ليست كمثلها ليلة ولا كيومه يوم.. حين سقط بشار الأسد
ليلة السبت – الأحد الماضيين ليست كمثلها ليلة، ويوم الأحد لم يكن كيومه يوم، في حياة اللاجئين السوريّين في عرسال، وليس في 54 سنة، تاريخ معاناتهم من نظام الطغيان والديكتاتوريّة. الحرّيّة تقترب ليلًا، “ادرينالينها” يصل إلى حدود السماء، تشتعل الرؤوس حماسةً، الكلّ يَتَرقّب هاتفه أو شاشة التلفزيون، بعضهم ينادي على خبرٍ وصله من مجموعات الـ “واتساب”: “لا تناموا لا تناموا قربت قربت”. قرابة السادسة والربع صباح الأحد بركان بشريّ ينفجر، أبواق سيّارات، أصوات درّاجات ناريّة، مفرقعات كثيفة، أصوات رصاص وطلقات ناريّة، “لقد سقط الطاغية”، كيف؟ لماذا؟ لا أحد يجيب، لا أحد يعرف ولا أحد يصدّق.
فرحة هستيرية للاجئين
منذ صباح الأحد ومخيمات اللاجئين السوريّين في بلدة عرسال (نحو 80 ألف لاجئ سوريّ موزّعين على 143 مخيّم ومئات البيوت) تعيش فرحة هستيريّة، أطفال صغار يحملون الأعلام التي رسموها على الأوراق ويركضون بها، رجال ونساء وشيوخ وشبّان، إنَّه “جنون الفرح” بكلّ ما للكلمة من معنى. يسأل الحاج أبو علي الزهوري البالغ 71عامًا من مدينة القصير السوريّة “54 سنة وهالنظام المجرم داعسنا، قتلنا، شرّدنا، هتك أعراضنا، ما بيحقّلنا نحتفل 54 ساعة؟”.
شعور الفرح بالحرّيّة والتحرّر الذي يراه الإنسان في عيون السوريّين، تستعصي حروف اللغة العربيَّة على صياغته كلماتٍ وجُمَلًا، كيف للقلم أن ينقل شعور طفل يتيم بسقوط قاتل أبيه؟ كيف للكلمات أن تصف شعور امرأة تعرّضت للاغتصاب أمام زوجها أو أهلها؟ كيف لأمٍّ انتظرت وتنتظر عودة ابنها أو أبنائها ولم يعودوا؟ أليست المشاهد والصور الآتية من سجن صيدنايا الوحشيّ أكثر إنباءً من الكُتُبِ؟
كيف للكلمات أن تصف شعور امرأة تعرّضت للاغتصاب أمام زوجها أو أهلها؟ كيف لأمٍّ انتظرت وتنتظر عودة ابنها أو أبنائها ولم يعودوا؟ أليست المشاهد والصور الآتية من سجن صيدنايا الوحشيّ أكثر إنباءً من الكُتُبِ؟
الحمدلله عشت وشفت
جيل ما بعد العام 2000 ربّما لم يتسنّ له أن عيش الظلم وفنونه في الداخل السوريّ، إنّما عاشه وذاق ذلّه في مخيّمات البؤس والفقر والتشرّد وضياع الحاضر والمستقبل وحتّى الأوراق الثبوتيَّة الشخصيَّة بعضهم محروم منها، بينما من هم أكبر ذاقوا مرارة قمعه وفنون تعسّفه وجوره.
يشكر الحاج أبو حسين بُرُّو (87 عامًا) ربَّه أنَّه عاش حتَّى هذا اللّحظَة، يقول في حديث وجداني مع “مناطق نت”: “أشكر الله سبحانه وتعالى أنَّه أحياني حتّى رؤية نهاية نظام الظلم والطغيان وسقوطه. رأيت الشعب السوريّ كيف يَتَحرَّر، وفي قادم الأيام سيبني بلده ودولته بحرّيَّة وعدالة، الآن سأموت مطمئن القلب والبال”.
أمّا عن الأهوال والفظاعات التي عاشها وعانى منها الشعب السوريّ فيقول الحاج بُرُّو: “ماذا سأروي لكم يا ولدي؟ كُلَّ صفحات كتب التاريخ لن تتّسع لكتابة فظاعات “بيت الأسد”، المآسي بعدد أفراد الشعب السوريّ، كلّ شجرة، كلّ حجر، كلّ شارع وبيت، كلّ ذرّة تراب من تراب سوريّا تحمل قصّة ظلم وحزن عن شعبنا الصابر”.
بعد شكره أهل بلدة عرسال “الطيّبين على 13 عامًا من الإيواء وحسن الضيافة للاجئين السوريّين يخبرنا أنّ أمنيته الأخيرة هي “أن يكون في العمر بقيّة كي أعود وأموت في بيتي وفي أرضي وفي بلدتي ووطني وليس مشرّدًا غريبًا، ووصيّتي لأولادي إن مِتُّ قبل العودة بأن ينقلوا جثّتي إلى بلدتنا”.
سنذهب لنبني حياة جديدة
على مدار 13 عامًا هي عمر اللجوء السوريّ في لبنان، نَمَت على جدرانها وفي أروقة خِيَمِها حكايا وقصص، بعضها فَرِحٌ جميل، وبعضها الأخر يعتصر القلوب ألمًا ووجعًا.
محمّد درويش (24 عامًا)، جاء مع أهله إلى بلدة عرسال اللبنانيّة قبل أن يتمّ الـ 11 من عمره، منذ شهرين عقد قرانه على ملاك عودة وعمرها 19عامًا، هي صبيّة سوريّة من بلدة فليطة المجاورة لبلدته السِحِل في القلمون السوريّ، لم يُصَدِّقا أنَّ النظام في بلدهما سقط، وأنّهما سيعودان زوجين بعد مجيئهما إلى لبنان طفلين صغيرين.
يروي محمّد لـ “مناطق نت” بحرقة وألم وفرح وتردّد حقيقة شعوره فيقول: “لا أعرف ماذا أقول، فرحي كبير مثل كلّ السوريّين، لكنّني غدًا سأذهب إلى بلدتي بزيارة سريعة، تمهيدًا لعودتنا جميعًا، سأذهب وأنا خائف، لم أعد أتذكّر ضيعتي جيّدًا، هل تغيّرت بعد كلّ هذه السنين؟ هل سأعرف وأذكر طريق بيتنا؟ كيف سألتقي برفاق وأصدقاء الطفولة، هل سنتذكّر بعصنا؟ الأقرباء الجيران، سُبُل الحياة والعيش، فرص العمل وتحصيل الرزق، كُلُّها أسئلة تتصارع في رأسي، لا إجابات لها الآن، لكنّ العودة حتميَّة” يختم درويش.
عروسه ملاك الجالسة بقربه، تمسح دموعًا ذرفتها عيناها لا شعوريًّا وهي تستمع إلى حديث زوجها، تتنهّد وتقول: “جئت إلى هنا طفلة صغيرة، لا أذكر إلّا قليل القليل من بلدتي، صحيح أنَّني عشت هنا وكبرت هنا وتزوجت هنا، وكل ما في ذاكرتي تعلّمته هنا، لكن في النهاية سوريّا هي بلدنا ووطننا ويجب أن نعود إليها. جئت طفلة وأعود بعد أيّام زوجة لرجل من خارج بلدتي هناك، اتّفقنا أنّنا سنعود كي نؤسّس بيتنا في بلدتنا الجديدة، جديدة علينا معًا، نبدأ حياة جديدة صحيح، لكنّها حياتنا الفعليَّة الثابتة بإذن الله، حتَّى إنّنا نفكّر أنا ومحمّد إذا رزقنا الله بمولود يجب علينا تسميته باسم مرتبط بالثورة والتهجير والعودة”.
محمد: هل تغيّرت بعد كلّ هذه السنين؟ هل سأعرف وأذكر طريق بيتنا؟ كيف سألتقي برفاق وأصدقاء الطفولة، هل سنتذكّر بعصنا؟ الأقرباء الجيران، سُبُل الحياة والعيش، فرص العمل وتحصيل الرزق، كُلُّها أسئلة تتصارع في رأسي
“عِشرة عمر”
خلال سنوات اللجوء القاسية نشأت علاقات صداقة وتقارب بين المجتمع المضيف والمجتمع اللاجئ، تزاوج ومصاهرات، شراكة عمل، صداقات شخصية وغيرها من العلاقات الإنسانيّة الطبيعيَّة.
محمّد الحجيري ابن الـ 33 عامًا، من بلدة عرسال البقاعيّة، عاش صداقة 10 سنوات مع شاب السوريّ يدعى أحمد الخطيب ابن القلمون، يروي لـ “مناطق نت” ما حصل معه صبيحة يوم الأحد الماضي فيقول: “قبيل السابعة من صباح الأحد، كنا لا نزال نائمين، سمعنا قرعًا قويًّا على باب بيتنا، نظرت زوجتي من الشبّاك وقالت إنّه أحمد؛ ما إن هممت بفتح الباب حتّى غمرني بسرعة وبشوق مودّعًا ويقول: -خفت ما لاقيك جايي ودّعك قبل ما إمشي- سألته باستغراب ما بك؟ ماذا يجري لك؟ صرخ قائلًا: – لك سقط بشّار سقط بشّار الثوّار فاتوا عالشام وانتصرت الثورة”.
ويتابع: “عملت على تهدئته قليلًا لكنّه أصرّ -الشباب ناطريني نمشي تذكّر دايمًا إلك بيت بسوريّا وأهل وأخ إنت وأيّ حدا بيخصّك. بعد ساعات عدة اتّصل بي من الشام يصرخ “مو مصدّق مو مصدّق تحرّرنا تحرّرنا”. يردف الحجيري “عِشرة عشر سنين من الصداقة والأخُوًّة، عشرة عمر بيننا، راح نحافظ عليها كلّ عمرنا”.
في جولة على معظم مخيّمات اللاجئين السوريّين في عرسال، تحدثنا إلى الجميع صغارًا وكبارًا، نساءً ورجالًا، سمعنا منهم الكلمات عينها “ما مصدّقين، مو مزبوط، مو طبيعي، مستحيل، شي غريب، كيف سقط، وين راح؟”.
لا يزال اللاجئون السوريّون في لبنان تحت تأثير “سَكْرَة” الفرح والبهجة والنصر، عسى أن تكون “الفكْرَة” بداية البناء الفعليّ لدولةٍ سوريّة مدنيَّة عادلة، جامعة وحاضنة لكلّ السوريّين بكلّ تلاوينهم وفق عقد اجتماعيّ إنسانيّ جديد، دولة تعمل على لَمِّ شملهم تحت سقف القانون، تبلسم جراحهم، تواري شهداءهم، تسير بهم جميعًا نحو الغد المشرق بعد مسح الماضي العفن من حياتهم وذاكرتهم.