هيئىه الأولى.
كان ناصر يمارس فنه الرسم بشكل متقطع، لكن بعد 4 آب 2020 اعتكف في محترفه بشكل نهائي موكلا أعماله الاستثمارية للآخرين. وعن هذا القرار يقول “أريد أن تكون بصماتي في الحباة بالرسم وليس بالأعمال التجارية”.
كثيرون دونوا انطباعاتهم عن لوحات ناصر عجمي، الشاعر بلال خبيز كتب: “ في العادة، ينحو الفنانون إلى إعادة تمثيل حياة الموتى. أكان الميت رجلا أو امرأة أو مدينة أو مرفأ. وفي بيروت يمكن القول أن مكانا متسعا وكبيرا منها قد قضى نحبه في انفجار 4 آب الشهير. ولو كان ثمة أمل ما في بقاء هذا البلد أو عودته إلى التنفس، لوجب على الفنانين أن يعيدوا رسم ما تهدم، وإحياء ذكرى من مات. لكن لوحات عجمي تعلن العكس: نريد أن نقيم نصبا لأطلالنا. أطلال حيواتنا وذكرياتنا وبيوتنا وكتبنا ولوحاتنا”.
بثينة سليمان التي تابعت اعمال عجمي كتبت “ أراد ناصر من خلال لوحاته أن يقول لنا أن ما بقي هو الخراب، ذلك الخراب الذي طال الناس والمكان والأفكار. الخراب الملون بدم الضحايا وبدموع الناس، الخراب الذي لا يزال واقفاً دون قمحة، دون لقمة الفقراء، دونه مدينة تضيق بها الحياة. الرجل الوحيد الذي يقف أمام الخراب في لوحة ناصر لا يملك الكثير من الخيارات، إنه هناك عالق إلى أن يدير ظهره ويرحل”.
ذات فائدة، أن يباغتنا ناصر عجمي بمعرضه، فالإعلام بكل أدواته بات يلحق ضررا بقضية انفجار بيروت، صارت هذه القضية مضجرة على يديه عن عمد أو عن غيره، وهذا ما تريده السلطة. فالضجر يفقد أي حدث روحه ومعناه، وحده الفن قادر على تدوير المشاعر وإعادة انتاجها على صورتها الأولى.. هذا ما فعله ناصر على جدران مشغله.